الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة السادسة عشرة
ادعاء الشيعة على معاوية رضي الله عنه أنه أخذ الخلافة بالقوة والقهر وحوّلها من الشورى إلى ملكية قيصرية بمبايعة ابنه يزيد.
الجواب:
1ـ لم يأخذ معاوية رضي الله عنه الخلافة بالقوة والقهر وإنما سُلّمَتْ له من قبل الحسن بن علي رضي الله عنهما وذلك بعدما تم الصلح بينهما.
2ـ عمل معاوية رضي الله عنه جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد، وتنشئته التنشئة الصحيحة، ليشب عليها عندما يكبر، فسمح لمطلقته ميسون بنت بحدل الكلبية ـ وكانت من الأعراب، وكانت من نسب حسيب، ومنها رزق بابنه يزيد ـ سمح لها أن تتولى تربيته في فترة طفولته، وكان يزيد وحيد أبيه، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب على حياة الشدة والفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية، ويتحلى بشمائل النخوة والشهامة والكرم والمروءة، إذ كان البدو أشد تعلقًا بهذه التقاليد.
كما أجبر معاوية ولده يزيد على الإقامة في البادية؛ لكي يكتسب قدرًا من الفصاحة في اللغة، كما هو حال العرب في ذلك الوقت.
وعندما رجع يزيد من البادية، نشأ وتربى تحت إشراف والده، ونحن نعلم أن معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث، فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث وبعض أخبار أهل العلم. وروى عنه ابنه خالد وعبد الملك بن مروان، وقد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي الطبقة العليا (1).
(1) البداية والنهاية لابن كثير (8/ 226 - 227).
وقد اختار معاويةُ دَغْفَلَ بن حنظلة السدوسي الشيباني مؤدبًا لولده يزيد، وكان دغفل علامة بأنساب العرب، وخاصة نسب قريش، وكذلك عارفًا بآداب اللغة العربية.
هذا مختصر لسيرة يزيد بن معاوية قبل توليه الخلافة.
3 -
أما عن فكرة ولاية العهد، فقد بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده، ففكر معاوية في هذا الأمر ورأى أنه إن لم يستخلف ومات ترجع الفتنة مرة أخرى.
فقام معاوية رضي الله عنه باستشارة أهل الشام في الأمر، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية، فرشح ابنه يزيد، فجاءت الموافقة من مصر وباقي البلاد وأرسل إلى المدينة يستشيرها.
وقد خالف عبد الله بن الزبير والحسين رضي الله عنهما هذه الموافقة ولا يقدح ذلك في البيعة إذ لابد من مخالف لذلك، ومن هنا نعلم أن معاوية رضي الله عنه حرص على موافقة الأمة على بيعة يزيد، ولو أراد معاوية الاستبداد وأخْذ البيعة ليزيد بالقوة والقهر كما يدعي الشيعة لاكتفى ببيعة واحدة، وفرضها على الناس فرضًا، وهذا ما لم يفعله معاوية بل قد خالف مَن خالف ولم يتخذ معاوية سبيل القوة لإرغامهم على البيعة.
وكان اعتراض هؤلاء النفر حول تطبيق الفكرة نفسها، لا على يزيد بعينه.
واعتبر معاوية أن معارضة هؤلاء ليس لها أثر، وأن البيعة قد تمت، حيث أجمعت الأمة على هذه البيعة.
وقد ثبت أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بايع يزيد وعندما قامت عليه الفتنة من المدينة جمع أهله وحذّرهم من الخروج على يزيد، فعَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ: «إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ، وَإِنِّى لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلَا بَايَعَ فِى هَذَا الأَمْرِ، إِلَاّ كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ». (رواه البخاري).
فهذا ابن عمر رضي الله عنه يعلن في أحرج المواقف ـ أي في ثورة أهل المدينة على يزيد بتحريض ابن الزبير وداعيته ابن مطيع ـ أن في عنقه كما في أعناقهم بيعة شرعية لإمامهم على بيع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن من أعظم الغدر أن تبايع الأمة إمامها ثم تنصب له القتال.
ولم يكتف ابن عمر بذلك في تلك الثورة على يزيد، بل روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عَنْ نَافِعٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: «اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً» .
قال الإمام ابن العربي المالكي: «وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد: «إن كان خيرًا رضينا، وإن كان شرًا صبرنا» .
وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: «دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استُخلِف يزيد بن معاوية فقال: «تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد، لا أفقهها فقهًا ولا أعظمها فيها شرفًا. وأنا أقول ذلك.
ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. أرأيتم بابًا دخل فيه أمة محمد ووسِعَهُم، أكان يعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه؟».
قلنا: لا.
قال: «أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم: لا أريقُ دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يَسَعُهم؟» .
قلنا: «نعم» .
قال: «فذلك ما أقول لكم» .
.. و (الصاحب) الذي كنَّى عنه حميد بن عبد الرحمن هو عبد الله بن عمر، والله أعلم.
وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة، وهي تعضد أن ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذ عقدت له. وذلك لما في حلها ـ أو طلب الفضل ـ من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة» (1).
4ـ ولقد كانت هناك أسباب كثيرة لتولية معاوية ابنه يزيد للعهد من بعده:
فهناك سبب سياسي:
وهو الحفاظ على وحدة الأمة، خاصة بعد الفتن التي تلاحقت يتلو بعضها بعضًا، وكان من الصعوبة أن يلتقي المسلمون على خليفة واحد، خاصة والقيادات المتكافئة في الإمكانيات قد تضرب بعضها بعضًا فتقع الفتن والملاحم بين المسلمين مرة ثانية، ولا يعلم مدى ذلك إلا الله تعالى.
وهناك سبب اجتماعي:
وهو قوة العصبية القبلية خاصة في بلاد الشام الذين كانوا أشد طاعة لمعاوية ومحبة لبني أمية، وليس أدل على ذلك من مبايعتهم ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه دون أن يتخلف منهم أحد.
(1) باختصار من العواصم من القواصم (ص 231).
وهناك أسباب شخصية في يزيد نفسه:
فليس معاوية بذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره وهو يسوس الناس ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته، وقد توفرت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام والقدرة على القيادة، وكل هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير.
5ـ إن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا حيال هذه الفكرة مواقف شتى، ففيهم المعارض، ومنهم المؤيد، وكانت حجة الفريق المعارض تعتمد على ما أوردته بعض الروايات التاريخية من أن يزيد بن معاوية كان شابًا لاهيًا عابثًا، مغرمًا بالصيد وشرب الخمر، وتربية الفهود والقرود، والكلاب
…
الخ.
ولكن مثل هذه الأوصاف لا تمثل الواقع الحقيقي لما كانت عليه حياة يزيد بن معاوية، فإضافة إلى ما سبق من الجهود التي بذلها معاوية في تنشئة وتأديب يزيد، نجد رواية في مصادرنا التاريخية قد تساعدنا في دحض مثل تلك الآراء.
قال الإمام ابن العربي المالكي: «فإن قيل: كان يزيد خمارًا.
قلنا: لا يحل قول ذلك إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه؟!!
بل شهد العدل بعدالته، فروى يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال الليث:«توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا» ؛ فسماه الليث «أمير المؤمنين» بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا «توفي يزيد» (1).
ويروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ـ المعروف بابن الحنفية ـ دخل يومًا على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت، فقال له يزيد، وكان له مُكرمًا:«يا أبا القاسم، إن كنت رأيت مني خُلُقًا تنكره نَزَعتُ عنه، وأتيت الذي تُشير به علي؟» .
(1) العواصم من القواصم (ص 231).
كما أنه شهد له بحسن السيرة والسلوك حينما أراده بعض أهل المدينة على خلعه والخروج معهم ضده، فيروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع ـ الذي كان داعية لابن الزبير ـ مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبَى عليهم.
فقال ابن مطيع: «إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب» .
فقال محمدبن الحنفية: «ما رأيت منه ما تذكرون، قد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة متحريًا للخير يسأل عن الفقه ملازمًا للسنة» .
قالوا: «ذلك كان منه تَصَنّعًا لك» .
قال: «وما الذي خاف مني أو رجا حتى يُظهِر إليّ الخشوع؟
ثم أفأطْلَعَكم على ما تَذْكُرون من شرب الخمر، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا».
قالوا: «إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه» .
فقال لهم: «أبى الله ذلك على أهل الشهادة، ولست من أمركم في شيء» (2).
وقد شهد له ابن عباس رضي الله عنه بالفضيلة وبايعه (3).
6 -
إن مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية، من أمثال عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وأبي أيوب الأنصاري، على مصاحبة جيش يزيد في سيره
(1) أنساب الأشراف للبلاذري (5/ 17).
