الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج أهل السنة والجماعة
فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم
-
إن الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم يجب أن يكون حظ العاقل منها حسنَ الظن بالصحابة الكرام، والسكوت عن الكلام فيهم إلاّ بخير، والترضي عن الصحابة جميعًا، وموالاتهم، ومحبتهم، والجزم أنهم دائرون في اجتهاداتهم بين الأجر والأجرين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينًا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة:
«وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ.
وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ:
إِنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ.
وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ.
وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ:
إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ.
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلَهُمْ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ» (1).
(1) انظر العقيدة الواسطية ص 34.
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: «فَأَمَّا مَا تَنْقُلُهُ الرَّافِضَةُ، وَأَهْلُ البِدَعِ فِي كُتُبِهِم مِنْ ذَلِكَ، فَلَا نُعَرِّجُ عَلَيْهِ، وَلَا كرَامَةَ، فَأَكْثَرُهُ بَاطِلٌ، وَكَذِبٌ، وَافْتِرَاءٌ، فَدَأْبُ الرَّوَافِضِ رِوَايَةُ الأَبَاطِيْلِ، أَوْ رَدُّ مَا فِي الصِّحَاحِ وَالمسَانِيْدِ، وَمتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرَان؟!
وقال أيضًا رحمه الله: «كَمَا تَقَرَّرَ عَنِ الكَفِّ عَنْ كَثِيْرٍ مِمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَقِتَالِهِم رضي الله عنهم أَجْمَعِيْنَ - وَمَا زَالَ يَمُرُّ بِنَا ذَلِكَ فِي الدَّوَاوينِ، وَالكُتُبِ، وَالأَجْزَاءِ، وَلَكِنْ أَكْثَرُ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ، وضَعِيْفٌ، وَبَعْضُهُ كَذِبٌ، وَهَذَا فِيْمَا بِأَيْدِيْنَا وَبَيْنَ عُلُمَائِنَا، فَيَنْبَغِي طَيُّهُ وَإِخْفَاؤُهُ، بَلْ إِعْدَامُهُ، لِتَصْفُوَ القُلُوْبُ، وَتَتَوَفَّرَ عَلَى حُبِّ الصَّحَابَةِ، وَالتَّرَضِّي عَنْهُمُ، وَكِتْمَانُ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَنِ العَامَّةِ، وَآحَادِ العُلَمَاءِ.
وَقَدْ يُرَخَّصُ فِي مُطَالعَةِ ذَلِكَ خَلْوَةً لِلْعَالِمِ المُنْصِفِ، العَرِيِّ مِنَ الهَوَى، بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَغفرَ لَهُم، كَمَا عَلَّمَنَا اللهُ ـ تَعَالَى ـ حَيْثُ يَقُوْلُ:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (الحشرُ:10).
فَالقَوْمُ لَهُم سَوَابِقُ وَأَعْمَالٌ مُكَفِّرَةٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمُ، وَجِهَادٌ مَحَّاءٌ، وَعِبَادَةٌ مُمَحِّصَةٌ، وَلَسْنَا مِمَّنْ يَغْلُو فِي أَحَدٍ مِنْهُم، وَلَا نَدَّعِي فِيْهِم العِصْمَةَ، نَقْطَعُ بِأَنَّ بَعْضَهُم أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَفْضَلُ الأُمَّةِ.
ثُمَّ تَتِمَّةُ العَشْرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، وَحَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ، وَمُعَاذٌ، وَزَيْدٌ، وَأُمَّهَاتُ المُؤْمِنِيْنَ، وَبنَاتُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وآله وسلم وَأَهْلُ بَدْرٍ، مَعَ كَوْنِهِم عَلَى مَرَاتِبَ» (1).
وقد أثنى الله عز وجل عليهم مع أنه سبق في علمه ما سيكون منهم.
فعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله أمر بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون» (2).
(1) سير أعلام النبلاء (10/ 93).
(2)
فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/ 69) ، (2/ 1152) ، والإبانة لابن بطة (294)، وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2/ 22). وانظر: الصارم المسلول (3/ 1071).
وقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة: «قَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» (1).
وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ هُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَهُمْ فَضَائِلُ وَمَحَاسِنُ. وَمَا يُحْكَى عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْهُ كَذِبٌ؛ وَالصِّدْقُ مِنْهُ إنْ كَانُوا فِيهِ مُجْتَهِدِينَ: فَالْمُجْتَهِدُ إذَا أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُ يُغْفَرُ لَهُ.
وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ لَهُمْ ذُنُوبًا فَالذُّنُوبُ لَا تُوجِبُ دُخُولَ النَّارِ مُطْلَقًا إلَّا إذَا انْتَفَتْ الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ عَشْرَةٌ. مِنْهَا: التَّوْبَةُ، وَمِنْهَا الِاسْتِغْفَارُ، وَمِنْهَا الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ، وَمِنْهَا الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ، وَمِنْهَا شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَمِنْهَا شَفَاعَةُ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا مَا يُهْدَى لِلْمَيِّتِ مِنْ الثَّوَابِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ، وَمِنْهَا فِتْنَةُ الْقَبْرِ، وَمِنْهَا أَهْوَالُ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (2).
(1) رواه مسلم بلفظ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ ـ إِنْ شَاءَ اللهُ ـ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ. الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا» .
(2)
الذي في الصحيحين بلفظ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» .
ورواه مسلم بلفظ: «خَيْرُ أُمَّتِى الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ «ولفظ: «خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم:أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ «الْقَرْنُ الَّذِى أَنَا فِيهِ ثُمَّ الثَّانِى ثُمَّ الثَّالِث» (رواه مسلم).
ورواه الإمام أحمد في المسند عَنْ عَبْدِ الله بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خَيْرُ أُمَّتِى الْقَرْنُ الَّذِى بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وَاللهُ أَعْلَمُ أَقَالَ الثَّالِثَةَ أَمْ لَا».
وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن شقيق فمن رجال مسلم» . وكذلك رواه أبو داود والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه وصححه الألباني.
وَحِينَئِذٍ فَمَنْ جَزَمَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ لَهُ ذَنْبًا يَدْخُلُ بِهِ النَّارَ قَطْعًا فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ. فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ لَكَانَ مُبْطِلًا فَكَيْفَ إذَا قَالَ مَا دَلَّتْ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ عَلَى نَقِيضِهِ؟ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ـ وَقَدْ نَهَى اللهُ عَنْهُ: مِنْ ذَمِّهِمْ أَوْ التَّعَصُّبِ لِبَعْضِهِمْ بِالْبَاطِلِ ـ فَهُوَ ظَالِمٌ مُعْتَدٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» (1). وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الْحَسَنِ: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (2).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ: «تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} (الحجرات:9) فَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ كَانُوا أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَةِ لَهُ» اهـ (3).
وقال أيضًا رحمه الله:
«وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمُخْتَارُ الْإِمْسَاكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالِاسْتِغْفَارَ لِلطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا وَمُوَالَاتَهُمْ؛ فَلَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَسْكَرِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجْتَهِدًا مُتَأَوِّلًا كَالْعُلَمَاءِ بَلْ فِيهِمْ الْمُذْنِبُ وَالْمُسِيءُ وَفِيهِمْ الْمُقَصِّرُ فِي الِاجْتِهَادِ لِنَوْعِ مِنْ الْهَوَى لَكِنْ إذَا كَانَتْ السَّيِّئَةُ فِي حَسَنَاتٍ كَثِيرَةٍ كَانَتْ مَرْجُوحَةً مَغْفُورَةً.
وَ (أَهْلُ السُّنَّةِ) تُحْسِنُ الْقَوْلَ فِيهِمْ وَتَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ لَكِنْ لَا يَعْتَقِدُونَ الْعِصْمَةَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَعَلَى الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ إلَّا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم.
وَمَنْ سِوَاهُ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ وَالْخَطَأِ لَكِنْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} الْآيَةَ. وَفَضَائِلُ الْأَعْمَالِ إنَّمَا هِيَ بِنَتَائِجِهَا وَعَوَاقِبِهَا لَا بِصُوَرِهَا» اهـ (4).
وقال أيضًا رحمه الله:
«وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ لَا يَعْتَقِدُونَ عِصْمَةَ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا الْقَرَابَةِ وَلَا السَّابِقِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ وُقُوعُ الذُّنُوبِ مِنْهُمْ، وَاللهُ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَيَرْفَعُ بِهَا دَرَجَاتِهِمْ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِك مِنْ الْأَسْبَابِ، قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} (الزمر:33 - 35)،، وَقَالَ تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} (الأحقاف:15 - 16).
وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ هُمْ الَّذِينَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ.
فَأَمَّا الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ؛ وَالصَّالِحُونَ: فَلَيْسُوا بِمَعْصُومِينَ. وَهَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ.
وَأَمَّا مَا اجْتَهَدُوا فِيهِ: فَتَارَةً يُصِيبُونَ، وَتَارَةً يُخْطِئُونَ.
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه البخاري بلفظ: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .
(3)
مجموع الفتاوى (ج 4/ 431 - 433) ط دار الوفاء.
(4)
مجموع الفتاوى 4/ 434 ط دار الوفاء.
فَإِذَا اجْتَهَدُوا فَأَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدُوا وَأَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ، وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ.
وَأَهْلُ الضَّلَالِ يَجْعَلُونَ الْخَطَأَ وَالْإِثْمَ مُتَلَازِمَيْنِ: فَتَارَةً يَغْلُونَ فِيهِمْ؛ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ مَعْصُومُونَ. وَتَارَةً يَجْفُونَ عَنْهُمْ؛ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ بَاغُونَ بِالْخَطَأِ. وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لَا يُعَصِّمُونَ، وَلَا يُؤَثِّمُونَ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تُولَدُ كَثِيرٌ مِنْ فِرَقِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ. فَطَائِفَةٌ سَبَّتْ السَّلَفَ وَلَعَنَتْهُمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذُنُوبًا، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهَا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَةَ؛ بَلْ قَدْ يُفَسِّقُونَهُمْ؛ أَوْ يُكَفِّرُونَهُمْ، كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ كَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانَ بْنَ عفان، وَمَنْ تَوَلَّاهُمَا، وَلَعَنُوهُمْ، وَسَبُّوهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا قِتَالَهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» (1)، وَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم:«تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَتُقَاتِلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ لِأَجْلِ الْحَقِّ» (2) وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمَارِقَةُ الَّذِينَ مَرَقُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَفَّرُوا كُلَّ مَنْ تَوَلَّاهُ.
وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٍ مَعَ عَلِيٍّ، وَفِرْقَةٍ مَعَ مُعَاوِيَةَ. فَقَاتَلَ هَؤُلَاءِ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بَهْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الْحَسَنِ ابْنِهِ:«إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ بَهْ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (3) فَأَصْلَحَ اللهُ بَهْ بَيْنَ شِيعَةِ عَلِيٍّ وَشِيعَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَأَثْنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى الْحَسَنِ بِهَذَا الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ عَلَى يَدَيْهِ وَسَمَّاهُ سَيِّدًا بِذَلِك؛ لِأَجْلِ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيَرْضَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ. وَلَوْ كَانَ
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2)
رواه مسلم بلفظ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» .
(3)
رواه البخاري بلفظ: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .
الِاقْتِتَالُ الَّذِي حَصَلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِك؛ بَلْ يَكُونُ الْحَسَنُ قَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، أَوْ الْأَحَبَّ إلَى اللهِ.
وَهَذَا النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ مَحْمُودٌ، مَرْضِيٌّ للهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَضَعُهُ عَلَى فَخِذِهِ، وَيَضَعُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَيَقُولُ:«اللهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا، وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» (1).
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ظَهَرَ فِيهِ مَحَبَّتُهُ وَدَعْوَتُهُ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِنَّهُمَا كَانَا أَشَدَّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الْأَمْرِ الَّذِي مَدَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بِهِ الْحَسَنَ، وَأَشَدَّ النَّاسِ كَرَاهَةً لَمَا يُخَالِفُهُ.
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَتْلَى مِنْ أَهْلِ صِفِّين لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بِمَنْزِلَةِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، الَّذِينَ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ مَدَحَ الصُّلْحَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ مُتَّفِقِينَ عَلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَظَهَرَ مِنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه السُّرُورُ بِقِتَالِهِمْ؛ وَمِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ مَا قَدْ ظَهَرَ عَنْهُ.
وَأَمَّا قِتَالُ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُرْوَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِيهِ أَثَرٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ سُرُورٌ؛ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ الْكَآبَةُ، وَتَمَنَّى أَنْ لَا يَقَعَ، وَشَكَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ، وَبَرَّأَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْكُفْرِ
(1) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما:كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ «اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا» . (رواه البخاري).
