الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو بيان لبعض دواعى الإيمان بالله فى نفس النبىّ، وفى نفس كل مؤمن بالله، وهو أن الخوف من عذاب الله يوم القيامة، وطلب النجاة من هول هذا اليوم، هو داع صارخ يدعو الإنسان إلى أن يهرب من هذا البلاء، إلى الإيمان بالله، واستجابة دعوته التي يدعو بها عباد الله.. فمن أبى، وعصى أن يستجيب لله ويؤمن بالله، فهذا يوم الحساب أمامه، والنار مثواه.
وقوله سبحانه: «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ» أي أن من ينجو من عذاب هذا اليوم، ويسلم من الوقوع تحت وطأته- فهذا من فضل الله عليه، ورحمته به، وذلك بتوفيقه إلى الإيمان بالله، والولاء له، والامتثال لأمره.. «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» إذ لا فوز بعد هذا الفوز، ولا ربح أعظم من هذا الربح.. حيث خلص الإنسان بنفسه من العذاب، ثم لم يقف به الأمر عند هذا الحدّ من الفوز والفلاح، بل أخذ بيده بعد هذا إلى جنات النعيم، وإذا هو فيمن رضى الله عنهم، وأفاض عليهم الجزيل من عطاياه ومننه.. «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» .!
الآيات: (17- 19)[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
التفسير: المسّ: لمس الشيء برفق..
وقوله تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» عرض لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه هو الذي بيده النفع والضرّ، وأن أقسى ما يصيب الإنسان من ضرّ هو لمسة خفيفة، محفوفة برحمة الله ولطفه، ولولا ذلك لما احتملها بشر.. وكذلك ما ينال الإنسان من خير، هو قطرة من فضل الله، محفوفة بحكمته وتقديره، ولولا ذلك لفاضت فملأت على الإنسان دنياه، ولما وجد لنفسه متنفّسا فيها..
فإذا مسّ الإنسان ضرّ فهو من الله سبحانه، ولا يرجى لكشف هذا الضرّ غيره.. لأنه مما قضى به، ولا رادّ لقضائه الذي قضاه، إلا ما كان من لطفه ورحمته اللذين يحفّان بقضائه، فيمضى على ما قضاه، ولكن تقوم إلى جانب ذلك فى كيان الإنسان مشاعر تستقبل هذا القضاء برضى، وتحتمله فى صبر، حتى يأذن الله برفع هذا الضرّ، وكشفه.. وهذا هو بعض اللطف فى القضاء.
وإذا مسّ الإنسان خير، فهو كذلك مما قضى الله به، وأراده، ويسرّ الإنسان له.. وفى تقديم الشر على الخير هنا ما يملأ مشاعر الإنسان خوفا من الله، وتعلقا به، واتجاها إليه، فإن الإنسان فى الخير كثيرا ما يذهل عن الله، ويغفل عن ذكره.. ولكنه فى حال الشدّة والضرّ يذكر الله ويهتف به، ويمدّ يده إليه كما يقول سبحانه:«وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» (8: الزمر) .
وكما يقول: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» (83: الإسراء) .. فما أقلّ أولئك الذين يجدون فى
نعم الله طريقا يصلهم إلى الله، ويقرّبهم منه، ويقيمهم على الشكر والحمد، والله سبحانه وتعالى يقول:«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) أما فى البلاء، وأما فى الشدة، فإن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، يذكرون الله، ويهتفون به، حتى فرعون، فإنه حين أدركه الغرق، قال آمنت! ..
وهكذا الناس.. تدنيهم الشدائد من الله، وتقربهم منه.. وإنها لنعمة تلك الشدائد، التي توجّه الإنسان إلى الله، لو أنه استقام على طريقه إلى الله، ولم يكن من الخائنين لنفسه، الذين يمكرون بآيات الله..
قوله تعالى: «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» أي أنه ذو السلطان القائم فوق عباده، يملكهم ولا يملكونه، ويقضى عليهم ولا يقضون عليه، ويعطى ويمنع، ويعزّ ويذل:«قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (26: آل عمران) .
وليس سلطان الله سبحانه، القائم فوق عباده، الآخذ على جوارحهم ومشاعرهم ومدركاتهم- ليس بالسلطان المستبدّ الجهول، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.. وإنما هو سلطان قائم بالعدل، والحكمة، والعلم والقدرة، وما كان كذلك، فهو سلطان الرحمة والإحسان..
وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» إشارة إلى هذا السلطان القاهر الغالب، وأنه بيد حكيم خبير، يضع كل شىء موضعه، بحكمة الحكيم، وخبرة الخبير، فيأخذ مكانه الذي هو له، فى أحسن وضع، وأكمل صورة، فى ملك الله:«الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ.. الْبَصَرَ.. هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» (3: الملك) .
وقوله تعالى: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» هو استدعاء لهؤلاء المكابرين المعاندين، الذين ينظرون إلى هذا الوجود على أنه لهم وحدهم، وأن كل ما فيه تبع لأهوائهم:«وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» (71: المؤمنون) .. فإذا سمع هؤلاء المكابرون هذا النّداء، وقيل لهم:«أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» عندكم، تأخذون بشهادتهم عليكم، فى الحكم بينى وبينكم فيما أدعوكم إليه، من الإيمان بالله، وأنى رسول الله إليكم، أحمل إليكم كلمته، وأوجه وجوهكم وقلوبكم إليه؟ ما الشاهد الذي تكبرون شهادته، وتنزلون على ما يشهد به؟
ولا يمهلهم الله أن يجيبوا، لأنهم لا يجيبون إلّا ضلالا، ولا يقولون إلا زورا وبهتانا، بل يلقاهم بالشاهد الذي إن لم يقبلوا شهادته اختيارا قبلوها قسرا واضطرارا، لأنه الشاهد الذي يحكم ولا معقب لحكمه، والقاضي الذي يقضى ولا راد لقضائه.. إنه هو الله ربّ العالمين.
«قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» .
هذا هو الشاهد، والحكم بينى وبينكم، فردّوا عليه شهادته إن استطعتم! وقوله تعالى:«وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» تلك هى القضية التي بينى وبينكم، وقد أدليت بشهادتى فيها، بين يدى أحكم الحاكمين..
«وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» من ربّ العالمين «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» وأحذركم من عذاب يوم عظيم، إن أنتم لم تصدقوا برسالتى، ولم تؤمنوا بما بين يدىّ مما أوحى إلىّ، ولست رسولا إليكم وحدكم، بل إن رسالتى إليكم وإلى كل من تبلغه، وتصل إليه بلساني، أو بلسان من يدعو بها، فهى رسالة عامة للناس جميعا، فمن بلغته ولم يؤمن بها، فقد حقّ عليه ما حقّ على الكافرين منكم «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» وفى عطف قوله تعالى:«وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» على قوله تعالى: «اللَّهُ
شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»
تفويت على أولئك المكابرين المعاندين أن يجدوا فسحة من الوقت يردّون بها الشاهد الذي أشهده الرسول عليهم، وإلغاء لكل شاهد يقيمونه فى هذا الموقف غير الله سبحانه وتعالى، وقطع للجاجهم وعنادهم، وإمساك بآذانهم أن تنحرف عن هذا الموقف الذي هم فيه.
وقوله تعالى: «أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى» هو تقرير لهم من الرسول، وهم فى هذا الموقف، بعد أن أوقفهم بين يدى الله، وأشهده عليهم..
ومع هذا، فإن العناد لا يزال مستوليا عليهم، وإن اللجاج لا يزال يضرب بأمواجه فوقهم..
ولهذا، فإن الرسول الكريم، لا ينتظر جوابهم، إذ كان جوابا منحرفا عن الحق، بعيدا عن الهدى.. فليتركهم وشأنهم، وبين أيديهم دعوة الحق، وأمامهم طريق الهدى، فإن أطاعوا فقد اهتدوا، وإن تولّوا فإنما هم فى ضلال وخسران.. أما الرسول الكريم، فعلى الطريق الذي أقامه الله عليه.. «قُلْ لا أَشْهَدُ» أن مع الله آلهة أخرى. «قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» .
وفى قوله تعالى: «قُلْ» تثبيت للنبى من ربّه، ووضع للكلمة التي ينبغى أن يقولها، على لسانه وفى قلبه.. يتلقاها من الله، فتلتقى مع الكلمة التي يريد أن يقولها، فإذا هى نور فى قلبه، وقوة فى عزمه، وطمأنينة فى صدره، ولطف عظم من ألطاف ربه.. وفى تكرار «قل» مع كل قول من الله تعالى لهم، كمال عناية، وتمام رعاية من الله سبحانه «للنبى» حيث يجد مع كل نفس يتنفّسه، وحي السماء يقول له: قل.. قل.. قل.. وبهذا يشتدّ عزمه، وتثبت فى لقاء الكافرين قدمه.