المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (112- 115) [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ٤

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات (82- 86) [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]

- ‌(الآيات: 87- 88) [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]

- ‌الآية (89) [سورة المائدة (5) : آية 89]

- ‌(الآيات: (90- 92) [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92]

- ‌الخمر.. مادتها، وصفتها، وحكم شاربها

- ‌الآية (93) [سورة المائدة (5) : آية 93]

- ‌الآية (94) [سورة المائدة (5) : آية 94]

- ‌الآيات (95- 96) [سورة المائدة (5) : الآيات 95 الى 96]

- ‌الآيات (100- 97) [سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100]

- ‌الآيات (102- 101) [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]

- ‌الآيات (104- 103) [سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104]

- ‌الآية (105) [سورة المائدة (5) : آية 105]

- ‌الآيات: (106- 108) [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]

- ‌الآية: (109) [سورة المائدة (5) : آية 109]

- ‌الآية: (110- 111) [سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 111]

- ‌الآيات: (112- 115) [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115]

- ‌الآيات: (116- 118) [سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 118]

- ‌(الآيتان: 119- 120) [سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120]

- ‌مبحث فى المسيح الإله والمسيح الإنسان

- ‌6- سورة الأنعام

- ‌الآية: (1) [سورة الأنعام (6) : آية 1]

- ‌الآيات: (2- 5) [سورة الأنعام (6) : الآيات 2 الى 5]

- ‌الآية (6) [سورة الأنعام (6) : آية 6]

- ‌الآيات: (7- 11) [سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 11]

- ‌الآيتان: (12- 13) [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]

- ‌الآيات: (14- 16) [سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 19) [سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19]

- ‌الآيتان: (20- 21) [سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 21]

- ‌الآيات: (22- 24) [سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 24]

- ‌الآيات: (25- 26) [سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]

- ‌الآيات: (27- 29) [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 32) [سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 32]

- ‌الآيات: (33- 34) [سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 34]

- ‌الآية: (35) [سورة الأنعام (6) : آية 35]

- ‌الآيات: (36- 38) [سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 38]

- ‌الآيات: (39- 41) [سورة الأنعام (6) : الآيات 39 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 45) [سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 47) [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 47]

- ‌الآية: (48- 49) [سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49]

- ‌الآيات: (50- 52) [سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 55) [سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 58) [سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58]

- ‌الآيات: (59- 62) [سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62]

- ‌الآيات: (63- 65) [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 65]

- ‌الآيات: (66- 67) [سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 67]

- ‌الآيات: (68- 70) [سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70]

- ‌الآيات: (71- 73) [سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73]

- ‌الآيات: (74- 79) [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79]

- ‌الآيات: (80- 82) [سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 82]

- ‌الآيات: (83- 87) [سورة الأنعام (6) : الآيات 83 الى 87]

- ‌الآيات: (88- 90) [سورة الأنعام (6) : الآيات 88 الى 90]

- ‌الآيتان: (91- 92) [سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92]

- ‌الآيات: (93- 94) [سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94]

- ‌الآيتان: (95- 96) [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 96]

- ‌الآيات: (97- 99) [سورة الأنعام (6) : الآيات 97 الى 99]

- ‌الآيات: (100- 103) [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103]

- ‌الآيات: (104- 107) [سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107]

- ‌الآيات: (108- 110) [سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110]

- ‌الآية: (111) [سورة الأنعام (6) : آية 111]

- ‌مبحث: فى مشيئة الله ومشيئة العباد

- ‌تفصيل بعد إجمال

- ‌آراء القدرية

- ‌وهذه مقولات لبعض رجالهم رأى واصل بن عطاء:

- ‌رأى النّظام

- ‌ثورة على المعتزلة

- ‌رأى أهل السنة

- ‌[كسب الإنسان]

- ‌حركة الأشاعرة

- ‌لسان الدين بن الخطيب ورأيه فى الكسب

- ‌إمام الحرمين ورأيه فى الكسب

- ‌رأى الغزالىّ في الكسب

- ‌رأى الفارابي فى الكسب

- ‌رأى الفيلسوف محمد إقبال

- ‌الله والإنسان.. مرة أخرى

- ‌أباطيل بعض المتصوفة

- ‌طريق المؤمنين

- ‌الآيات: (112- 113) [سورة الأنعام (6) : الآيات 112 الى 113]