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّى أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا» . (رواه البخاري).
أما لفظة: «وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» فوجدته خاصًا بالحسن والحسين رضي الله عنهما فعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ:
طَرَقْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِي قُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ؟
قَالَ: فَكَشَفَهُ فَإِذَا حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَى وَرِكَيْهِ.
فَقَالَ: «هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِيَ؛ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» (رواه الترمذي وحسنه الألباني).
(الطَّرْقُ): الْإِتْيَانُ بِاللَّيْلِ. (فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ) أَيْ لِأَجْلِ حَاجَةٍ مِنْ الْحَاجَاتِ (وَهُوَ مُشْتَمِلٌ) أَيْ مُحْتَجِبٌ (فَكَشَفَهُ) أَيْ أَزَالَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحِجَابِ (عَلَى وَرِكَيْهِ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ: مَا فَوْقَ الْفَخِذِ، (هَذَانِ اِبْنَايَ) أَيْ حُكْمًا. (وَابْنَا اِبْنَتِي) أَيْ حَقِيقَةً. (اهـ باختصار من تحفة الأحوذي).
وَالنِّفَاقِ، وَأَجَازَ التَّرَحُّمَ عَلَى قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَمْثَالَ ذَلِك مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا اتِّفَاقُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُؤْمِنَةٌ.
وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اقْتِتَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات:9 - 10)؛ فَسَمَّاهُمْ (مُؤْمِنِينَ) وَجَعَلَهُمْ (إخْوَةً) مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ.
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ «إذَا اقْتَتَلَ خَلِيفَتَانِ فَأَحَدُهُمَا مَلْعُونٌ» كَذِبٌ مُفْتَرًى لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَمَدَةِ.
ومُعَاوِيَةُ لَمْ يَدَّعِ الْخِلَافَةَ؛ وَلَمْ يُبَايَعْ لَهُ بِهَا حِينَ قَاتَلَ عَلِيًّا، وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ، وَلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ، وَيُقِرُّونَ لَهُ بِذَلِك، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ يُقِرُّ بِذَلِك لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ، وَلَا كَانَ مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ يَرَوْنَ أَنْ يَبْتَدُوا عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ بِالْقِتَالِ، وَلَا يَعْلُوَا.
بَلْ لَمَّا رَأَى عَلِيٌّ رضي الله عنه وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَمُبَايَعَتُهُ، إذْ لَا يَكُون لِلْمُسْلِمَيْنِ إلَّا خَلِيفَةٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ، وَهُمْ أَهْلُ شَوْكَةٍ رَأَى أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا هَذَا الْوَاجِبَ، فَتَحْصُلَ الطَّاعَةُ وَالْجَمَاعَةُ.
وَهُمْ (1) قَالُوا: إنَّ ذَلِك لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّهُمْ إذَا قُوتِلُوا عَلَى ذَلِك كَانُوا مَظْلُومِينَ قَالُوا: لِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَتُهُ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ، وَهُمْ غَالِبُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ، فَإِذَا امْتَنَعْنَا ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا عَلَيْنَا. وَعَلِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُمْ، كَمَا لَمْ يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ عَنْ عُثْمَانَ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُبَايِعَ خَلِيفَةً يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْصِفَنَا وَيَبْذُلَ لَنَا الْإِنْصَافَ.
(1) أي مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ.
وَكَانَ فِي جُهَّالِ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يَظُنُّ بِعَلِيِّ وَعُثْمَانَ ظُنُونًا كَاذِبَةً، بَرَّأَ اللهُ مِنْهَا عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ: كَانَ يَظُنُّ بِعَلِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَحْلِفُ ـ وَهُوَ الْبَارُّ الصَّادِقُ بِلَا يَمِينٍ ـ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَلَا رَضِيَ بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يُمَالِئْ عَلَى قَتْلِهِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِلَا رَيْبٍ مِنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
فَكَانَ أُنَاسٌ مِنْ مُحِبِّي عَلِيٍّ وَمِنْ مُبْغِضِيهِ يُشِيعُونَ ذَلِك عَنْهُ: فَمُحِبُّوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِك الطَّعْنَ عَلَى عُثْمَانَ بِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، وَأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ بِقَتْلِهِ. وَمُبْغِضُوهُ يَقْصِدُونَ بِذَلِك الطَّعْنَ عَلَى عَلِيٍّ، وَأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ الشَّهِيدِ، الَّذِي صَبَّرَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهَا، وَلَمْ يَسْفِكْ دَمَ مُسْلِمٍ فِي الدَّفْعِ عَنْهُ، فَكَيْفَ فِي طَلَب طَاعَتِهِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ بِهَا الزَّائِغُونَ عَلَى الْمُتَشَيِّعِينَ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَالْعَلَوِيَّةِ.
وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُتَشَيِّعِينَ مُقِرَّةٌ مَعَ ذَلِك بِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَاوِيَةُ كُفْئًا لِعَلِيِّ بِالْخِلَافَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةٌ مَعَ إمْكَانِ اسْتِخْلَافِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَإِنَّ فَضْلَ عَلِيٍّ وَسَابِقِيَّتَهُ، وَعِلْمَهُ، وَدِينَهُ، وَشَجَاعَتَهُ، وَسَائِرَ فَضَائِلِهِ: كَانَتْ عِنْدَهُمْ ظَاهِرَةً مَعْرُوفَةً، كَفَضْلِ إخْوَانِهِ: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم.
وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى غَيْرُهُ وَغَيْرُ سَعْدٍ، وَسَعْدٌ كَانَ قَدْ تَرَكَ هَذَا الْأَمْرَ، وَكَانَ الْأَمْرُ قَدْ انْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ لَمْ يَبْقَ لَهَا مُعَيَّنٌ إلَّا عَلِيٌّ رضي الله عنه وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ بِسَبَبِ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَحَصَلَ بِذَلِك قُوَّةُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَضَعْفُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، حَتَّى حَصَلَ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ مَا صَارَ يُطَاعُ فِيهِ مَنْ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالطَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف، وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: مَا يَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا يُجْمِعُونَ مِنْ الْفُرْقَةِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: «إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» (1) فَلَيْسَ فِي كَوْنِ عَمَّارٍ تَقْتُلهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ مَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ
(1) رواه البخاري ومسلم.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات:9 - 10)؛ فَقَدْ جَعَلَهُمْ مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ مُؤْمِنِينَ إخْوَةً؛ بَلْ مَعَ أَمْرِهِ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ جَعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ بَغْيًا وَظُلْمًا أَوْ عُدْوَانًا يُخْرِجُ عُمُومَ النَّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ، وَلَا يُوجِبُ لَعْنَتَهُمْ؛ فَكَيْفَ يُخْرِجُ ذَلِك مَنْ كَانَ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ؟
وَكُلُّ مَنْ كَانَ بَاغِيًا، أَوْ ظَالِمًا، أَوْ مُعْتَدِيًا، أَوْ مُرْتَكِبًا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَهُوَ قِسْمَانِ: مُتَأَوِّلٌ، وَغَيْرُ مُتَأَوِّلٍ.
فَالْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ: كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، الَّذِينَ اجْتَهَدُوا، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ حِلَّ أُمُورٍ، وَاعْتَقَدَ الْآخَرُ تَحْرِيمَهَا، فَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلُونَ الْمُجْتَهِدُونَ غَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة:286)، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ (1).
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ رضي الله عنه إنَّمَا حَكَمَا فِي الْحَرْثِ، وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ، مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا فَهِمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِك مَلُومًا وَلَا مَانِعًا لِمَا عُرِفَ مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِك مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ يَكُون إثْمًا وَظُلْمًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ فِسْقًا، بَلْ مَتَى عُلِمَ تَحْرِيمُهُ ضَرُورَةً كَانَ تَحْلِيلُهُ كُفْرًا. فَالْبَغْيُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
أَمَا إذَا كَانَ الْبَاغِي مُجْتَهِدًا وَمُتَأَوِّلًا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ بَاغٍ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ: لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ (بَاغِيًا) مُوجِبَةً لِإِثْمِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تُوجِبَ فِسْقَهُ.
(1) رواه مسلم.
وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ؛ يَقُولُونَ: مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ قِتَالُنَا لَهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرِ بَغْيِهِمْ؛ لَا عُقُوبَةً لَهُمْ؛ بَلْ لِلْمَنْعِ مِنْ الْعُدْوَانِ.
وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ؛ لَا يُفَسَّقُونَ.
وَيَقُولُونَ هُمْ كَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ، كَمَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالنَّاسِي وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْهُمْ؛ بَلْ تُمْنَعُ الْبَهَائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ.
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قُتِلَ مُؤْمِنًا خَطَأً الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وَهَكَذَا مَنْ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحُدُودِ وَتَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.
ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْبَغْيُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ: يَكُون ذَنْبًا، وَالذُّنُوبُ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا بِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ: بِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِك.
ثُمَّ «إنَّ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لمعاوية وَأَصْحَابِهِ؛ بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بَهْ تِلْكَ الْعِصَابَةُ الَّتِي حَمَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلَتْهُ، وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعَسْكَرِ، وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَتْلِ عَمَّارٍ: كَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص، وَغَيْرِهِ؛ بَلْ كُلُّ النَّاسِ كَانُوا مُنْكَرِينَ لِقَتْلِ عَمَّارٍ، حَتَّى مُعَاوِيَةُ، وَعَمْرٌو.
وَالْفُقَهَاءُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ رَأْيُهِ الْقِتَالُ مَعَ مَنْ قَتَلَ عَمَّارًا؛ لَكِنْ لَهُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ: مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِتَالَ مَعَ عَمَّارٍ وَطَائِفَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِمْسَاكَ عَنْ الْقِتَالِ مُطْلَقًا.
وَفِي كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ طَوَائِفُ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ.
فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَمَّارٌ، وَسَهْلُ بْنُ حنيف، وَأَبُو أَيُّوبَ.
وَفِي الثَّانِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مسلمة؛ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُمْ. وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَسْكَرَيْنِ بَعْدَ عَلِيٍّ أَفَضْلُ مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ مِنْ الْقَاعِدِينَ. (1)
قال الأستاذ الدكتور محمد أمحزون في خاتمة كتابه القيم (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدّثين):
«إن موضوع النزاع والخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه يجب أن ينظر إليه من زاويتين:
الأولى: إن اللوم في تلك الفتنة على العموم يلقى على قتلة عثمان رضي الله عنه؛ لأن كل من قُتِل من المسلمين بأيدي إخوانهم منذ قتل عثمان رضي الله عنه إنما يقع إثمه عليهم، فهم الذين فتحوا باب الفتنة وكل ما وقع بعد ذلك فإثمه ووزره عليهم، إذ كانوا هم السبب المباشر فيها، وهم الفئة المعتدية الظالمة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في الجمل وصفين وما تفرق عنها من أحداث وآراء ومواقف فتحت باب الخلاف والفرقة بين المسلمين.
الثانية: إن ما حدث من جانب الصحابة رضي الله عنهم في هذه الفتنة يُحمَل على حسن النية والاختلاف في التقدير والاجتهاد، كما يحمل على وقوع الخطأ والإصابة، ولكنهم على كل حال كانوا مجتهدين وهم لإخلاصهم في اجتهادهم مثابون عليه في حالتي الإصابة والخطأ، وإن كان ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ؛ لأن كل فئة كانت لها وجهة نظر تدافع عنها بحسن نية، حيث إن الخلاف بينهم لم يكن بسبب التنافس على الدنيا، وإنما كان اجتهادًا من كل منهم في تطبيق شرائع الإسلام.
وقد سئل ابن المبارك عن الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما فقال: «فتنة عصم الله منها سيوفنا فلْنَعصِمْ منها ألسنتَنا» ـ يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبًا فيه.
وسئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: «قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغِبْنَا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتَّبَعْنا، واختلفوا فوقَفْنا» . (2)
ويقول النووي رحمه الله في شرحه لحديث (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ):
«وَأَمَّا كَوْن الْقَاتِل وَالْمَقْتُول مِنْ أَهْل النَّار فَمَحْمُول عَلَى مَنْ لَا تَأْوِيل لَهُ، وَيَكُون قِتَالهمَا عَصَبِيَّة وَنَحْوهَا - ثُمَّ كَوْنه فِي النَّار مَعْنَاهُ مُسْتَحِقّ لَهَا، وَقَدْ يُجَازَى بِذَلِكَ، وَقَدْ يَعْفُو اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. هَذَا مَذْهَب أَهْل الْحَقّ، وَقَدْ سَبَقَ تَأْوِيله مَرَّات، وَعَلَى هَذَا يُتَأَوَّل كُلّ مَا جَاءَ مِنْ نَظَائِره.
