الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأى أبى علىّ الجبّائى وابنه أبى هاشم يقولان: «إن الله تعالى لم يدّخر عن عباده شيئا يعلم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتقوى.. من الصلاح والأصلح، واللطف، لأنه- تعالى- قادر، عالم، جواد، حكيم، لا يضرّه الإعطاء، ولا ينقص من خزائنه المنح، ولا يزيد فى ملكه الادخار.. ولا يقال إن الله تعالى يقدر على شىء هو أصلح مما فعله بعبده ثم لم يفعله.. والتكاليف كلها ألطاف!!» وواضح أن هذا القول يجعل أفعال العبد كلها مرضيّة عند الله، خيرها وشرها، لأن الله لم يدخر عن عباده شيئا من الصلاح والأصلح واللطف..
وإذن.. فلا خير ولا شر.. فالتكاليف- كما يقولان- كلها ألطاف، وما يأتى العبد منها وما يدع، إنما هو غاية ما أعطى الله العبد من قوى، وليس وراء هذا شىء يمكن أن يمنحه الله العبد غير الذي منح.
ونقول: هل على هذا يقال: إن العبد حرّ مختار، يفعل ما يشاء؟
نعم: إنه يفعل ما يشاء فى حدود هذه الطاقة التي أمدّه الله بها، والتي هى كل ما عند الله له.. كما يقولان! وإذن فلم يحاسب العبد ويعذّب على الشرّ الذي يفعله، وهو لم يفعل إلا بما مكن الله له منه، وأقدره عليه..؟
رأى النّظام
يرى النظام أن القدر خيره وشرّه منّا، وأن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هى مقدورة للبارىء تعالى.. ويرى النظام أن الله لا يقدر أن يخلق أكثر مما خلق بالفعل، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يحول بينه وبين أن يظهر كلّ ما عنده من الجود والجمال؟» .
ونقول: كيف يقف شىء أمام قدرة الله؟ وهل تقع هذه الأمور التي نراها شرّا إن لم تكن من تقدير الله؟ وهل يدخل على نظام هذا الملك شىء لا يريده الله؟
لقد ردّ أصحاب «النظام» أنفسهم على هذا، فقالوا: إن الله قادر على الشرور والمعاصي، ولكنه لا يفعلها لأنها قبيحة.
ونقول: إذا كانت تلك الأمور التي يصفونها بأنها قبيحة، هى قبيحة فعلا.. فلم يدعها الله سبحانه تدخل فى نظام ملكه الذي أقامه؟
هذا قول متهافت، لا يستقيم أوله مع آخره..
ونستطيع بعد هذا أن نقول: إن أقوال المعتزلة فى قدرة الإنسان لم تقم على منطق سليم، ولم نستقم على طريق واضح.
الله عادل.. ما فى ذلك شك.
ومقتضى هذا العدل أن تجزى كل نفس بما كسبت.. فالعبد كاسب لأفعاله، أي أنها جرت على يديه. وبمحض إرادته.. ولكنه مع هذا واقع تحت إرادة الله، خاضع لمشيئته.
وللنظام رأى فى إرادة الله، وأن معنى الإرادة عنده ليس هو معنى المشيئة، لأن الإرادة بمعنى المشيئة تستلزم حاجة من جانب المريد، ولهذا يقول:«إن الله إذا وصف بأنه مريد لأفعاله، فمعنى ذلك أنه خالقها ومنشئها، وإذا وصف بأنه مريد لأفعال عباده أو وقوع أمر، فمعنى ذلك أنه حاكم بذلك، أو آمر، أو مخبر» .
وهذا الفهم للإرادة بأنها تستلزم حاجة من جانب المريد، إنما هو فهم مقيس على المستوي الإنسانى، حيث إرادتنا محصورة فى دائرة حاجاتنا ومطالبنا..