(2)
البداية والنهاية (8/ 233)، وتاريخ الإسلام للذهبي (حوادث سنة 61 - 80هـ، ص274) وحسَّن محمد الشيباني إسناده، انظر: مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية (ص384).
(3)
انظر: أنساب الأشراف (4/ 289 - 290) وسنده حسن.
نحو القسطنطينية، فيها خير دليل على أن يزيد كان يتميز بالاستقامة، وتتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة، ويتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية ما يوكل إليه من مهمات.
وقد روى البخاري في صحيحه عن أم حَرَام الأنصارية رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا» .
قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ رضي الله عنها قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا فِيهِمْ؟»
قَالَ: «أَنْتِ فِيهِمْ» .
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ»
فَقُلْتُ: «أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟»
قَالَ: «لَا» . (رواه البخاري).
(مَدِينَةَ قَيْصَر) يَعْنِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة.
(قَدْ أَوْجَبُوا) أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّة.
قَالَ الْمُهَلَّب: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَة لِمُعَاوِيَة لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وَمَنْقَبَةٌ لِوَلَدِهِ يَزِيد لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ. (1)
وأخرج البخاري عن محمود بن الربيع في قصة عتبان بن مالك قال محمود: «فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي غَزْوَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِمْ بِأَرْضِ الرُّومِ» .
7 -
ولنستمع إلى وجهة النظر التي أبداها الأستاذ محب الدين الخطيب - حول مسألة ولاية العهد ليزيد - وهي جديرة بالأخذ بها للرد على ما سبق، فهو يقول (2):
«إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر وعمر في مجموع سجاياهما، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام، ولا عمر بن عبد العزيز، وإن طمعنا بالمستحيل
(1) باختصار من (فتح الباري).
(2)
في تعليقه على العواصم من القواصم لابن العربي (ص221).
وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر، فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر.
وإن كان مقياس الأهلية، الاستقامة في السيرة، والقيام بحرمة الشريعة، والعمل بأحكامها، والعدل في الناس، والنظر في مصالحهم، والجهاد في عدوهم، وتوسيع الآفاق لدعوتهم، والرفق بأفرادهم وجماعاتهم، فإن يزيد يوم تُمحّص أخباره، ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم، وأجزل الثناء عليهم».
8 -
نجد أيضًا في كلمات معاوية نفسه ما يدل على أن دافعه في اتخاذ مثل هذه الخطوة هو النفع للصالح العام وليس الخاص، فقد ورد على لسانه قوله:«اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيتُ من فضله، فبلّغه ما أملْتُ وأعِنْه، وإن كانت إنما حملني حبّ الوالد لولده، وأنه ليس لما صنعت به أهلًا، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك» (1).
9 -
لنتصور أن معاوية رضي الله عنه سلك إحدى الأمور الثلاث الآتية:
* ترك الناس بدون خليفة من بعده، مثلما فعل حفيده معاوية بن يزيد.
* نادَى في كل مَصر من الأمصار بأن يرشحوا لهم نائبًا ثم يختاروا من هؤلاء المرشحين خليفة.
* جعل يزيد هو المرشح، وبايعه الناس كما فعل.
ولنأخذ الأمر الأول:
كيف ستكون حالة المسلمين لو أن معاوية تناسى هذا الموضوع، وتركه ولم يرشح أحدًا لخلافة المسلمين حتى تُوُفّي.
قد يغلب على الظن أن الوضع سيكون أسوأ من ذلك الوضع الذي أعقب تصريح معاوية بن يزيد بتنازله عن الخلافة، وترك الناس في هرج ومرج، حتى
(1) تاريخ الإسلام للذهبي، عهد معاوية بن أبي سفيان (ص169)، وخطط الشام لمحمد كرد علي (1/ 137).
استقرت الخلافة أخيرًا لعبد الملك بن مروان بعد حروب طاحنة استمرت قرابة عشر سنوات.
ثم لنتصور الأمر الثاني:
نادى منادٍ في كل مَصر بأن يرشحوا نائبًا عنهم، حتى تكون مسابقة أخيرة ليتم فرز الأصوات فيها، ثم الخروج من هذه الأصوات بفوز مرشح من المرشحين ليكون خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية.
سيختار أهل الشام، رجل من بني أمية بلا شك، وربما كان يزيد، وربما غيره.
وسيختار أهل العراق في الغالب الحسين بن علي رضي الله عنهما.
وسيختار أهل الحجاز: إما عبد الله بن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر، أو ابن الزبير ـ رضي الله عن الجميع.
