الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«ولكن إله بينه وبين سائر العقول الفردية قسط مشترك، هو الاشتراك فى إدراكات بعينها، لكنه فى الوقت نفسه يتميز بفردية مستقلة، كما يتميز كل فرد من الأفراد الصغرى بفرديته المستقلّة..
فالصورة، أقرب إلى سلّم متدرج من عقول.. فعقل أكبر من عقل، لأنه يدرك إدراكات هذا العقل ثم يزيد عليها، ثم عقل ثالث أكبر من هذا العقل، فرابع أكبر.. وهكذا دواليك صعودا، دون أن يتحتم أن يكون هناك عقل مطلق يسع كل شىء.. فالعقل الأعلى فيه كل ما فى الأدنى مع الاحتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى» .
ومنطق هذا القول يقضى بأن لا تنتهى درجات السلّم العقلي عند نهاية ليس بعدها شىء، بل هناك احتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى.. ومع وجود هذا الاحتمال، فإن الواقع المحقق هو أن هناك عقلا أعلى يسع العقول جميعا، وهو الذي يمكن أن يطلق عليه العقل المطلق، مادام ليس هناك ما هو فوقه.
فإذا وقع الاحتمال المتوقع، وهو ظهور عقل أعلى، كان هو العقل المطلق..
وهكذا.
ولعل ماحدا بوليم چيمس إلى هذه الفكرة التي تجعل العقول متصاعدة، دون أن تضيع فى ذلك شخصية العقل الأدنى فى العقل الأعلى- هو أنه أراد أن يحتفظ لكل فرد بإرادته المستقلة، لتقع عليه مسئوليته الخلقية.. وهذا ما يجعل لكفاح الأفراد نحو الخير معنى، لأنه يجعل فى مستطاع الأفراد تغيير ما هو كائن، إذا كان ذلك الكائن شرا، ليصبح أفضل مما هو وأكمل..
الله والإنسان.. مرة أخرى
لا يستطيع عاقل أن ينكر إرادة الإنسان المستقرة فى كيانه، والتي بها
يتعامل مع الحياة، فيقبل على الشيء أو يعرض عنه، حسب تقديره وإرادته..
ولا يستطيع مؤمن بالله أن ينكر قدرة الله الشاملة، وإرادته النافذة، وأن كل شىء بيد الله، وتحت مشيئته..
هذان الأمران يكاد يتفق عليهما جميع المؤمنين بالله، وهما: أن لله إرادة وقدرة، وأن للإنسان إرادة وقدرة..
ولكن الخلاف يقع ويشتد بين المؤمنين بالله، حين ينظر الناظرون منهم إلى الإرادتين معا، وإلى القدرتين معا، فى مجال التصريف والعمل..
وقد رأينا ألوانا مختلفة من التفكير، ومذاهب متعددة من الرأى، فى تقدير إرادة الإنسان وقدرته، إلى جانب إرادة الله وقدرته..
فذهب قوم إلى أن إرادة الإنسان وقدرته لا أثر لهما إزاء إرادة الله وقدرته، بينما ذهب أقوام إلى عكس هذا، فقالوا: إن إرادة الإنسان لا تلغيها إرادة الله، ولا تعطّل عملها.. فالإنسان حرّ مختار يفعل ما يشاء، كيف يشاء.
وقد كان يمكن أن يمضى القول بهذا الرأى أو ذاك، أو بالرأيين معا، دون أن يبدو أثر ظاهر فى واقع الحياة إذا انتقلت من رأى إلى رأى.. فسيّان أن يكون الإنسان فى واقعه يعمل فى أمور مطلقة يخلقها كيف يشاء، ويدبّرها حيث يريد، أو فى أمور قدّرت من قبل، وأخذت صورتها كاملة قبل أن يلتقى بها- مادام الإنسان لم يؤت قدرة على كشف الغيب والتحقق من نتائج الأعمال قبل معالجتها ووقوعها..
