الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ» هو بيان من الله سبحانه وتعالى، يفرّق به بين حكم صيد البرّ وصيد البحر.. فإذا كان صيد البر قد أقيم عليه هذا الحظر فى حال الإحرام، فإن صيد البحر حلّ مباح، لا حرج على المحرم أن ينال منه ما يشاء، فيصطاده، ويبيعه، ويأكل منه.. «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ» أي والأكل منه.. «مَتاعاً لَكُمْ» أي زادا لكم تتزودن به، وتطعمون منه.. «وَلِلسَّيَّارَةِ» أي وللسائرين الذين ليسوا فى حال إحرام.. أي أن صيد حيوان البحر يستوى فيه المحرم وغير المحرم، حيث لم يكن للإحرام أثر فى هذا النوع مما يصاد من حيوان.
وقوله تعالى: «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» هو توكيد لحرمة صيد البر فى حال الإحرام، واحتراس من أن يكون رفع الحظر عن صيد البحر مؤذنا يرفع الحظر عن صيد البر، الذي تقرر حكمه من قبل، وفى هذا مزيد عناية بتقرير هذا الحكم الواقع على صيد البر وحراسة له من أن يقع فيه لبس، أو شك، ولو على سبيل الاحتمال البعيد.
وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» هو حراسة مشدّدة على الحدّ الذي أقامه الله سبحانه وتعالى على حرمة صيد البرّ فى حال الإحرام أو فى الحرم.. وتلك الحراسة هى الخوف من الله، والتحذير من عقابه للخارجين على حدوده، والمعتدين على حرماته..
الآيات (100- 97)[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أنها تحدّث عن مواطن حرمات الله، التي بينت الآيات السابقة بعضا منها.
وقوله تعالى: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» .
القيام: التقويم، والإصلاح.
أي أن الله سبحانه وتعالى جعل الكعبة، والبيت الحرام، المقام عليها- جعلها موطن إصلاح وهداية ورشاد للناس، حيث جعلها حرما آمنا، يفيض الأمن منها على كل كائن، من إنسان أو حيوان أو نبات.. بل لقد شمل هذا البلد كله الذي أقيم حول الكعبة، واحتمى بحماها، فكان هذا البلد أيضا حمى لكل من لاذبه، واحتمى فيه، وسكن إليه، استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام:«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» .
وقوله: «وَالشَّهْرَ الْحَرامَ» أي والشهر الحرام كذلك جعله الله ظرف أمن وسلام، وإصلاح لأمر الناس، حيث لا قتال فيه، والمراد بالشهر الحرام، الأشهر الحرم.. ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم ورجب، والتعبير عنها، بالشهر الحرام باعتبارها كيانا واحدا فى حرمة القتال فيها، وإن تفرقت أزمانا، واختلفت أسماء.. فهى بمنزلة شهر واحد.. وفى هذا ما يقيم شعور المسلم على حال واحدة فيها، وألا ينعزل عن هذا الشعور بانتقاله من شهر إلى شهر.. بل إن من الخير له أن يصل بعيدها بقريبها.. فشهر رجب وإن سبق الأشهر الثلاثة بشهرين،
وتأخر عنها بستة أشهر، جدير به أن يوصل بها من طرفيه، وبهذا يكون العام كله شهر حرام، لا قتال فيه، وإن كانت الأشهر الحرم قد أفردت بهذا الحكم، فهو حكم واجب فيها، مستحبّ فى غيرها..
قوله تعالى: «وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» معطوف على الشهر الحرام، الذي هو معطوف على الكعبة.. أي أن الحيوان المساق إلى البيت الحرام هديا له، والقلائد التي يقلّدها ويعلّم بها، هى من حرمات الله، التي ينبغى ألا يتعرض لها أحد بأذى أو عدوان، وفى هذا تأديب للناس، وتهذيب لهم، وإصلاح لأمرهم.. حيث يعفّ الإنسان عن الاعتداء على حرمات الناس، إذا هو امتثل أمر الله وكفّ يده عن العدوان على حرماته.. فى رعاية كل حرمة من هذه الحرمات هداية للناس، وتقويم لانحراف المنحرفين منهم، وتدريب لهم على الامتثال والطاعة، ورعاية الحرمات فيما بينهم. وبهذا تكون كل تلك الحرمات:
«الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد» - قياما للناس وتسديدا لسلوكهم فى الحياة.
قوله تعالى: «ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. الإشارة هنا إلى هذه الحرمات، التي جعلها الله قياما للناس، وإصلاحا لهم.. وقوله تعالى «لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» تعليل للحكمة التي تختفى وراء هذه الحرمات التي بيّن الله سبحانه وتعالى معالمها، وحدد حدودها، وأنها منصوبة للمؤمنين لتكون امتحانا لإيمانهم، وابتلاء لما فى قلوبهم من توقير لله، واحترام لحرماته، وذلك لا يكون إلا لمن آمن بالله، واستيقن من أنه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه شىء.. فمن لم يؤمن بالله هذا الإيمان
لم يقم فى كيانه شعور بمراقبة الله، أو التوقي من العدوان على حرماته، والتعدي على حدوده..