فلا نريد إلا ما نحن فى حاجة إليه.. ذلك فهم يتفق مع عالم النقص الذي نحن فيه، فتكون إرادتنا متحركة فى هذا العالم حسب حاجتنا، ساعية إلى سدّ ما نشعر به من نقص.. إننا نريد كذا، لأجل كذا..
أما عالم الكمال، فما يصدر عنه لا يصدر لحاجة، وإن صدر بإرادة ومشيئة، ولن يصدر بغير إرادة ومشيئة.. إنه يجرى مع الحكمة التي يطلبها الكمال..
مما تقدم يمكن أن نقول:
أولا: إن المعتزلة قد بالغوا فى رفع قيمة الإنسان، وكادوا يجعلون منه إلها مستقلا بسلطان وجوده، لا يلتفت إلى ماوراء وجوده فى صراعه مع الحياة، وفى تقلبه بين خيرها وشرها.
ولا شك أن هذه «الانعزالية» عن العالم العلوي، تحرم الإنسان كثيرا من أمداد الاستعانة بالخالق جلّ وعلا، كما أنها تدفع داعية التوكل على الله، والرضا بقضائه وقدره، بعد أن ينفذ القضاء، ويقع المقدور، فيكون فى هذا عزاء جميلا عما وقع للإنسان مما يكره ويسوء.
ثانيا: أن المعتزلة فى دفعهم للإنسان إلى هذا الحدّ، قد جاروا على الإنسان نفسه، وخلّوا بينه وبين ذاته، وألزموه أمورا وحمّلوه أوزارا يلقى بها ربه فى غير رجاء، كما جعلوا صوالح أعماله حقّا ملزما لله، يطالبه به العبد فى غير حياء! وتلك حال يدخل فيها الضيم على الإنسان من كل وجه.. فإن أي إنسان مهما بلغ من التقوى والكمال، ومهما قدّم من خير وبرّ، فهو فى حاجة أبدا إلى فضل الله، وإنّه لن يدخل الجنة بعمله، لأن أعماله مهما عظمت لن تفى بالقليل من بعض نعم الله وفضله عليه.. وفى هذا يقول الرسول الكريم..
«إنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم» .. قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
ولهذا وجد كثير من أنصار المعتزلة حرجا فى الأخذ بقولهم هنا، من إطلاق قدرة الإنسان وإرادته..
فهذا إمام من أئمتهم، وهو «الجاحظ» لا يرضى أن يقرر مذهب المعتزلة فى هذه المسألة على هذا الوجه.. بل إنه ليصل إرادة العبد بإرادة الله.. يقول الجاحظ:«لا فضل للإنسان إلا بالإرادة» .
ومعنى هذا أن للإنسان إرادة، وأنه بغيرها لا يكون أحسن من الحيوان حالا، ولا أكرم منزلة..
ولكن هذه الإرادة التي يحملها الإنسان فى كيانه لا تعمل وحدها، هكذا مطلقة من كل قيد، فهى متصلة أولا بكيان الإنسان كله، وهى ثمرة من ثمرات التفاعل الذي يجرى فى هذا الكيان، الذي هو متصل بهذا الوجود كلّه، مقيد به، ومؤثر فيه، ومتأثر به.. وفى هذا يقول الجاحظ:
ومعنى هذا أن الإرادة التي يعمل بها الإنسان ليست كلها له، لأنها فرع العلم الذي يحصّله اضطرارا، والذي يأتيه من أعلى..
ونسأل: وأين إرادة الإنسان إذن؟
نكاد نقول إن الجاحظ يقول بالجبر والاختيار معا..!
ثالثا: إن المعتزلة وهم يحاولون أن يدافعوا عن «عدل الله» بإضافة أقوال الإنسان كلها- خيرها وشرها- إلى الإنسان- أقول: إنهم بهذا الدفاع قد أنكروا على الله أن يكون قادرا ومريدا، مطلق القدرة، ومطلق الإرادة، أي ذا قدرة وإرادة شاملتين.. والقدرة والإرادة بهذا الوصف- من صفات الكمال. فكيف لا يتصف الخالق بهما؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..