الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الرابعة
الطليق ابن الطليق
قولهم: إن معاوية رضي الله عنه كان من الطلقاء فهو الطليق ابن الطليق.
وقولهم: «كان معاوية من المؤلَّفة قلوبهم» .
والجواب:
إذا كان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم فى رأيِ البعض، ففى رأيِ الكثيرين أنه ليس من المؤلفة قلوبهم، قال ابن عبد البر:«معاوية وأبوه من المؤلفة قلوبهم، ذكره فى ذلك بعضهم» ، وهو يُشعِر بأن الكثيرين لا يرون هذا الرأى، ولذا نجد الحافظ المحقق ابن حجر لم يذكر فى ترجمته شيئًا من هذا، وإنما ذكر فى ترجمة أبيه أنه من المؤلفة قلوبهم.
ومهما يكن من شئ فقد أسلم معاوية رضي الله عنه وحسن إسلامه، وحتى لو كان ممن أسلموا يوم الفتح، فلا يقدح ذلك فى عدالته وصحبته، بعد تزكية رب العزة لمن أسلموا بعد الفتح أيضًا قال تعالى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} (الحديد:10).
ولم تكن هناك عداوة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين معاوية رضي الله عنه، فمعاوية كان صغيرًا حين أسلم، ولم يحضر معركة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يحاربْه في أي موقعة، ولكن الشيعة نقلوا عداوة أمه وأبيه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عفا عن أمه وأبيه، وهما ممن قد حسن إسلامه، وتابا توبة نصوحا، والتوبة تجُبُّ ما قبلها.
وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومُعظم رجالات بني أمية على مختلف الأعمال، من الولاية والكتابة، وجباية الأموال، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمالٌ لرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكثر منهم، واستعمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأكثر رجال بني أمية، أكبر دليل على كفاءتهم وأمانتهم.
فقد ولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان على نجران، ومات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أمير عليها، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صدقات مَذْحج وصنعاء اليمن، ولم يزل عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستعمل عمرو بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة، وأبان بن سعيد بن العاص استعمله أيضًا على البحرين برها وبحرها حين عزل العلاء بن الحضرمي، فلم يزل عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأرسله قبل ذلك أميرًا على سرايا منها سرية إلى نجد وولاه عمر رضي الله عنه، ولا يتهم لا في دينه ولا في سياسته.
ومعاوية رضي الله عنه ولاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بعض عمله، واستخدمه كاتبًا بين يديه، وولاه أبو بكر الصَّدَّيق من بعده، ولم يطعن في كفاءته أحد.
وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (1)، فهذه الكلمات، جعل بعض الناس منها سُبَّة في جبين بني أمية وحدهم، وجعلوا يعيرونهم بأنهم الطلقاء وأبناء الطلقاء، ولم يفهموا أن هؤلاء الطلقاء وأبناءهم قد أسلموا وحسن إسلامهم، وكانت لهم مواقف مشهودة في نصرة الإسلام في الفتوحات في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته في عهد خلفائه الراشدين.
وهاهنا عدة نقاط متعلقة بوصف الطلقاء منها:
1ـ إن هذا الاتهام وليد عصر الخصومة الحزبية الحادة، لما تفجرت الأحقاد ضد بني أمية في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه وبعد بروز نجم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وخلافه مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث أصبح ذلك الوصف يعني عندهم أنهم قوم ضعاف الإيمان، دخلوا الإسلام رغبة في غنائمه، أو رهبة من القتل، ليكيدوا لأهله ويفيدوا أنفسهم.
(1) تنبيه: حديث «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ضعّفه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، والألباني في السلسلة الضعيفة والموضوعة (3/ 307).
2 ـ إن أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية رضي الله عنهما ليسا من الطلقاء بالمعنى الدقيق السابق لهذه الكلمة فقد أسلم أبو سفيان قبيل فتح مكة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجيشه بمر الظهران خارجها، وقد جاء فور إسلامه يدعو قومه إلى المسالمة والفتح.
أما معاوية ابنه فقد أكدت بعض الروايات أنه أسلم قبل الفتح أيضًا، غير أنه كان يخفي إسلامه ـ شأن بعض الناس آنذاك ـ لمكانته من أبيه الذي كان يقود القتال ضد المسلمين، فقد رُوى أنه أسلم سرًا يوم عمرة القضاء، أو عام الحديبية (1) وإنما وضعهم المؤرخون في زمرة هؤلاء الطلقاء لقرب وقت إسلام أبي سفيان من الفتح، ولأنه كان زعيم مكة الذي ارتبط إسلامه بإسلامها، كما أن معاوية كان إسلامه سرًا لم يشع، ولم يعرف إسلامه إلا مع الطلقاء بعد فتح مكة.
3 ـ إن وصف الطلقاء لا يقتضي الذم، فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح الذين أسلموا عام فتح مكة وأطلقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا نحوًا من ألفَيْ رجل، ومنهم من صار من خيار المسلمين كالحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، ويزيد بن أبي سفيان وحكيم بن حزام، وأبي سفيان بن الحارث، ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يهجوه ثم حسن إسلامه، وعتاب بن أسيد الذي ولاه النبي مكة لما فتحها، وغير هؤلاء ممن حسن إسلامهم.
4 ـ إن النظرة الإسلامية في هذا الشأن أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله (2).
والإسلام يفسح المجال للإفادة من جميع الطاقات والقدرات ويدفع بها نحو تحقيق غاياته الكبرى، وينزل الناس منازلهم، وأن خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا، ولم يمنع تأخر إسلام خالد وعمرو بن العاص من تبوئهما المكانة العالية عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسل عمْرًا أميرًا على ذات السلاسل، وسمّى خالدًا سيف الله، هذا مع حفظ المكانة الأسمى والمنزلة العظمى للسابقين الصادقين في الإسلام، ومن هؤلاء السابقين كان جماعة من بني أمية وغيرهم، كما كان من الطلقاء بني أمية وغيرهم.
5 -
أكثر الطلقاء من المؤلفة قلوبهم، كالحارث بن هشام، وابن أخيه عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وحكيم بن خزام، وهؤلاء من خيار المسلمين. والمؤلفة قلوبهم غالبهم حَسُن إسلامه.
ومعاوية ممن حَسُن إسلامه باتفاق أهل العلم. ولهذا ولاّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه موضع أخيه يزيد بن أبي سفيان لما مات أخوه يزيد بالشام.
وكان يزيد بن أبي سفيان من خيار الناس، وكان أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، مع أبي عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد.
فلما توفي يزيد بن أبي سفيان ولّى عمر مكانه أخاه معاوية، وعمر لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، وليس هو ممن يحابي في الولاية، وكان من أعظم الناس عداوة لأبيه أبي سفيان قبل الإسلام، فتولية عمر لابنه معاوية ليس لها سبب دنيوي، ولولا استحقاقه للإمارة لما أمّره.
ثم إن معاوية رضي الله عنه بقي في الشام عشرين سنة أميرًا، وعشرين سنة خليفة، ورعيته من أشد الناس محبة له وموافقة له، وهو من أعظم الناس إحسانًا إليهم وتأليفًا لقلوبهم.
(1) البداية والنهاية (11/ 396).
(2)
عن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا أَلْقَى اللهُ عز وجل فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لِيُبَايِعَنِي فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ فَقُلْتُ: «لَا أُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي» .
قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ، يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ» (رواه الإمام أحمد وصححه الألباني).
ورواه مسلم بلفظ «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» .