- ‌الآيات: (114- 117) [سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 117]

- ‌الآيات: (118- 121) [سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 121]

- ‌الآيات: (122- 124) [سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 124]

- ‌الآيات: (25- 27) [سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 127]

- ‌الآيات: (128- 129) [سورة الأنعام (6) : الآيات 128 الى 129]

- ‌الآيات: (130- 132) [سورة الأنعام (6) : الآيات 130 الى 132]

- ‌الآيات: (133- 135) [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135]

- ‌الآيات: (136- 137) [سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 137]

- ‌الآيات: (138- 140) [سورة الأنعام (6) : الآيات 138 الى 140]

- ‌الآيات: (141- 144) [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144]

- ‌الآيات: (145- 147) [سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147]

- ‌الآيات: (148- 150) [سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150]

- ‌الآيات: (151- 153) [سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]

- ‌الآيات: (154- 157) [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157]

- ‌الآيات: (158- 160) [سورة الأنعام (6) : الآيات 158 الى 160]

- ‌الآيات: (161- 164) [سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 164]

- ‌الآية: (165) [سورة الأنعام (6) : آية 165]

- ‌7- سورة الأعراف

- ‌الآيتان (1- 2) [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 2]

- ‌الآيات: (3- 9) [سورة الأعراف (7) : الآيات 3 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 13) [سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 13]

- ‌الآيات: (14- 18) [سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 25) [سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 30) [سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 34) [سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 34]

- ‌الآيات: (35- 39) [سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 39]

- ‌الآيات: (40- 43) [سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 43]

- ‌الآيات: (44- 51) [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 51]

- ‌الآيات: (52- 53) [سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53]

- ‌الآيات: (54- 58) [سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 58]

- ‌الآيات: (59- 64) [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64]

- ‌الآيات: (65- 72) [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72]

- ‌الآيات: (73- 79) [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79]

- ‌الآيات: (80- 84) [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]

- ‌الآيات: (85- 87) [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87]

الفصل: ‌الآيات: (112- 115) [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115]

وتعالى به مكر بنى إسرائيل، حين مكروا بعيسى، وأرادوا صلبه، مدّعين عليه كذبا وبهتانا أنه ساحر مشعوذ، يدّعى على الله كذبا أنه «المسيح» ، فنجّاه الله منهم، وأوقعهم فى سوء أعمالهم، وكتب عليهم عقوبة دم نبىّ، أيقنوا أنهم قتلوه:«وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (56: النساء) .

وقوله: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» معطوف على قوله تعالى: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» وما بعده.. أي واذكر يا عيسى من نعمتى عليك أنى أوحيت إلى الحواريين وألهمتهم أن يتبعوك، ويكونوا أنصارا لك، وقوة إلى جوارك، فى مواجهة القوى الضالّة من بنى إسرائيل.. فآمن هؤلاء الحواريون بك، وصدّقوك، وكانوا ردءا لك، وأنسا لو حشتك فى هذا الظلام الكثيف المنعقد حولك.

والحواريون: جمع حوارىّ، والحوارى: هو الناصر والمعين على الخير، وأصله اللّباب من كل شىء، ومنه الحوارى، وهو لباب الدقيق.

‌الآيات: (112- 115)[سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115]

إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)

ص: 74

التفسير: وقع بين المفسرين اختلاف شديد فى مائدة بنى إسرائيل هذه، وفى الحواريّين الذين طلبوا هذا الطلب..

فأنكر بعضهم أن يكون من الحواريين هذا الطلب المتحدّى، الأمر الذي لا يكون إلا من إنسان لم يؤمن بالله.. وكيف وهم قد دعاهم الله إليه فاستجابوا من غير تردد، وتبعوا المسيح، وساروا مسيرته خطوة خطوة، كأنهم بعض ظلّه على الأرض؟

وقد كان للمنكرين على الحواريين أن يكون منهم هذا الطلب، تأويلان لهذا الاعتراض..

التأويل الأول: أن هؤلاء الحواريين، لم يكونوا مؤمنين إيمانا صادقا، وأنهم حين دعوا إلى الإيمان فقالوا «آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» - لم يكن هذا القول إلا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم فلا يستغرب منهم- وهذا إيمانهم- أن يطلبوا هذا الطلب، الذي لا يكون ممن آمن بالله إيمانا صادقا! وهذا التأويل فاسد، ظاهر الفساد.

