الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعقيب على المعطوف، وهو تعقيب فيه تراخ وامتداد فى مسافات الزمان والمكان بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا يؤذن بالمفارقة البعيدة بين المتعاطفين اللذين كان من شأنهما التشاكل والتلاحم.. ولكن كفر الكافرين بالله يجعلهم أبعد من أن يتعاطفوا مع آيات الله، وأن ينتفعوا بها، ويهتدوا بهديها:«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .. ولو كان ما أعقب هذه الآيات هو التعرف على الله والإيمان به، لجاء النظم القرآنى عطفا بالفاء، على هذا النحو مثلا:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» .. فعرفه وآمن به أصحاب الأبصار، وذوو البصائر.. من عباده..
الآيات: (2- 5)[سورة الأنعام (6) : الآيات 2 الى 5]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
التفسير: الذين كفروا بربهم، وعموا عن آياته التي تملأ الوجود فى سمائه وأرضه.. عموا كذلك عن النظر فى أنفسهم، فلم يروا أنفسهم، وهم على تلك الصورة البالغة العاقلة.
ماذا كانوا قبل أن يكونوا؟ ومن أي شىء كان كونهم؟. إنهم من طين
هذه الأرض التي يطئونها بأقدامهم، ويمشون عليها اختيالا، ويقومون فوقها آلهة يطاولون الله ربّ العالمين، ويحادّونه، ويأبون الولاء له، والخضوع لسلطانه.. هكذا الإنسان كما وصفه خالقه:«إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) .
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» هو إشارة إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه خلق من هذا الطين كائنا، عاقلا، ناطقا، متصرفا، سميعا، بصيرا.. ثم هو إشارة أخرى إلى ضالة قدر الإنسان، وصغاره..
ومهانته، بالنسبة لجلال قدرة الله وكماله وعظمته.. وأن الله الذي خلق من هذا الطين المهين كائنا كريما، قادر على أن يعيد هذا الكائن إلى مكانه الذي جاء منه، وهو الطين، أو ما هو دون الطّين قذارة ومهانة! وقوله سبحانه:«ثُمَّ قَضى أَجَلًا» .
قضى: أي مكث حتى وفّى الزمن المقدور له، مثل قوله تعالى:«فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» وقوله: «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» .
وفاعل الفعل «قضى» ضمير يعود إلى الطين.
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى بدأ خلق الإنسان من طين، وأن هذا الطين مكث زمنا، ينتقل من حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، حتى كان منه هذا الإنسان.
وفى العطف بالحرف «ثمّ» ما يشعر بامتداد الزمن وتطاوله، فى تلك الدورة الطويلة التي انتقل بها الإنسان من عالم الطين إلى عالم البشر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ»
فالخلق مرحلة من مراحل تطور الكائن البشرى.. خلق أولا، أي بدئ فى خلقه، ثم صوّر، أي تنقل من حال إلى حال، متصاعدا نحو الكمال، حتى إذا استكمل وجوده البشرى وصار إنسانا، كان خلقا آخر، وعالما غير العالم الذي جاء منه.. وهذا ما يدل عليه قوله سبحانه «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» ..
فهناك خلق، أي بدء خلق، فتعديل فى هذا الخلق، أي تطور وتنقل من حال إلى حال.. حتى بلغ الصورة التي شاء الله سبحانه وتعالى الوقوف بالإنسان عندها، وإخراجه عليها.
وقوله تعالى: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» هو إشارة إلى الأجل الذي يعيشه الإنسان، كإنسان فى هذه الحياة.. والتقدير: وهناك أجل مسمى يقضيه الإنسان، هو مكتوب عند الله.
وهذا الأجل هو المحسوب على الإنسان، إذ فيه يكون أهلا للتكليف، والحساب والجزاء.. ومن هنا أضيف هذا الأجل إلى الله سبحانه وتعالى، وحسب أنه أجل مقضىّ عند الله، فيه يعرف الإنسان ربّه، ويتعامل معه..
وفى إضافة هذا الأجل إلى الله سبحانه، إشارة إلى أن الإنسان كائن مضاف إلى الله، إضافة تكريم، اختص بها من بين كثير من الكائنات، وهذا من شأنه أن يحمل الإنسان على أن يحثّ الخطا إلى الله، وأن يدنو منه، ويتعرف إليه، ويتعامل معه.. ليكون أهلا للإضافة إلى الله.. كما يقول سبحانه:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» .
وقوله تعالى: «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» إشارة إلى ما فى الإنسان من ضلال وعمى عن الله، وأنه مع هذه الآيات البينات، وتلك النعم والألطاف التي يسوقها
سبحانه إلى النّاس، فإنهم يمترون فى الله، ويشكّون فى وجوده، أو فى قدرته، أو فى البعث والجزاء.. إلى غير ذلك مما هم فيه مختلفون.
وقوله سبحانه: «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» هو استعراض لقدرة الله وعلمه، وأنه هو الإله الخالق للسموات والأرض، والمالك لهما، والمتصرف فيهما، لا يملك أحد معه شيئا، ولا لأحد معه تصريف فى هذا الوجود..
وإذ كان الله على تلك الصفة، فإنّه يعلم بعلمه كل شىء فى هذا الوجود، ظاهره وباطنه، جليّه وخفيّه.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) .
والإنسان صنعة الله.. خلقه من طين، وتنقل به من خلق إلى خلق، حتى صار هذا الكائن البشرى، العاقل، المدرك- أفيخفى على الله من أمره شىء؟ وكيف وقد صنعه بيده، ورباه ونشّأه، وأمسك عليه حياته، وعدّ عليه أنفاسه، وأحصى نبضات قلبه؟ ألا يعلم الإنسان كل خافية من صنعة صنعها، أو مخترع اخترعه؟ فكيف بعلم الله الذي علّم الإنسان ما لم يعلم؟
وفى هذا الاستعراض لعلم الله وقدرته استدعاء للإنسان الشارد عن الله، الغافل عن ذكره، المستخفّ بشرائعه- أن يعود إلى الله، وأن يخشاه، ويتقى محارمه، حيث يرى الله كلّ ما يعمل، ويعلم ما يخفى وما يعلن..
وقوله تعالى: «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» هو تشنيع على الكافرين، وإعراض عنهم، حيث أعرضوا عن الله، واستخفّوا بآياته، ومكروا بها.. ولهذا لم يخاطبهم الله خطاب حضور، بل أنذرهم إنذار غيبة، لأنهم مبعدون من رحمة الله، غائبون بوجودهم عنه، مشغولون بأهوائهم وضلالاتهم عن ذكره.