وسيختار أهل مصر: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
والسؤال الآن:
هل سيرضى كل مَصر بولاية واحد من هؤلاء، ويسَلّموا له، أم ستكون المعارضة واردة؟!
الجواب: أغلب الظن أن المعارضة ستظهر.
ولنسأل سؤالًا آخر:
في حالة أنه تم اختيار كل مرشح من قِبَل الأمصار، هل يستطيع معاوية رضي الله عنه أن يلزم كل مَصر بما اختاره أهل المصر الآخر؟!
الجواب: ستجد الدولة نفسها في النهاية أمام تنظيمات انفصالية، وسيعمد أدعياء الشر الذين قهرتهم الدولة بسلطتها إلى استغلال هذه الفوضى السياسية، ومن ثم الإفادة منها في إحداث شرخ جديد في كيان الدولة الإسلامية.
ونحن حينما نورد هذه الاعتراضات، فربما حصل ما أشرنا إليه، وربما حدث العكس من ذلك، ولكنا أوردنا ذلك حتى نتصور مدى عدم صحة الآراء التي أحيانًا يطلقها ويتحمس لها البعض دون الرجوع إلى الواقع التاريخي المحتم آنذاك.
لقد تعرض المجتمع المسلم إلى هزة عنيفة بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وترك كيانات وتيارات سياسية وعقائدية خطيرة، استوجبت من معاوية أن يدرك خطورة الأمر والفرقة التي سوف تحصل للمسلمين إذا لم يسارع بتعيين ولي عهد له.
ويبقى الأمر الثالث:
وهو ما فعله معاوية رضي الله عنه بتولية يزيد وليًا للعهد من بعده.
وقد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه، كل من ابن العربي (1)، وابن خلدون الذي كان أقواهما حجة، إذا يقول: «والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه
…
».
10 -
لم يبتدع معاوية نظامًا جديدًا للخلافة بتوريث ابنه يزيد، فقد سبقه إلى ذلك أبو بكر عندما عهد بالأمر لعمر بن الخطاب وقد عمد عمر إلى نفس الأمر فعهد بالولاية وحصَرَها في ستة من الصحابة رضي الله عنهم.
11 -
إذا احتج الشيعة بأن الاستخلاف في عهد الشيخين لم يكن للأبناء أي ملكًا وراثيًا فنقول لهم: «تذكر كتب الشيعة أن أول من فعل ذلك هو علي رضي الله عنه عندما
(1) العواصم من القواصم (228 - 229)
(2)
المقدمة لابن خلدون (210 - 211).
عهد بالخلافة من بعده لابنه الحسن، فقد ذكر الكليني في (أصول الكافي) عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ:«أَوْصَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام إِلَى الْحَسَنِ وَأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ الْحُسَيْنَ عليه السلام وَمُحَمَّدًا وَجَمِيعَ وُلْدِهِ وَرُؤَسَاءَ شِيعَتِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ» .
وذكر عَنْ أَبَانٍ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: «شَهِدْتُ وَصِيَّةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام حِينَ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ عليه السلام وَأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ الْحُسَيْنَ عليه السلام وَمُحَمَّدًا وَجَمِيعَ وُلْدِهِ وَرُؤَسَاءَ شِيعَتِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ» (1).
12ـ الشيعة الاثنا عشرية يعارضون في الأصل مبدأ الشورى ويدَّعون أن الولاية يجب أن ينص عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنص صريح، ويعارضون خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فلماذا يتباكون هنا على نظام الشورى الذي يعارضونه، ويعترضون على معاوية بولاية العهد لابنه يزيد؟
فهل لو جعلها شورى سيقبلها الشيعة الرافضة؟! أم أن الأمر عندهم سِيَّان؟!
الجواب: إنهم لن يقبلوها ولو كانت شورى من جميع المسلمين.
فلماذا هذه الإثارة الممجوجة والورع المكذوب من الشيعة على مبدأ الشورى وأغرب ما في الأمر اعتراضهم أن يورث معاوية ابنه يزيد وراثة قيصرية ملكية! مع أن أن أعظم اعتقاداتهم هو اعتقاد الإمامة وراثية قيصرية ملكية في ولد علي بن أبي طالب باستخلاف الأب للابن وهكذا؛ فهل هي حلال لهم حرام على غيرهم؟!
(1) أصول الكافي (1/ 297 - 298) ـ بَابُ الْإِشَارَةِ وَالنَّصِّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام.