المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة الخامسةقالوا: قاتل عليا وهوعند أهل السنة رابع الخلفاء، إمامحق، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم - معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين وكاتب وحي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم - كشف شبهات ورد مفتريات

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم الأستاذ الدكتور: أنور السنوسي

- ‌مقدمة

- ‌هذا معاوية رضي الله عنه

- ‌كيف نقرأ التاريخ

- ‌دور الشيعة في الدس على التاريخ الإسلامي وتشويهه:

- ‌وسائل الأخباريين في تشويه التاريخ:

- ‌تنبيه:

- ‌ذم في ثوب المدح، تشويق وتشويه

- ‌1 - قصة ابن الأكرمين:

- ‌2 - قصة أصابت امرأة وأخطأ عمر:

- ‌3 - قصة جلد عمر رضي الله عنه لابنه حتى الموت:

- ‌4 - قصة اغتسال فاطمة رضي الله عنها قبل الموت:

- ‌5 - حلم أم ظلم:

- ‌6 - ذكر أحد المعاصرين الغيورين ـ حفظه الله ـ الكلام التالي يستدل بها على ثقة عمر في معاوية وسعادة أبي سفيان بذلك:

- ‌7 - وقال هذا الغيور أيضًا ما يلي:

- ‌التحذير من أخبار يحتج بها الرافضة

- ‌منهج أهل السنة والجماعةفيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم

- ‌لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة رضي الله عنهم ولماذا الدفاع عنهم

- ‌معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في سطور

- ‌أبو سفيان بن حرب والد معاوية رضي الله عنهما

- ‌هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية رضي الله عنهما

- ‌من إخوان وأخوات معاوية رضي الله عنه

- ‌تاريخ إسلام معاوية رضي الله عنه

- ‌حقيقة ما حدث بين علي ومعاوية رضي الله عنهما

- ‌التحكيم

- ‌بطلان قصة التحكيم المشهورة

- ‌والصلح خير

- ‌فضائل معاوية رضي الله عنهمن فضائل معاوية رضي الله عنه في القرآن الكريم:

- ‌من فضائل معاوية رضي الله عنهفي السُّنّة النبوية الصحيحة

- ‌من فضائل معاوية رضي الله عنهثبوت كونه كاتبًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكتابته الوحي

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهكونه خال المؤمنين

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهأنه أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ وقد وجبت له الجنة

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنه أنه من الذينرآهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهأنه كان من الذين أحبُّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يَعِزّوا، فأعزّهم الله

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهأنه كانت له منزلةٌ خاصة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهدلائل النبوة في الإخبار بأن ولايته رحمةٌ على الأمة

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالهداية وبالوقاية من العذاب

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهأنه أحد الخلفاء الاثني عشر

- ‌معاوية رضي الله عنهأم عمر بن عبد العزيز رحمه الله

- ‌أحاديث لا تصح في شأن معاوية رضي الله عنه مدحًا وذمًا

- ‌تعظيممعاوية رضي الله عنه لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌توقيرمعاوية رضي الله عنه لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌أمر معاوية رضي الله عنهبالمعروف وإنكاره للمنكر

- ‌معاوية رضي الله عنهطالبًا للعلم والنصيحة

- ‌بعض الأحاديث التيرواها معاوية رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌علم معاوية رضي الله عنه وفقهه

- ‌ذكر بعض ما جاءمن ثناء الصحابة على معاوية رضي الله عنهم

- ‌ذكر بعض ما جاءمن ثناء التابعين على معاوية رضي الله عنه

- ‌ذكر بعض ما جاءمن ثناء العلماء على معاوية رضي الله عنه

- ‌تواضع معاوية رضي الله عنه وزهده

- ‌حِلممعاوية رضي الله عنه ورحابة صدره

- ‌جهادمعاوية رضي الله عنه وفتوحاته

- ‌عدل معاوية رضي الله عنه

- ‌حرص معاوية رضي الله عنهعلى توطين الأمن في خلافته

- ‌اهتمام معاوية رضي الله عنه برعيته

- ‌بعض ما رُويمن أقوال معاوية رضي الله عنه

- ‌كشف شبهاتالشيعة حول معاوية رضي الله عنه

- ‌الشبهة الأولى«لا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ»

- ‌الشبهة الثانية«وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ»

- ‌الشبهة الثالثة«إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»

- ‌الشبهة الرابعةالطليق ابن الطليق

- ‌الشبهة الخامسةقالوا: قاتل عليًا وهوعند أهل السنة رابع الخلفاء، إمامحق، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم

- ‌الشبهة السادسة

- ‌الشبهة السابعة

- ‌الشبهة الثامنة

- ‌الشبهة التاسعة

- ‌الشبهة العاشرة

- ‌الشبهة الحادية عشرة

- ‌الشبهة الثانية عشرة

- ‌الشبهة الثالثة عشرة

- ‌الشبهة الرابعة عشرة

- ‌الشبهة الخامسة عشرة

- ‌الشبهة السادسة عشرة

- ‌الشبهة السابعة عشرةهل لُعِنَ عليٌّ على المنابر بأمر من معاوية رضي الله عنهما

- ‌الشبهة الثامنة عشرةمسألة سب معاوية لعلي رضي الله عنهما

- ‌الشبهة التاسعة عشرةهل حُمِلَتْ الخمرُ لمعاوية رضي الله عنه

- ‌الشبهة العشرونهل باع معاوية رضي الله عنه الأصنام لأهل الهند

- ‌الشبهة الحادية والعشرونهل أقسم معاوية رضي الله عنهاليمين الغموس وكذبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌الشبهة الثانية والعشرونهل قتل معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد

- ‌الشبهة الثالثة والعشرونهل قتل معاوية الأشتر مالك بن الحارث النخعي

- ‌الشبهة الرابعة والعشرونهل معاوية رضي الله عنه ذمه كثير من المهاجرينوالأنصار من البدريين وغيرهم رضي الله عنهم

- ‌الشبهة الخامسة والعشرونهل معاوية رضي الله عنه ذمه كثير من التابعينكالحسن البصري والأسود بن يزيد وغيرهم

- ‌الشبهة السادسة والعشرونقولهم: «قتلَ ابنُه يزيد الحسينَ رضي الله عنه ونهب نساءه»

- ‌الشبهة السابعة والعشروناستلحاق معاوية رضي الله عنه زياد بن أبيه

- ‌الشبهة الثامنة والعشرونقَتْلُه حِجْر بنَ عدي وأصحابه

- ‌الشبهة التاسعة والعشروناتهام معاوية رضي الله عنه بشرب الخمر

- ‌الشبهة الثلاثونافتراءات حول مصارفالأموال في عهد معاوية رضي الله عنه

- ‌الشبهة الحادية والثلاثونهل قال معاوية رضي الله عنه: «إن الكريم طروب»

- ‌الشبهة الثانية والثلاثونهل أراد معاوية رضي الله عنه أن ينقلمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى الشام

- ‌الشبهة الثالثة والثلاثون

- ‌الشبهة الرابعة والثلاثونهل تعامل معاوية رضي الله عنه بالربا

- ‌الشبهة الخامسة والثلاثونهل قتل معاوية رضي الله عنهخمسة وعشرين بدريًا يوم صِفِّين

- ‌أهم المراجع

الفصل: ‌الشبهة الخامسةقالوا: قاتل عليا وهوعند أهل السنة رابع الخلفاء، إمامحق، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم

‌الشبهة الخامسة

قالوا: قاتل عليًا وهو

عند أهل السنة رابع الخلفاء، إمام

حق، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم

الجواب:

أولًا: إن الخلاف بين علي ومخالفيه رضي الله عنهم إنما هو في تقديم الاقتصاص من قتلة عثمان أو تأخيره مع اتفاقهم على وجوب تنفيذه.

يقول ابن حجر الهيتمي: «ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي كما مر فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم، لكون معاوية ابن عمه فامتنع علي» (1).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى بْن سُلَيْمَان الْجُعْفِيُّ أَحَد شُيُوخ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب (صِفِّينَ) فِي تَأْلِيفه بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ أَبِي مُسْلِم الْخَوْلَانِيّ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «أَنْتَ تُنَازِع عَلِيًّا فِي الْخِلَافَة أَوَ أَنْتَ مِثْله؟» ، قَالَ:«لَا، وَإِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ أَفْضَل مِنِّي وَأَحَقّ بِالْأَمْرِ، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَان قُتِلَ مَظْلُومًا وَأَنَا اِبْن عَمّه وَوَلِيّه أَطْلُب بِدَمِهِ؟ فَأْتُوا عَلِيًّا فَقُولُوا لَهُ يَدْفَع لَنَا قَتَلَة عُثْمَان» .

فَأَتَوْهُ فَكَلَّمُوهُ فَقَالَ: «يَدْخُل فِي الْبَيْعَة وَيُحَاكِمهُمْ إِلَيَّ» .

فَامْتَنَعَ مُعَاوِيَة فَسَارَ عَلِيّ فِي الْجُيُوش مِنْ الْعِرَاق حَتَّى نَزَلَ بِصِفِّينَ، وَسَارَ مُعَاوِيَة حَتَّى نَزَلَ هُنَاكَ وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّة سَنَة سِتّ وَثَلَاثِينَ، فَتَرَاسَلُوا فَلَمْ يَتِمّ لَهُمْ أَمْر، فَوَقَعَ الْقِتَال (2).

