الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا هى الدنيا، لعب ولهو، إذا وقف الإنسان نفسه عليها، وحبس وجوده على مظاهرها، دون أن يلتفت إلى ما بعدها، من لقاء الله، وموقف الحساب بين يديه.. ولكنه إن التفت إلى الآخرة التي وراء هذه الحياة الدنيا، لم تكن هذه الحياة الدنيا لعبا ولهوا، وإنما تكون حياة جادّة عاملة، تجمع الدنيا والآخرة معا، وبهذا تتفتح أمام الإنسان آفاق فسيحة للعمل الطيب المثمر، الذي إن فاته حظّه منه فى الدنيا، فلن يفوته ثوابه العظيم منه فى الآخرة.. ومن هنا كانت حياة المؤمنين بالله واليوم الآخر، حياة عامرة بالعمل والكفاح والجهاد..
إذ كان على المؤمن أن يملأ بوجوده وكفاحه دنياه وآخرته جميعا.. أما الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإن حياتهم فراغ فى فراغ، يدورون فيه حول أنفسهم، كما يدور الأطفال فى لهوهم ولعبهم.
قوله تعالى: «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» إذ عملوا لها، وآثروها على الدنيا، وقدّموا ما يبقى على ما يفنى، فكانت عاقبتهم السلامة والعافية، والخلود فى جنّات النعيم..
وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» إثارة لذوى العقول أن ينظروا لأنفسهم، وأن يزنوا أمرهم مع الدنيا على ميزان سليم.. فإنهم لو فعلوا لعرفوا أن الدار الآخرة خير وأبقى!
الآيات: (33- 34)[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 34]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
التفسير: بعد أن عرض الله للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هذا العرض الكاشف للمشركين، وما يلقون فى موقف الحساب من خزى وهوان، وما يذوقون فى جهنم من نكال وعذاب- بعد هذا العرض الذي يرى فيه النبىّ عاقبة المكذبين به- يلقى الله سبحانه النبىّ الكريم بهذه المواساة الكريمة، وهذا العزاء الجميل، لما يلقاه من قومه من تكذيب له، واستهزاء به..
وفى قوله تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ» استجابة لسكاة النبىّ قبل أن يشكو، وفى هذا تطمين لقلبه، وتثبيت لقدمه، وأن الله يرعاه، ويعلم ما يجد فى نفسه من حزن وألم، لما يرميه به قومه من باطل القول، وزور الكلم.. وهم يعلمون أنه الإنسان الذي لا يكذب أبدا..
وفى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ردّ اعتبار للنبىّ عند هؤلاء الذين اتهموه بالكذب زورا وبهتانا.. وقد كشف الله ما فى نفوسهم عن النبي ورأيهم فيه.. فهم فى دخيلة أنفسهم لا يكذبون «محمدا» .. إنهم يعلمون عن يقين أنه ما قال ولن يقول كلمة الكذب. بل هو عندهم فوق مستوى الشبهة فيما يشين الناس، وينزل من قدرهم.. «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .. إنهم لظلمهم، وعنادهم يرون الحق ويستيقنونه، ثم لا تطاوعهم أنفسهم على الإقرار به، والولاء له.. ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون بها.. وهكذا يفعل العناد بأهله، ويقطع عليهم الطريق إلى الحق والهدى، ويحجزهم عنه الخبر والفلاح.
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين.. إنهم لا يكذبون محمدا ولكنّهم يكذبون بآيات الله التي بين يديه.. فانظر كيف هذا التناقض العجيب منهم.. يؤمنون بمحمد وبصدقه
كإنسان، ويأخذون شهادته على كل ما يقول فيما هو من شئون دنياهم.. فإذا جاءهم بآيات ناطقة من عند الله، وقال لهم إنها كلام الله، وأنه رسول الله بها إليهم، أنكروا عليه هذا القول بنسبتها إلى الله، وقالوا: إنها سحر ساحر، وتلقيات ممسوس! ولو عقلوا لما وجدوا لهذا القول مستندا من عقل أو منطق..
إذ كيف لا يتّهم إنسان بالكذب فى حال، ثم يتهم به فى حال أخرى؟ إن الإنسان وحدة متكاملة، فى خلقه، فإمّا أن يكون صادقا لا يكذب، وإما أن يكون ممن لا يتحرّى الصدق فى كلّ قول.. وقد عرفوا «محمدا» أنه صادق على وجه واحد، مدة حياته معهم، من مولده إلى مبعثه.. لم تجرب عليه كذبة قط.. فكيف يكذب بعد الأربعين؟ وكيف يكذب أشنع الكذب، وأفحشه، بتلك الدعوى التي يدعيها على الله ربّ العالمين؟ ذلك محال، بل وأكثر من محال، لأن شواهد الصّدق ودلائله ناطقة فى كلام الله، مستغنية عن صدق من يجىء إلى الناس بها ويعرضهم عليها.. فكيف إذا كان من يجيئهم بها ويعرضها عليهم، غير متّهم بكذب، أو مجرب عليه شهادة زور عندهم؟
قوله تعالى: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا» (34: الأنعام) هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ورحمات من ربّ رحيم تتنزّل عليه، وهو فى مواجهة هذا العناد والعنت الذي يلقاه من قومه.. وفى هذا العزاء يرى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مشاهد كثيرة لهذا المشهد الذي يعيش فيه.. فهناك رسل كثيرون من رسل الله قد كذّبوا من أقوامهم، وأوذوا فى أنفسهم من سفهاء قومهم، ولكنهم اعتصموا بالصبر، واحتملوا الأذى فى سبيل الرسالة الكريمة التي شرفّهم الله بها..
فهذا نوح عليه السلام يلقاه قومه بالنكير والاستهزاء، ويلاحقونه بالأذى والضرّ- وفى هذا يقول الله على لسانه: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ
إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ»
(35: هود) .
وقد أخذهم الله بهذا المنكر.. فأغرقهم ونجّى نوحا ومن معه:
«فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» (119- 120: الشعراء) .
وهذا هود- عليه السلام يلقى قومه داعيا إلى الله، مبشرا ومنذرا بآياته، فتكون قولتهم له:«يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» (53- 54: هود) .. ثم كانت عاقبتهم عاقبة كل ظالم.. فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (6- 8: الحاقة) .
وهكذا كان الشأن مع صالح، ولوط، ومع كلّ نبى أعنته قومه، وكذبوا بآيات الله التي بين يديه.. النجاة والسلامة للنبىّ والمؤمنين به، والهلاك والدّمار لمن كذبوا به، وبآيات ربه..
وفى هذا أسوة للنبىّ، وللمؤمنين معه.. فليحتمل الأذى، وليصبر على الضرّ، وليحتمل المؤمنون الأذى وليصبروا على الضرّ، فإنّ العاقبة له ولهم، وإن النصر للحق ولمن ينصرون الحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» فتلك هى سنّة فى الذين خلوا، ولن تتخلّف آثارها فى حاضر أو مستقبل.. فإن أحكام الله لا تنقض وكلماته لن تتبدّل..