الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ..»
هو إشارة إلى أن أكثر الناس فى هذه الدنيا تغلب عليهم أهواؤهم، وتستولى عليهم نزعات الشر والضلال، وأن أصحاب الهدى وأهل التقوى، هم قلة فى هذه الدنيا، وأنهم لو اتبعوا الكثرة لكثرتها لهلكوا مع الهالكين، وضلّوا مع الضالين.. وهكذا الخير قليل فى أهله، كثير فى مضمونه، وأن الشرّ كثير فى أهله، قليل فى محتواه.. وكذلك كل نفيس أو كريم، هو قليل الكمّ كثير الكيف، وكل خبيث وتافه، هو كثير الكمّ قليل القدر، بخس القيمة، وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى بقوله:«قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (103: المائدة) .
فهذه الكثرة الغالبة من الضالين، لا يقوم ضلالهم إلا على أوهام وترّهات، ولا يستند إلا على أهواء ونزوات:«إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» والخرص، والتخرص: هو الحكم على الشيء بلا علم، والأخذ به بلا برهان ولا دليل، ومنه خرص النحلة، وهو تقدير ما تعطى من ثمر قبل أن ينضج ويكتمل، وهو ضرب من المقامرة، قد نهى الشرع عنه.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى:«قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» . (10: الذاريات) قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» بيان لما ينكشف عنه حال الناس عند الله، وأنهم ضالون ومهتدون، وعند الله علم من يضل ومن يهتدى.. ولكل حسابه وجزاؤه عند الله.
الآيات: (118- 121)[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 121]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلَاّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
التفسير: لما كانت المطاعم هى الأمر المتحكم فى حياة الناس، وكانت حياتهم لا تقوم أبدا بغير طعام، وكان سعيهم قائما فى أساسه على تحصيل الطعام- فقد جاءت دعوة الإسلام لتلقى بالناس على هذا المورد الذي يتزاحمون عليه، ولتدعوهم إلى الله عن هذا الطريق..
فالمؤمنون بالله مأمورون بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه.. وبغير هذا لا يكونون مؤمنين: «فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين» .. فهذه أول سمة من سمات المؤمنين، وأول تجربة لهم مع الإيمان بالله.
وفيما ذكر اسم الله عليه من مطاعم سعة للمؤمنين! وهى كثيرة مغنية، وفى عزل ما حرّم من المطاعم الخبيثة عليهم، حماية للطيب الذي أحلّ لهم أن بخبث ويفسد.. وهذه المطاعم الخبيثة قد بينها الله وفصلها، فى قوله سبحانه:
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. ذلِكُمْ فِسْقٌ» (3: المائدة) .. وهى محرمة على المؤمنين، إلا أن يضطروا إليها..
فكيف لا يتسع هذا الطيب للمؤمنين؟ وكيف يمدون أبصارهم إلى غيره من تلك الخبائث التي هى طعام أهل الرجس والفسق..؟ «وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ؟» وفى هذا الاستفهام إنكار على من كان مؤمنا ألّا يستغنى بالطيب عن الخبيث.. إلا فى حال.
الاضطرار، الذي هو ظرف استثنائى تباح فيه المحظورات، رحمة بالمؤمنين.
وقوله سبحانه: «وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى أهل البدع والضلالات، وأنهم هم الشياطين الذين يزينون للناس الشر والغواية بحملهم على ذلك، وأن هوى فاسدا، هو الذي يملى عليهم تلك المفتريات التي يضلون بها الناس، بعد أن غرقوا هم فى لجج الضلال.
قوله تعالى: «وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» هو تحذير للمؤمنين من أن ينخدعوا لتلك الأهواء المضلّة التي تأتيهم من أهل الضلال، بما يزينون لهم منها، فيتأولون الحرام ويلبسونه ثوب الحلال، حتى يجدوا له مساغا.. وهذا هو الإثم أعظم الإثم أشنعه.. فهو إثم خفىّ يتدسس إلى الإنسان، ويغتال إيمانه دون أن يأخذ حذره منه، ويعمل على تجنبه وتوقيه..
فظاهر الإثم، هو الجلىّ الواضح، الذي لا يخطئه نظر، أو فهم.. وباطن الإثم، هو الذي يمكن أن يحجب وجهه بشىء من الخداع، والتمويه، وبقليل من غفلة العقل ووازع الإيمان..
والاقتراف: المداناة والمقاربة.