وهذه المسألة مقررة أيضًا عند أهل العلم من أهل السنة بما ثبت في ذلك من الأخبار، والآثار الدالة على أن عليًا رضي الله عنه لا ينازع مخالفيه في وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان يرى تأجيل ذلك حتى يستتب له الأمر.

وذلك أن قتلة عثمان رضي الله عنه كانوا قد تمكنوا من المدينة، ثم قام في أمرهم من الأعراب وبعض أصحاب الأغراض الخبيثة ما أصبح به قتلهم في أول عهد علي رضي الله عنه متعذرًا.

يشهد لهذا ما ذكره الطبري حيث يقول: «واجتمع إلى علي بعدما دخل طلحة والزبير في عدة من الصحابة، فقالوا: «يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم» ، فقال لهم:«يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابَتْ إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعًا لقدرة على شيء مما تريدون؟» .

قالوا: «لا» .

قال: «فلا والله لا أرى إلا رأيًا ترونه إن شاء الله» (3).

ويقول ابن كثير: «ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة رضي الله عنهم وطلبوا منه إقامة الحدود، والأخذ بدم عثمان، فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا» (4).

(1) الصواعق المحرقة (ص 216).

(2)

فتح الباري لابن حجر (13/ 86).

(3)

تاريخ الطبري (4/ 437).

(4)

البداية والنهاية (7/ 239).

ص: 170

فكان هذا هو عذر علي رضي الله عنه في بداية الأمر، أما بعد ذلك فإن الأمور أصبحت أكثر تعقيدًا، وأشدّ اشتباهًا، خصوصًا بعدما اقتتل الصحابة رضي الله عنهم في معركة الجمل بغير اختيار منهم، وإنما بسبب المكيدة التي دبرها قتلة عثمان للوقيعة بينهم، فلم يكن أمر الاقتصاص مقدورًا عليه بعد هذه الأحداث لا لعلي، ولا لغيره من مخالفيه رضي الله عنهم، وذلك لتفرق الأمة وانشغالها بما هو أولى منه من تسكين الفتنة ورأب الصدع.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لم يكن علي رضي الله عنه مع تفرق الناس عليه متمكنًا من قتْل قتَلة عثمان رضي الله عنه، إلا بفتنة تزيد الأمر شرًّا وبلاءً. ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس، لأنهم كانوا عسكرًا، وكان لهم قبائل تغضب لهم» (1).

وأيًا كان عذر علي رضي الله عنه فالمقصود هنا أنه لا يخالف بقية الصحابة المطالبين بدم عثمان رضي الله عنه في وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه وهذا مما يدل على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على هذه المسألة، والله تعالى أعلم.

ثانيًا: إن الصحابة رضي الله عنهم الذين اختلفوا في الفتنة لم يتهم بعضهم بعضًا في الدين، وإنما كان يرى كل فريق منهم أن مخالفه وإن كان مخطئًا، فهو مجتهد متأول، يعترف له بالفضل في الإسلام وحسن الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذه مسألة مقررة عند أهل العلم أيضًا بما ثبت من ثناء الصحابة بعضهم على بعض رضي الله عنهم أجمعين.

فقد ثبت عن علي رضي الله عنه على ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن إسحاق بن راهويه بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه قال: «سمع علي يوم الجمل أو يوم صِفِّين رجلًا يغلو في القول فقال: «لا تقولوا إلا خيرًا إنما هم قوم زعموا أنا بغَيْنا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم» (2).

(1) منهاج السنة (4/ 407 - 408).

(2)

نفس المصدر (5/ 244 - 245).

ص: 172

وعن محمد بن نصر بسنده عن مكحول أن أصحاب علي رضي الله عنه سألوه عمن قُتِل من أصحاب معاوية: «ماهم؟» .

قال: «هم مؤمنون» (1).

وعن عبد الواحد بن أبي عون قال: «مر علي ـ وهو متوكئ على الأشتر ـ على قتلى صِفِّين، فإذا حابس اليماني مقتول: فقال الأشتر: «إنا لله وإنا إليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمنًا» ، قال علي:«والآن هو مؤمن» (2).

إن عليًّا رضي الله عنه لم يكن يَعُدّ محاربيه كفارًا، ولقد أقرّ بذلك الشيعة أنفسهم حيث أوردوا نفس الرواية التي أوردها أهل السنة في كتبهم: فقد ذكر الحميري الشيعي عن جعفر عن أبيه أن عليًّا عليه السلام كان يقول لأهل حربه: «إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم يقاتلونا على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنّا على حق ورأوا أنهم على حق» .