إن الإنسان يعالج أمور الحياة حسب تقديره، ويمضيها حسب إرادته، ثم تجىء نتائجها التي لا يعلم علمها إلا بعد أن تقع.. وكون الإنسان يعمل فى أمور قدّرت، أو فى أمور لم تقدّر، فإن ذلك لا يؤثر على إرادته العاملة، ولا يتدخل تدخلا محسوسا فى تدبيره أموره.
أقول: إن القول بأن الإنسان مختار أو مجبر، والقول بأنه يعمل فى أمور مقدرة أو غير مقدرة- إن هذا القول أو ذاك لا يظهر لهما أثر إلا إذا نزلت أعمال الإنسان منزل الحساب والجزاء، حين يحاسب على عمله، فيجزى عن الخير خيرا، وعن الشر شرا.
هنا يتغير الموقف، ويصبح للقول باختيار الإنسان أو جبره، وللقول بالقدر أو بألّا قدر- نتائج خطيرة، يتعلق بها مصير الإنسان، وتتقرر بها سعادته أو شقاؤه فى الدار الآخرة..
فإذا قيل إن الإنسان حر مختار، كان معنى هذا أنه مسئول عن عمله الحسن أو السيّء، وأنه سينال ثوابه وعقابه على ما قدم من عمل، ولا حجة له أمام الله....
وإذا قيل إنه مجبر مكره، وإنه يعمل بإرادة غالبة، وبقدر سابق، كان معنى هذا ألّا تبعة عليه، وبالتالى ألا ثواب على حسن، ولا عقاب على سيىء! ولكن الذي يقال هو غير هذا..
فهناك دار الآخرة، وفيها ثواب وعقاب، وجنة للمؤمنين المتقين، ونار للعصاة المذنبين.
وهنا تجىء التساؤلات والاعتراضات..
ما ذنب الإنسان؟ وكيف يسأل عن أعمال مقدورة، محكوم عليه أن يعملها؟ ..
وهنا تبرز مشكلة القضاء والقدر، وتصبح هذه المشكلة فى مجال النظر والامتحان.
وهنا تتفتح للكثير من الناس أبواب المنازعة فى تدبير الله وفى حكمته،
وفى قضائه وقدره..
فمن مستسلم لحكمة الله وتدبيره، وقضائه فيه، مؤمن بأن ما أصابه من خير أو شر فهو بقضاء الله وقدره، راض بما قسم الله.. ومن متخبط متسخّط، يضيف إلى نفسه الأعمال الطيبة الناجحة، ويرمى القدر بما لا يرضيه وما لا يرضى عنه من الأعمال..
وقد كان إبليس- لعنه الله- أول من احتج «بالقدر» بعد أن عصى أمر ربه، فلم يسجد لآدم كما أمره، فلما حل غضب الله عليه، لم يرجع على نفسه باللأئمة، ولم يستشعر الندم فيتوب كما تاب آدم، بل غلبت عليه شقوته، فقال:
«رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» .
وقد تلقى كثير ممن غلب عليهم الشقاء من بنى آدم، هذه الحجة الضالة، عن إبليس، فتخلّوا عن كل خير، وغرقوا فى كل ضلال، وبين أيديهم هذه الحجة الخادعة، التي يرددونها عند كل قولة ناصح، ينصح لهم، ويدعوهم إلى الإيمان والهدى، فيقولون ما حكاه الله عنهم فى قوله تعالى:«لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» (35: النحل) وقوله: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» (148: الأنعام) وقوله سبحانه: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» (47 يس) انظر كيف يفترون على الله الكذب؟ يؤمنون بقضائه وقدره، ويحتجون بمشيئته، ثم يكفرون به؟
فالذين يحتجون بالقدر هذا الاحتجاج، لا يؤمنون بالله، ولو آمنوا بالله لآمنوا بقضائه وقدره، ولامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه..