الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحلف على منكر، فإن الحنث فيه واجب، ولا كفارة فيه، كمن حلف أن يشرب خمرا.. مثلا، فعليه أن يحنث فى يمينه، ولا كفّارة عليه.
أما من حلف على غير منكر، ثم بان له أن الحنث فى اليمين يترتب عليه إلحاق ضرر به أو بغيره، فإن الحنث خير له من البرّ بيمينه، ولكن عليه كفارة الحنث.. كمن حلف على ألا يسافر إلى جهة ما، ثم بدا له أن فى السفر خيرا يعود عليه منه، وكمن حلف ألا يتعامل فى تجارة مع فلان.. ثم ظهر له أن هذا يعود عليه أو عليهما بالخسارة والضرر- فالحنث هنا خير من البرّ باليمين، وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» .
أما حقوق الناس فيما ترتب على الحنث باليمين، فلن تشفع لها هذه الكفارة، ولن تدفع عن الحانث ما نجم عن هذا الحنث من ضرر وقع على الغير بسببه.
فذلك له حسابه عند الله، وله العقاب الراصد له.
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» إشارة إلى ما تحمل آيات الله إلى عباده، من رحمة، ولطف، إذ تقيلهم من عثراتهم، وتقيمهم على طريقه القويم.. وهذا من شأنه أن يستقبله العباد بالحمد والشكر لله رب العالمين.
(الآيات: (90- 92)[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
التفسير: الخمر: ما خامر العقل، وستره، كما يستر الخمار وجه المرأة..
فكلّ ما ستر العقل، وحجب عنه الرؤية الصحيحة التي يرى بها الأشياء، ويتصور حقائقها- هو خمر، سواء أكان شرابا أو طعاما، وسنعرض لهذا، بعد قليل.
والميسر: هو القمار، والمخاطرة بالمال.
والأنصاب: هى حجارة كانت تنصب حول الأصنام، لتذبح عليها الذبائح، تقربا إليها.
والأزلام: جمع زلم، وهى قداح الميسر، يلعب بها على الذبائح، مقامرة.
وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» هو خطاب عام للمؤمنين، واستدعاء لما فى قلوبهم من إيمان، ليكون هذا الإيمان بمحضر من تلك المنكرات التي يدعون إلى اجتنابها.. إذ لا يجتمع الإيمان وهذه المنكرات فى قلب مؤمن.. حيث أن من شأن الإيمان أن يقيم فى كيان المؤمن وازعا يزع كل منكر، ويدفع كل ضلال.
وقوله تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» هو عرض لبعض المنكرات التي تغتال إيمان المؤمن، وتقطع الصلة بينه وبين ربّه.. وهى: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام.. وقد وصفها الله سبحانه بصفتين: أنها رجس.. والرجس ما تعافه النفس بفطرتها وتتقذّره بطبيعتها، من غير حاجة إلى من يلفتها إليه، ويحذّرها منه، إذ كان أمره من القذارة والفساد بحيث لا يخفى إلّا على من فسدت طبيعته، وشاهت فطرته..
والصفة الأخرى لهذه المنكرات: أنها من عمل الشيطان.. وإضافة
هذه المنكرات إلى الشيطان يجعلها منكرا إلى منكر.. فالرجس فى ذاته، على أي وجه ظهر، ومن أي أفق طلع، هو شر وبلاء على من يقبل عليه ويتعامل معه، فإذا كان هذا الرجس هو من عمل الشيطان، ومن صنعة يده، ومن الطعام الممدود على مائدته، لم يكن فيه مظنّة لخير أبدا.. إذ يكفى الخير شناعة وسوءا أن يجىء من قبل الشيطان، وعلى يده.. فكيف إذا كان ما يحمله الشيطان ويدعو إليه هو «الرجس» ؟
أرأيت إلى طعام طيب هنىء تحمله إلى آكليه يد إنسان رعى الجذام وجهه وقضم يديه؟ .. أفتجد نفس لهذا الطعام مساغا، أو يمدّ إليه إنسان يدا ولو هلك جوعا؟ فكيف إذا كان ما يحمله هذا الإنسان المجذوم طعاما فاسدا متعفنا تعافه الكلاب؟ ذلك أقرب شىء شبها إلى الرجس الذي يكون من عمل الشيطان وصنعته.
فالرجس- وتلك صفته من السوء- فى غير حاجه إلى أمر بحظر يضرب عليه، ويحال بين الناس وبينه.
والرجس الذي هو من عمل الشيطان، أمره أظهر وأبين من أن ينبّه على اجتنابه، إشارة أو عبارة.. ومع هذا فإن بعض الناس تضيع إنسانيتهم، وتنطمس معالم فطرتهم، وتفسد طبيعتهم، فلا تزكم أنوفهم رائحة كريهة، ولا تلفظ أفواههم طعاما خبيثا.
ولهذا كان من فضل الله على الناس ورحمته بهم، أن بعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين، ليصلحوا ما فسد منهم، ويصححوا عمل أجهزتهم التي عطبت أو فسدت.
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى هنا «فَاجْتَنِبُوهُ» تعقيبا على ما كشف من أمر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ووصفها بأنها رجس، وأنها من
عمل الشيطان.. فهذا الأمر باجتناب هذه المنكرات، هو فى الواقع توكيد لما تحمل فى أوصافها من أكثر من نهى ضمنىّ باجتنابها. وذلك زيادة عناية بالإنسان، وحراسة مضاعفة له من الموبقات والمهلكات.. وضمير الغائب فى «فاجتنبوه» يعود إلى الرجس الذي جمع هذه المنكرات كلها فى كيانه.
أما الأنصاب- وإن كان الإسلام قد حطم الأصنام التي كانت مشرفة عليها-، فإن الإبقاء على عادة الذبح على هذه النّصب، مما يثير غبار الشرك، ويحرّك ريح الوثنية الكريهة.. فضلا عن أن هذه الذبائح التي تذبح على النصب كانت مجالا للمقامرة، إذ تقسّم لحومها بين المقامرين عليها، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر.
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ترغيب فى الاستجابة لهذا الأمر، الذي فى الامتثال له مدخل إلى الفلاح والسلامة، وإنه لا فلاح ولا سلامة مع صحبة هذه المنكرات، والولاء لها.
وقوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ» هو بيان لما يبغيه الشيطان من وراء هذه المنكرات التي عرضها للناس، فى معارض مغوياته، ومفسداته.. إنه يريد؟؟؟ أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس فى مواطن الخمر والميسر، حيث يفقد الإنسان عقله بالخمر، فلا يدارى قولة سوء، ولا يمسك كلمة شر، وحيث يستنزف الميسر أموال الناس، ويريهم أن بعضهم أكل بعضا، وهم- فى الواقع- مأكولون جميعا، فيقع بينهم الشر، وتشتعل نار العداوة والبغضاء.. وبهذا تتمزق وحدة المجتمع، ويصبح الإنسان فى مجتمعه إما طالبا أو مطلوبا، لا يبيت على أمن، ولا يستقرّ على حال..
ثم إن هذه المنكرات من خمر وميسر وأنصاب وأزلام، مع ما تزرع
بين الناس من أشواك العداوة والبغضاء.. تصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، حيث تلهى أصحابها، وتمسك بهم فى مجالها، فلا يخطر ببال أحدهم ذكر الله، وقد استولى عليه هذا الرجس، ولا يجيب داعى الله إلى الصلاة، إن هو وجد أذنا تستمع إلى هذا الداعي.
وقوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» يحمل تحريضا قويا على الانخلاع عن هذه المنكرات، ومجاهدة النفس فى اجتنابها، ومغالبة الأهواء الداعية إليها..
فهذه المنكرات لها سلطانها المتسلط على النفوس، بما فيها من مغويات تدعو الإنسان إلى التحلل من سلطان العقل، وما يدعو إليه من وقار، وجدّ، لتحمله على أجنحة الخلاعة والعبث والمجون.. ومن وراء ذلك شيطان يستحثّ أهواء النفس، ويثير غرائزها الحيوانية الخسيسة.. فإذا لم يأخذ الإنسان حذره ويتجرد لحرب هذه المغويات المتسلطة عليه، ويلقاها بإيمان وثيق وعزم ثابت، غلبته على أمره، وأخذته من مقوده، وأقامته على هذا المرعى الوبيل، ليطعم منه، ويعيش عليه..
ففى قوله تعالى «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» استفهام مطلوب الجواب عليه، ولن يعطى الجواب الذي ينبغى أن يجيب به المؤمن إلّا من نظر إلى نفسه، وإلى موقفه من ربه الذي يدعوه إليه، فإن استجاب لله، وانتهى عن هذه المنكرات واجتنبها، كان له أن يلقى الله بوجهه، وأن يدخل فى عباده المؤمنين، وإلا اختطفه الشيطان، وألقى به بين ضحاياه وصرعاه! قوله تعالى:«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا» هو دعوة مجدّدة إلى المؤمنين، إلى طاعة الله ورسوله، والحذر من هذا الرجس، الذي بين يدى الشيطان.. يدعوهم إليه، ويغريهم به..