وروى رواية أخرى عن جعفر عن أبيه محمد الباقر: «إن عليًا عليه السلام لم يكن ينسب أحدًا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكن يقول: «هم إخواننا بغوا علينا» (3).

وقد تقدَّم ثناء معاوية على عليٍّ رضي الله عنهما واعترافُه بفضله كما جاء في حواره مع أبي مسلم الخولاني لما قال له: «أَنْتَ تُنَازِع عَلِيًّا فِي الْخِلَافَة أَوْ أَنْتَ مِثْله؟» ، قَالَ:«لَا، وَإِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ أَفْضَل مِنِّي وَأَحَقّ بِالْأَمْرِ» ) (4).

(1) منهاج السنة (5/ 245).

(2)

نفس المصدر والصفحة.

(3)

قرب الإسناد للحميري الشيعي (ص 45) ط. إيران.

(4)

فتح الباري (13/ 92).

ص: 173

وأما قول الشيعة: «وقاتل عليًّا وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق، وكل من قاتل إمام حقٍ فهو باغ ظالم» .

فيقال لهم:

الباغي قد يكون متأوّلًا معتقدًا أنه على حق، وقد يكون متعمدًا يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بَغْيُهُ مركبًّا من شبهة وشهوة، وهو الغالب.

وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة؛ فإنهم لا يُنَزِّهُون معاوية رضي الله عنه ولا مَن هو أفضل منه مِن الذنوب، فضلًا عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون: إن الذنوب لها أسباب تُدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة، وغير ذلك. وهذا أمر يعم الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم.

وأهل السنة يثبتون خلافة الخلفاء كلهم، ويستدلون على صحة خلافتهم بالنصوص الدالة عليها، ويقولون: إنها انعقدت بمبايعة أهل الشوكة لهم، وعليّ رضي الله عنه بايعه أهل الشوكة، وإن كانوا لم يجتمعوا عليه كما اجتمعوا عَلَى من قبله، لكن لا ريب أنه كان له سلطان وقوة بمبايعة أهل الشوكة له، وقد دل النصّ على أن خلافته خلافة نبوة.

وأما تخلف من تخلف عن مبايعته، فعذرهم في ذلك أظهر من عذر سعد بن عبادة وغيره لما تخلّفوا عن بيعة أبا بكر، وإن كان لم يستقر تخلف أحد إلا سعد وحده، وأما عليّ وغيره فبايعوا الصديق بلا خلاف بين الناس.

لكن قيل: إنهم إن تأخروا عن مبايعته ستة أشهر، ثم بايعوه.

ونقول للشيعة إلزامًا لهم بما يعتقدون:

عليّ رضي الله عنه إما أن يكون تخلّف أولًا عن بيعة أبي بكر، ثم بايعه بعد ستة أشهر، كما تقول ذلك طائفة من أهل السنة مع الشيعة. وإما يكون بايعه أول يوم، كما يقول ذلك طائفة أخرى.

ص: 174

فإن كان الثاني بطل قول الشيعة: «إن عليًّا تخلّف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنهما» ، وثبت أنه كان من أول السابقين إلى بيعته.

وإن كان الأول، فعذر من تخلف عن بيعة عليّ رضي الله عنه أظهر من عذر من تخلف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه، لأن النص والإجماع المثبتين لخلافة أبي بكر، ليس في خلافة عليّ مثلها.

والنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقتضي أن ترك القتال كان خيرًا للطائفتين، وأن القعود عن القتال كان خيرًا من القيام فيه، وأن عليًّا رضي الله عنه، مع كونه أوْلى بالحق من معاوية رضي الله عنه وأقرب إلى الحق من معاوية، لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيرًا.

وأهل السنة يترحّمون على الجميع، ويستغفرون لهم، كما أمرهم الله تعالى بقوله:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر:10).

والذين قاتلوا عليًا رضي الله عنه لا يخلو: إما أن يكونوا عصاة، أو مجتهدين مخطئين، أو مصيبين. وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح في إيمانهم ولا يمنعهم الجنة.

فإن الله تعالى قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات:9، 10)، فسمّاهم إخوة ووصفهم بأنهم مؤمنون مع وجود الاقتتال بينهم، والبغي من بعضهم على بعض.

فمن قاتل عليًّا رضي الله عنه:فإن كان باغيًا فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ولا بموجب له النيران، ولا مانع له من الجنان؛ فإن البغي إذا كان بتأويل كان صاحبه مجتهدًا.