وَاعْلَمْ أَنَّ الدِّمَاء الَّتِي جَرَتْ بَيْن الصَّحَابَة رضي الله عنهم لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي هَذَا الْوَعِيد، وَمَذْهَب أَهْل السُّنَّة وَالْحَقّ إِحْسَان الظَّنّ بِهِمْ، وَالْإِمْسَاك عَمَّا شَجَرَ بَيْنهمْ، وَتَأْوِيل قِتَالهمْ، وَأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُتَأَوِّلُونَ لَمْ يَقْصِدُوا مَعْصِيَة وَلَا مَحْض الدُّنْيَا، بَلْ اِعْتَقَدَ كُلّ فَرِيق أَنَّهُ الْمُحِقّ، وَمُخَالِفه بَاغٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ قِتَاله لِيَرْجِع إِلَى أَمْر اللَّه.
وَكَانَ بَعْضهمْ مُصِيبًا، وَبَعْضهمْ مُخْطِئًا مَعْذُورًا فِي الْخَطَأ؛ لِأَنَّهُ لِاجْتِهَادٍ، وَالْمُجْتَهِد إِذَا أَخْطَأَ لَا إِثْم عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلِيّ رضي الله عنه هُوَ الْمُحِقّ الْمُصِيب فِي تِلْك الْحُرُوب. هَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة، وَكَانَتْ الْقَضَايَا مُشْتَبِهَة حَتَّى إِنَّ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة تَحَيَّرُوا فِيهَا فَاعْتَزَلُوا الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا، وَلَمْ يَتَيَقَّنُوا الصَّوَاب، ثُمَّ تَأَخَّرُوا عَنْ مُسَاعَدَته مِنْهُمْ» (3).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وَاتَّفَقَ أَهْل السُّنَّة عَلَى وُجُوب مَنْع الطَّعْن عَلَى أَحَد مِنْ الصَّحَابَة بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ عَرَفَ الْمُحِقّ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي
(1) مجموع الفتاوى (35/ 69 - 79) ط دار الوفاء باختصار يسير.
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/ 322) في تفسير سورة الحجرات.
(3)
شرح صحيح مسلم (18/ 219 - 220).
تِلْكَ الْحُرُوب إِلَّا عَنْ اِجْتِهَاد وَقَدْ عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْ الْمُخْطِئ فِي الِاجْتِهَاد، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُؤْجَر أَجْرًا وَاحِدًا وَأَنَّ الْمُصِيب يُؤْجَر أَجْرَيْنِ» (1).
إن كتابة تاريخ الخلفاء الراشدين بصفة خاصة وتاريخ الصحابة بصفة عامة ـ من زاوية الرصد الإسلامي ـ ضرورة لازمة للأمة الإسلامية وليست نافلة يمكن الاستغناء عنها» اهـ. (2)
إن البحث فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، لا يقرب العبد إلى الله زلفى، فهم قد لقوا ربهم وهو أعلم بما شجر بينهم، فإن كان الأمر لا يقربك إلى الله زلفى وإنما قد يقودك إلى النار وأنت لا تعلم، فتجنبه أولى؛ إلا في حالة واحدة، وهي إن ظهر مبتدع مبطل يقدح فيهم بالباطل، فيجب الدفاع عنهم بحق وعدل مع التنبيه إلى أنه لا يدافع عن بعضهم فيقع في سب آخرين منهم، إنما يكون الدفاع عنهم رضي الله عنهم جميعًا، وإلا فيجب الصت والإمساك عما شجر بينهم.
ومعنى الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، هو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات، ونشر ذلك بين العامة، أو التعرض لهم بالتنقّص لفئة والانتصار لأخرى.
وهذا هو الذي دل عليه الحديث الثابت عند الطبراني وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» (3).
وقد فسر المناوي الحديث بأن معناه: ما شجر بينهم ـ أي الصحابة ـ من الحروب والمنازعات (4).
(1) فتح الباري (13/ 37).
(2)
تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة للأستاذ الدكتور محمد أمحزون ص601 - 606 بتصرف يسير.
(3)
انظر: السلسة الصحيحة للألباني (1/ 75).
(4)
فيض القدير (2/ 676).