فالحواريون مدعوّون من الله، ملهمون إلى الإيمان به.. فكيف يكون إيمانهم على تلك الصفة الهزيلة المنافقة؟

إن من يدعى من الله هذه الدعوة، ويلهم هذا الإلهام إلى الإيمان به، لا بدّ أن يكون أشدّ الناس إيمانا، وأوثقهم يقينا واطمئنانا. وإن غير ذلك هو اتهام لله، ولعلمه، وقدرته..

ولقد كان الحواريون على إيمان وثيق بالله، أقرب إلى إيمان أنبياء الله ورسله، كما يشهد لذلك قول الله تعالى فيهم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ

ص: 75

نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ

»

(14: الصفّ) .. فهم القدوة فى وثاقة الإيمان، وفى نصرة دين الله. ونصرة رسول الله.. ولهذا دعا الله المؤمنين أن يكونوا أنصار الله ورسول الله «محمد» صلوات الله وسلامه عليه.. كما كان هؤلاء الحواريون أنصار الله، وأنصار رسول الله عيسى، عليه السلام.

فكيف يلتقى هذا القول بنفاقهم وضعف إيمانهم مع هذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى فيهم؟ إن مثل ذلك القول فى الحواريين هو تكذيب صريح لكلام الله! أما التأويل الآخر لهذا الطلب الذي كان من الحواريين بإنزال مائدة من السماء عليهم، فقد اعتمد فيه القائلون به، على قراءة من قرأ قوله تعالى:«هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» على هذا الوجه: «هل تستطيع ربّك» أي هل تستطيع أنت يا عيسى أن تطلب من ربّك أن ينزل علينا مائدة من السماء.. فتكون الاستطاعة هنا مضافة إلى عيسى عليه السلام، لا إلى الله سبحانه وتعالى..

وعلى هذا، فإنه لا بأس من أن يطلب الحواريّون إلى عيسى هذا الطلب، ويراودوه عليه! وهذا تأويل مقبول على هذه القراءة..

ولكن ما تأويل طلب الحواريين على القراءة المشهورة: «هل يستطيع ربّك أن ينزل علينا مائدة من السماء» ؟

نقول- والله أعلم- إن الاستطاعة هنا لا يراد بها القدرة على إجابة الطلب، وإنما المراد بها الرضا والقبول له، بمعنى: هل يرضى ربّك، أو يقبل ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء؟

فهذا أمر لم تجر به العادة، ولم يقع فى حياة الناس.. والحواريون إذ يطلبون

ص: 76

هذا الطلب الغريب، لا يتوقعون استجابته، وإنما كان طلبهم له من قبيل الاستطراد للمعجزات الخارقة، التي كانت تقع تحت حواسّهم، من إحياء الموتى، وخلق طير من الطين، وبعث الحياة فيه، وإبراء الأكمه والأبرص.. فماذا لو طلبوا هذا الطلب الغريب؟ هل يقبله الله؟ وهل يجيبهم إليه؟ إنهم لا يشكّون فى قدرة الله، ولكنهم يشكون فى أن يستجاب لهم فيما طلبوا.. ومن هنا أخذ هذا الطلب صورة الاستدعاء بالقدرة والاستطاعة.. لا بالإضافة إلى من طلب إليه، ولكن بالنسبة لمن طلب له..

كمن يقول لمن هو أعلى منه منزلة: هل تستطيع أن تعطينى هذا الكتاب الذي معك؟ إنه لا شك مستطيع، إذ لا شىء يمسكه عن ذلك.. ولكن الأمر متروك لتقديره هو.. وهل يرى هذا الشخص مستحقا لهذه المكرمة أو غير مستحق لها؟

وليس فى قول الحواريين: «هل يستطيع ربّك» إنكار لربوبية الله لهم، ولكنه استصغار لشأنهم، وإخفاء لذاتهم، وهم يطلبون هذا الطلب، الذي لا يصح أن يكون طالبه من الله إلا إنسانا له عنده من المنزلة مثل ما لعيسى عليه السلام، فهو ربّه الذي أفاض عليه هذه المكرمات، وهو ربّه الذي يطلب منه هذه المكرمة.. ولهذا أضافوا عيسى إلى الربّ، ولم يضيفوا هم أنفسهم إليه، استصغارا لمكانهم فى هذا المقام.

وفى قول عيسى عليه السلام للحواريين: «اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» تأديب لهم، ودعوة إلى ما هو أولى بالمؤمنين أن يكونوه مع الله، كما يقول السيد المسيح فى بعض تعاليمه:«لا تجرّب الربّ إلهك» .. فذلك هو الكمال كلّه، والإيمان كلّه.

ولكن- كما قلنا- للمؤمنين المقربين إلى الله، المشاهدين لعظمة جلاله، المحفوفين بخفىّ ألطافه- لهؤلاء المؤمنين أنس بروح الله، وانتشاء بنسائم قربه،

ص: 77

وأنفاس مودته، وذلك ممّا يحملهم على هذا الدّلال فى طلب ما لا يطلب الناس، ولا يطمعون فيه..

وفى إبراهيم عليه السلام مثل لهذا.. فقد طلب من الله- سبحانه- أن يريه كيف يحيى الموتى! وقد أجابه مولاه- كرما ولطفا- إلى ما طلب..

وكذلك ما كان من موسى- عليه السلام حيث طلب أكثر من هذا، فقال:«ربّ أرنى أنظر إليك» ! وموسى يعلم يقينا أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرى، إذ لو رؤى لتحدّد، ولو تحدّد لتحيّز، ولو تحيّز لكان مخلوقا.. لا خالقا! وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. ومع هذا فقد طلب موسى هذا الطلب، الذي لا تدركه الأبصار.. فكان جواب الحق جلّ وعلا:«لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي.. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً.. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ.. تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (142: الأعراف) .

فمثل هذا الطلب من الحواريين، لا يدلّ بحال على ضعف إيمان، أو شك فى الله، ولكنه طلب المزيد من الإيمان، والرضوان من الله! ولهذا كان جوابهم على عيسى عليه السلام:«نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين» فهم يريدون المائدة لأمور.. منها:

أولا: أن يأكلوا منها.. فهى فى هذا لا تختلف كثيرا عن المنّ والسّلوى الذي أطعمه الله سبحانه وتعالى آباءهم، حين نجّاهم من فرعون على يد موسى..

فلما كفروا بهذه النعم لعنهم الله، وضرب عليهم الذلة والمسكنة.

وثانيا: أن تطمئن قلوبهم إلى رحمة الله بهم، وألطافه عليهم، باستجابة طلبهم.. وفى هذا ما يفتح لهم إلي الله طريقا يرون منه إشارات السماء

ص: 78

بحواسّهم، بعد أن أدركوها بعقولهم.. وهذا ما يبعث فى قلوبهم الطمأنينة التي تثبّت الإيمان، فلا يهتزّ لعارض يعرض له من ريبة أو شك.

وثالثا: أن يزداد علمهم بصدق عيسى، وبصدق هذه الآيات التي تجرى على يديه، فلا يطوف بأنفسهم منها طائف من الشك والوسوسة، التي كان يثيرها اليهود حولها.

ورابعا: أن تكون هذه المائدة المنزلة من السماء شهادة بين أيديهم فى دعوتهم الناس إلى الإيمان.. إذ كانوا ممن طعموا منها، ومثل هذا الطعام السماوي لا بدّ أن يترك آثارا فيمن طعم منه.. وربما كانت آثاره مادية ومعنوية معا، يراها الناس ظاهرة عليهم، فيكون منها شهادة للحواريين، أنهم ممن لبسوا تلك النعمة الإلهية، وفى هذا ما يجعل القلوب مطمئنة إليهم، وإلى ما يدعون إليه.

وأمر آخر من تلك المائدة، أثار اختلافا بين المفسّرين، حتى لقد رأى بعضهم أن المائدة لم تنزل، وأن الحواريين حين سمعوا قول الله تعالى:«إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» قالوا: لا حاجة لنا.. فلم تنزل عليهم!! وهذا قول مردود، ورأى فاسد.. وذلك:

أولا: أن عيسى عليه السلام، دعا ربّه، وضرع إليه، أن ينزّل هذه المائدة، كما طلبها الحواريون ولم يكتف بهذا، بل لقد جعل لطلبها أسبابا ومبررات من عنده، حتى لكأن هذا الطلب كان منه ابتداء، لما حمّل هذا الطلب من ثمرات طيبة تجىء معه، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه:«قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»

ص: 79

أفبعد هذا لا يستجيب الله لعيسى بن مريم، ولا يحقق له ما دعا به إليه؟

إن عيسى يقول: «اللهمّ ربّنا أنزل علينا» ولم يقل عليهم.. ويقول:

«تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا» ولم يقل: تكون لهم عيدا لأولهم وآخرهم» وقال «وارزقنا» ولم يقل: وارزقهم..

فهى عيد وبهجة ومسرّة للمسيح، ولمن يطعم من تلك المائدة من أتباعه.

ثم هى آية من آيات الله وشاهد من شهود قدرته وجلاله.

وهى رزق كريم طيب.. وليست لعنة، ولا عقوبة..

وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى استجاب لعيسى، فقال سبحانه:«قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» .. وفى هذا: أن القائل ليس أيّ قائل، بل هو الله سبحانه وتعالى.. «قالَ اللَّهُ» .. وأنه سبحانه قد حكم هذا الحكم القاطع المؤكد:

«إنى منزلها عليكم» .. هكذا: «إنى منزّلها عليكم» .. وذلك التوكيد.

ليرفع أىّ احتمال للشك عند أقلّ المؤمنين إيمانا بالله، بأن المائدة لم تنزل.

فكيف يقع لعقل عاقل أن كلمة الله لا تنفذ، وأن قضاءه لا يمضى؟

ولا ندرى كيف نظر شيخ المفسّرين «الطبري» إلى هذه الآية، ولا كيف طوّع له قلمه أن يجعل لهذا الرأى مكانا فى تفسيره؟

وقوله تعالى: «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» إنما هو حراسة لهذه النعمة العظيمة، من أن يعبث بها العابثون، أو يلحد بها الملحدون.. إنها شمس طالعة فى وجه صبح مشرق.. فمن عمى عنها، ولم يهتد بها، فهو فى حرب سافرة مع الله.. لا جزاء له إلا أن يلقى أشد العذاب! وليس فى هذا تهديد للحواريين، ولا وعيد لما سيكون منهم من كفر

ص: 80

بهذه الآية، ومكر بها.. بل هو استبعاد لأن يقع شىء من هذا منهم، وإن جاز أن يقع من غيرهم.. وأنه لو جاز أن يكفر أحد من الحواريين بهذه الآية فإنه سيلقى هذا العذاب.. فكيف يكون العذاب لمن كفر من غيرهم؟ وهذا أسلوب من أساليب القرآن فى مخاطبة من يستبعد منهم فعل منكر، ليكون ذلك تخويفا لغيرهم، وزجرا لهم عن إتيان هذا الإثم..

يقول تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (65: الزمر) .

ويقول سبحانه وتعالى مشيرا إليه صلى الله عليه وسلم: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (44- 47: الحاقة) .

والنبي الكريم أبعد من أن يطوف به طائف من الشرك، وأبعد من أن يتقوّل على الله قولا.. إن ذلك كان أمرا مستحيلا بالنسبة لذاته الكريمة.. ولكنّ المقام مقام تحريم الشرك والتشنيع عليه، فناسب أن يبرز فى تلك الصورة المفزعة التي تحبط كل عمل، ولو كان نبيّا كريما من أنبياء الله، ورسولا مجتبى من رسله.. فكيف غير النبىّ وغير الرسول! وكذلك الأمر فى التقول على الله والافتراء عليه.

وفى قوله تعالى على لسان السيد المسيح: «تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا» أي ينال منها، ويسعد بها كلّ من اتبعه، وآمن به، واجتمع إليه، لا الحواريون وحدهم الذين كان منهم هذا الطلب ابتداء- فهى رحمة منزلة من السماء، ونعمة محمولة على جناح الرحمة، ينال منها كل من صدّق بصاحب هذه الدعوة، واتبع سبيله، من أقرب المقربين إليه، إلى من هم أبعد منهم صلة به.

ص: 81