ص: 175

ولهذا اتفّق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين، وإن قالوا في إحداهما: إنهم كانوا بغاة لأنهم كانوا متأوّلين مجتهدين، والمجتهد المخطئ لا يَكْفُر ولا يفسق، وإن تعمد البغي فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة: كالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفّرة، وشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاء المؤمنين وغير ذلك.

والفتن إنما يُعرَف ما فيها من الشر إذا أدبرت. فأما إذا أقبلت فإنها تُزين، ويظن أن فيها خيرًا، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء، صار ذلك مبينًا لهم مضرتها، وواعظًا لهم أن يعودوا في مثلها، كما أنشد بعضهم:

الحَرْبُ أوّلَ مَا تَكونُ فتيّةً

تَبْدُو بِزِينَتِهَا لِكُلّ جَهُولِ

حتى إذا حَمِيَتْ وَشبّ ضِرَامُها

عادتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ خليلِ

شَمطاءُ جَزّتْ رَأسَها وَتَنَكّرَتْ

مكروهة ً للشَّمِّ والتقبيلِ

والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر، ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت، وصارت عبرة لهم ولغيرهم.

وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق على صحته: «تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ» يدل على أن عليًّا رضي الله عنه وأصحابه أدنى إلى الحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه.

وكذلك حديث عمار بن ياسر: «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» قد رواه البخاري في صحيحه ورواه مسلم بلفظ: «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» .

والذين قتلوه هم الذين باشروا قتله. والحديث أطلِق فيه لفظ «البغي» لم يقيده بمفعول، ولفظ البغي إذا أطلق فهو الظلم، كما قال تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (الحجرات:9)، وقال عز وجل:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:173).

ص: 176

وأهل العلم في هذا الحديث ـ حديث عمار ـ على ثلاثة أقوال:

1 -

فطائفة ضعفته لما روي عندها بأسانيد ليست ثابتة عندهم، ولكن رواه أهل الصحيح، رواه البخاري ومسلم.

2 -

ومنهم من قال: هذا دليل على أن معاوية وأصحابه بغاة، وأن قتال عليّ لهم قتال أهل العدل لأهل البغي، لكنهم بغاة متأولون لا يُكفرون ولا يُفسقون.

3 -

والقول الثالث في هذا الحديث ـ حديث عمار ـ إنَّ قاتِل عمار طائفة باغية، ليس لهم أن يقاتلوا عليًا، ولا يمتنعوا عن مبايعته وطاعته، وإن لم يكن عليّ مأمورًا بقتالهم، ولا كان فرضًا عليه قتالهم لمجرد امتناعهم عن طاعته، مع كونهم ملتزمين شرائع الإسلام، وإن كان كل من المقتتلتَيْن متأولين مسلمين مؤمنين، وكلهم يُستغفر لهم ويُترحم عليهم، عملًا بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر:10).

فكان الصواب أن لا يكون قتال، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين، فليس في الاقتتال صواب، ولكن عليًّا كان أقرب إلى الحق من معاوية رضي الله عنهما، والقتال قتال فتنة ليس بواجب ولا مستحب، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين، مع أن عليًا رضي الله عنه كان أوْلَى بالحق.

وهذا قول الإمام أحمد وأكثر أهل الحديث أئمة الفقه، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو قول عمران بن حُصيْن رضي الله عنه، وكان ينهي عن بيع السلاح في ذلك القتال، ويقول:«هو بيع السلاح في الفتنة» ، وهو قول أسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.

ص: 177

ولهذا كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم. وما وقع منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفورًا.

فالخوض فيما شجر يُوقع في نفوس كثير من الناس بُغضًا وذمًا، ويكون هو في ذلك مخطئًا، بل عاصيًا، فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلَّم في ذلك؛ فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله ولا رسوله: إما مِن ذم مَن لا يستحق الذم، وإما مِن مدح أمور لا تستحق المدح. ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف.

والكتاب والسنة قد دلّا على أن الطائفتين مسلمون، وأن ترك القتال كان خيرًا من وجوده. قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات:9، 10)؛ فسمّاهم مؤمنين إخوة مع وجود الاقتتال والبغي.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ» وهؤلاء المارقة مرقوا على عليّ، فدل على أن طائفته أقرب إلى الحق من طائفة معاوية.

وفي الصحيحين عن عَنْ أَبِى بَكْرَةَ رضي الله عنه:أَخْرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْحَسَنَ فَصَعِدَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ «ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» . فأصلح الله به بين أصحاب عليّ ومعاوية، فمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسن بالإصلاح بينهما، وسماهما مؤمنين. وهذا يدل على أن الإصلاح بينهما هو المحمود، ولو كان القتال واجبًا أو مستحبًا، لم يكن تركه محمودًا.