فهذه الحرمات التي نصبها الله لأعين المؤمنين هى تدريب لهم على التعرف على الله، حيث ينتهى بهم الوقوف إزاءها، وتحريم حرماتها إلى العلم بالله، وأنه سبحانه يعلم ما فى السموات وما فى الأرض، وأنه بكل شىء عليم..
وإذن فليس ثمرة هذه الحرمات فيما يجنى منها من إشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس، بل إنها- مع هذا- تفتح فى قلب المؤمن طريقا إلى الله، يشهد منه سعة علمه، ونفوذ سلطانه، إلى ما تكن الضمائر، وما تخفى الصدور.
وقوله: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو تعقيب على هذا الحظر الذي أقامه الله تعالى على حرماته، وحذّر الناس من العدوان عليها.. فهناك عقاب شديد راصد لمن اعتدى على حرمات الله.. وهناك غفران ورحمة لمن تاب ورجع إلى الله من قريب، واستغفر لذنبه، وندم على ما فرط منه.
وقدّم عقاب الله هنا على مغفرته، لأن ذلك فى مواجهة حدود أقامها الله، وحذّر من مجاوزتها والاعتداء عليها، فناسب ذلك أن يجىء العقاب أولا لمن اعتدى على هذه الحدود، ثم تجىء الرحمة والمغفرة لمن أثم وأذنب ثم تاب واستغفر..
وقوله تعالى: «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» هو تنبيه للناس إلى أنه لا سلطان لأحد عليهم فيما يأتون من طاعات، أو يرتكبون من آثام، إلا أنفسهم، وما فى قلوبهم من إيمان، وما فى كيانهم من عزائم.. إذ ليس مع أوامر الله ونواهيه قوى مادية تقهر الناس على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وإنما كل ما هنالك، هو دستور سماوى، وقانون إلهى، يحمله رسول من
الله إلى عباد الله، ويبيّن لهم ما حمل إليهم من ربّه.. ثم يتركهم لأنفسهم.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ومن شاء فليستقم، ومن شاء فلينحرف:
«ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» وليس من رسالته أن يقهر الناس على الخير الذي يحمله إليهم: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) .
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» هو بيان لما بعد البلاغ الذي هو من عمل الرسول.. فهناك بعد أن يبلغ الرسول ما أنزل إليه من ربّه، يتولى الله سبحانه وتعالى مراقبة الناس فيما بلغهم إياه رسوله، واطلاعه سبحانه على ما يكون منهم من طاعة أو عصيان.. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» ..
لا تخفى عليه منكم خافية، «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (40: الرعد) .
وقوله تعالى: «قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» هو إلفات للناس إلى ما بين الطيب والخبيث، من بعد بعيد. واختلاف شديد، فى الآثار التي تتبع كل منهما، وفى الثمار التي يجنيها الزارعون لهما.. من خير أو شر، ومن طيّب أو خبيث.
فالطيب وإن بدا قليلا فى كمّه، هو كثير فى كيفه.. إنه نبتة من نبّات الحق، يزكو مع الزمن، ويعلو مع الأيام. إنه أشبه بالكلمة الطيبة، والشجرة الطيبة، لا تغرب شمسه، ولا تنقطع موارد الخير منه.. «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (54- 25: إبراهيم) .
والخبيث وإن زها وازدهر، وانداح وامتدّ، هو كثير فى كونه، ضئيل
فى قدره.. لا ظلّ له ولا ثمر فيه.. «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» (26: إبراهيم) .
هكذا الطيب والخبيث، فى كل شىء، ومن كل شىء.. فى الناس، وفى الحيوان، والنبات والجماد، وفى المعاني والمحسوسات.. وفى القول وفى العمل..
الطيب حياة دائمة متجددة لا تموت أبدا.. والخبيث موات لا يمسك ماء ولا يطلع نبتا..
فالذين يستخفّون بالطيّب، لضمور شخصه، أو خفوت صوته، أو احتجاب ضوئه- إنما هم مخدوعون فى أبصارهم، مصابون فى بصائرهم، لا يرون من الأشياء إلا ظاهرها، ولا يعلمون من الأمور إلا قشورها، أما الصميم فهم فى عمّى عنه، وأما اللّباب فهم على جهل به.. «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (7: الروم) .
وقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» هو دعوة إلى أصحاب العقول أن يستعملوا عقولهم، وأن يفيدوا منها فى التعرف على الحق والخير، والتعامل مع الطيب والحسن، ففى ذلك يكون الفلاح، ونجاح المسعى.
ودعوة ذوى الألباب إلى التقوى، هى الدعوة المرجوّ لها القبول والنجاح، حيث لا تحصّل التقوى إلا بالعمل الطيب، وحيث لا يتهدّى إلى الطيب، ولا يعمل له، ويتعامل معه، إلا أصحاب العقول السليمة، الذين احترموا عقولهم، وأخذوا بما تكشف لهم بصائرهم من معالم الحق والخير..