والذين رووا أحاديث القعود في الفتنة والتحذير منها، كسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد لم يقاتلوا لا مع علي ولا مع معاوية رضي الله عنهم.

ص: 178

عَنْ مُحَمَّدٍ اِبْن سِيرِينَ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: «مَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ تُدْرِكُهُ الْفِتْنَةُ إِلَّا أَنَا أَخَافُهَا عَلَيْهِ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «لَا تَضُرُّكَ الْفِتْنَةُ» (رواه أبوداود وصححه الألباني). (1).

وعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ ضُبَيْعَةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى حُذَيْفَةَ فَقَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ رَجُلًا لَا تَضُرُّهُ الْفِتَنُ شَيْئًا» .

قَالَ: فَخَرَجْنَا فَإِذَا فُسْطَاطٌ مَضْرُوبٌ فَدَخَلْنَا فَإِذَا فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «مَا أُرِيدُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ أَمْصَارِكُمْ حَتَّى تَنْجَلِيَ عَمَّا انْجَلَتْ» (رواه أبوداود وصححه الألباني)(2).

ومما ينبغي أن يُعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل في دمائها وأموالها وأعراضها، كالقتال واللعن والتكفير. فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ:«بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» .

فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:

«أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» .

قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنْ السِّلَاحِ» .

قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا» ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ (رواه مسلم).

(1)(إِلَّا أَنَا أَخَافهَا عَلَيْهِ):أَيْ أَخَاف مَضَرَّة تِلْكَ الْفِتْنَة عَلَيْهِ. (إِلَّا مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ):هُوَ مِنْ أَكَابِر الصَّحَابَة شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِد كُلّهَا اِسْتَوْطَنَ الْمَدِينَة وَاعْتَزَلَ الْفِتْنَة. (باختصار من عون المعبود).

(2)

(فَإِذَا فُسْطَاط):بِالضَّمِّ أَيْ خِبَاء. (فَإِذَا فِيهِ):أَيْ فِي الْفُسْطَاط. (فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ):أَيْ عَنْ سَبَب خُرُوجه وَإِقَامَته فِي الْفُسْطَاط. (فَقَالَ):أَيْ مُحَمَّد مِنْ مَسْلَمَةَ.

(مَا أُرِيدُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ أَمْصَارِكُمْ):الْمَعْنَى لَا أُرِيدَ أَنْ أَسْكُن وَأُقِيم فِي أَمْصَاركُمْ (حَتَّى تَنْجَلِي عَمَّا اِنْجَلَتْ):أَيْ تَنْكَشِف وَتَزُول.

ومَعْنَى الْحَدِيث حَتَّى تَنْكَشِف الْفِتَن عَنْ الْأَمْصَار الَّذِي غَطَّتْهُ الْفِتَن. (باختصار من عون المعبود).

ص: 179

وَقَوْله (حَتَّى تَمَنَّيْت أَنِّي أَسْلَمْت يَوْمئِذٍ) مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامِي بَلْ اِبْتَدَأْت الْآنَ الْإِسْلَام لِيَمْحُوَ عَنِّي مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ هَذَا الْكَلَام مِنْ عِظَمِ مَا وَقَعَ فِيهِ (1).

وعن عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَدِيٍّ أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ حَدَّثَهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِي بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ: أَسْلَمْتُ للهِ آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟» .

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَقْتُلْهُ» .

قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَيَّ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا آقْتُلُهُ؟

قَالَ: «لَا تَقْتُلْهُ؛ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ» (رواه البخاري ومسلم).

فقد ثبت أن هؤلاء قتلوا قومًا مسلمين لا يحل قتلهم، ومع هذا لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ضمن المقتول بِقَوَدٍ ولا ديّة ولا كفّارة، لأن القاتل كان متأولًا. وهذا قول أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد وغيرهما.

فالبغاة المتأولون كذلك لم تضمنهم الصحابة رضي الله عنهم.

إذا تبين هذا فيقال: قول الرافضة من أفسد الأقوال وأشدها تناقضًا؛ فإنهم يعظِّمون الأمر على مَن قاتل عليًّا، ويمدحون مَن قتل عثمان رضي الله عنهما، مع أن الذم والإثم لمن قتل عثمان أعظم من الذم والإثم لمن قاتل عليًّا رضي الله عنهما.

(1) باختصار من شرح صحيح مسلم للنووي.

ص: 180

افتراء متعلق بهذه الشبهة

قالوا: «إن معاوية شر من إبليس، لم يسبقه في سالف طاعته، وجرى معه في ميدان معصيته. ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد من الملائكة، وكان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة، ولما خلق الله آدم وجعله خليفة في الأرض، وأمره بالسجود فاستكبر فاستحق اللعنة والطرد، ومعاوية لم يزل في الإشراك وعبادة الأصنام إلى أن أسلم بعد ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمدة طويلة، ثم استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين عليه إمامًا، وبايعه الكل بعد قتل عثمان وجلس مكانه، فكان شرًا من إبليس» .

الجواب:

هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج عن دين الإسلام وكل دين، بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار، ما لا يخفى على من تدبره.

أولًا: إن إبليس أكفر من كل كافر، وكل من دخل النار فمن أتباعه. كما قال تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} (ص:85)، وهو الآمر لهم بكل قبيح المزين له، فكيف يكون أحد شرًا منه؟ لاسيما من المسلمين، لاسيما من الصحابة رضي الله عنهم؟

وقول هؤلاء: «إن معاوية شرٌّ من إبليس، لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه في ميدان المعصية» يقتضي أن كل من عصى الله فهو شر من إبليس، لأنه لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه في ميدان المعصية. وحينئذ فيكون آدم وذريته شرًّا من إبليس، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني).

ثم هل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن من أذنب ذنبًا من المسلمين يكون شرًا من إبليس؟ وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام، وقائل هذا كافر كفرًا معلومًا بالضرورة من الدين.

وعلى هذا فالشيعة دائمًا يذنبون، فيكون كل منهم شرًا من إبليس.

ثم إذا قالت الخوارج: إن عليًّا رضي الله عنه أذنب فيكون شرًا من إبليس ـ لم يكن للروافض حجة إلا دعوى عصمته وهم لا يقدرون أن يقيموا حجة على الخوارج بإيمانه وإمامته وعدالته، فكيف يقيمون حجة عليهم بعصمته؟

ولكن أهل السنة تقدر أن تقيم الحجة بإيمانه وإمامته، لأن ما تحتج به الرافضة منقوض ومعارض بمثله، فيبطل الاحتجاج به.

وفي الجملة فلوازم هذا القول وما فيه من الفساد يفوق الحصر والتعداد.

ثانيًا: إن أحدًا لا يجرى مع إبليس في ميدان معصيته كلها، فلا يتصور أن يكون في الآدميين من يساوي إبليس في معصيته، بحيث يضل الناس كلهم ويغويهم.

وأما طاعة إبليس المتقدمة فهي حابطة بكفره بعد ذلك، فإن الردة تحبط العمل، فما تقدم من طاعته ـ إن كان طاعة ـ فهي حابطة بكفره وردته، وما يفعله من المعاصي لا يماثله أحد فيه، فامتنع أن يكون أحد شرًا منه، وصار نظير هذا المرتد الذي يقتل النفوس ويزني ويفعل عامة القبائح بعد سابق طاعاته، فمن جاء بعده ولم يسبقه إلى تلك الطاعات الحابطة، وشاركه في قليل من معاصيه، لا يكون شرًا منه، فكيف يكون أحد شرًا من إبليس؟

وهذا ينقض أصول الشيعة: حقها وباطلها.

وأقل ما يلزمهم أن يكون أصحاب عليّ رضي الله عنه الذين قاتلوا معه، وكانوا أحيانًا يعصونه، شرًّا من الذين امتنعوا عن مبايعته من الصحابة، لأن هؤلاء عبدوا الله قبلهم، وأولئك جروا معهم في ميدان المعصية.

ثالثًا: ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة؟ وأنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة؟ أو أنه كان من حملة العرش في الجملة؟ أو أنه كان طاووس الملائكة؟ أو أنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة وركعة؟ ونحو ذلك مما يقوله بعض الناس؟

ص: 181

فإن هذا أمر إنما يعلم بالنقل الصادق، وليس في القرآن شيء من ذلك، ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إلا من هو من أعظم الجاهلين؟!

وأعجب من ذلك قولهم: «ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة» .

فيقال: من الذي قال هذا من علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين؟ فضلًا عن أن يكون هذا متفقًا عليه بين العلماء؟ وهذا شيء لم يقُلْه قط عالم يقبل قوله من علماء المسلمين. وهو أمر لا يعرف إلا بالنقل، ولم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف.

فإن كان قاله بعض الوعاظ أو المصنفين في الرقائق، أو بعض من ينقل في التفسير من الإسرائيليات ما لا إسناد له، فمثل هذا لا يحتج به في جُرْزَةِ بقل، فكيف يحتج به في جعل إبليس خيرًا من كل من عصى الله من بني آدم، ويجعل الصحابة من هؤلاء الذين إبليس خير منهم؟

وما وصف الله ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إبليس بخير قط ولا بعبادة متقدمة ولا غيرها، مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته.

وأعجب من ذلك قولهم: «لا شك بين العلماء أن كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة» فيا سبحان الله! هل قال ذلك أحد من علماء المسلمين المقبولين عند المسلمين؟ وهل يتكلم بذلك إلا مفرط في الجهل؟ فإن هذا لا يعرف ـ لو كان حقًا ـ إلا بنقل الأنبياء، وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء.

ثم حمل واحد من الملائكة العرش خلاف ما دل عليه النقل الصحيح.

ثم ما باله حمل العرش وحده ستة آلاف سنة ولم يكن يحمله وحده دائمًا؟

ومن الذي نقل أن إبليس من حملة العرش؟

ص: 183

وهذا من أكذب الكذب؛ فإن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (غافر:7)، فأخبر أن له حَمَلةً لا واحدًا، وأنهم كلهم مؤمنون مسبحون بحمد ربهم، مستغفرون للذين آمنوا.

رابعًا: إن إبليس كفر، كما أخبر الله تعالى بقوله:{إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} (ص:74)، فلو قُدِّر أنه كان له عمل صالح حبط بكفره.

كذلك غيره إذا كفر حبط عمله، فأين تشبيه المؤمنين بهذا؟!

خامسًا: قولهم: «إن معاوية لم يزل في الشرك إلى أن أسلم» به يظهر الفرق فيما يقصد به الجمع، فإن معاوية أسلم بعد الكفر، وقد قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال:38)، وتاب من شركه وأقام الصلاة وآتى الزكاة، وقد قال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة:11). وإبليس كفر بعد إيمانه فحبط إيمانه بكفره، وذاك حبط كفره بإيمانه، فكيف يقاس من آمن بعد الكفر بمن كفر بعد الإيمان؟!

سادسًا: قد ثبت إسلام معاوية رضي الله عنه، والإسلام يَجُبُّ ما قبله. فمن ادعى أنه ارتد بعد ذلك كان مدعيًا دعوى بلا دليل لو لم يعلم كذب دعواه، فكيف إذا علم كذب دعواه، وأنه مازال على الإسلام إلى أن مات، كما علم بقاء غيره على الإسلام؟

فالطريق الذي يُعلم به بقاء إسلام أكثر الناس من الصحابة وغيرهم، يُعلم به بقاء إسلام معاوية رضي الله عنه.

والمدَّعي لارتداد معاوية وعثمان وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم، ليس هو أظهر حجة من المدعي لارتداد عليّ رضي الله عنه.

فإن كان المدَّعي لارتداد عليّ رضي الله عنه كاذبًا، فالمدعي لارتداد هؤلاء أظهر كذبًا رضي الله عنهم.

ص: 184

سابعًا: هذه الدعوى إن كانت صحيحة، ففيها من القدح والغضاضة بعليّ والحسن وغيرهما ما لا يخفى. وذلك أنه يلزم منها أن عليًا رضي الله عنه كان مغلوبًا مع المرتدّين، وكان الحسن رضي الله عنه قد سلَّم أمر المسلمين إلى المرتدين.

وخالد بن الوليد قهر المرتدّين، فيكون نصر الله لخالد على الكفار أعظم من نصره لعليّ. والله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم واحدًا منهما فيكون ما استحقه خالد من النصر أعظم مما استحقه عليّ، فيكون أفضل عند الله منه.

بل وكذلك جيوش أبي بكر وعمر وعثمان ونوّابهم؛ فإنهم كانوا منصورين على الكفّار أيضًا؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} (آل عمران:139)، وقال تعالى:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)} (محمد:35).

وعليّ رضي الله عنه دعا معاوية إلى السِّلْم في آخر الأمر، لَمّا عجز عن دفعه عن بلاده، وطلب منه أن يبقى كل واحد منهما على ما هو عليه. وقد قال تعالى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} (آل عمران:139).

وحسب عقيدة الشيعة فإن أصحاب علي رضي الله عنه مؤمنون، وأولئك مرتدون، ويلزم من ذلك أن يكونوا هم الأعلين، وهو خلاف الواقع.

ثامنًا: من قال: «إن معاوية رضي الله عنه استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين» نقول له: لِمَ قلت: إنه علم أن ولايته صحيحة، وأن طاعته واجبة عليه؟ فإن الدليل على ثبوت ولايته ووجوب طاعته من المسائل المشتبهة التي لا تظهر إلا بعد بحث ونظر، بخلاف من أجمع الناس على طاعته.

وبتقدير أن يكون عَلِمَ ذلك، فليس كل من عصى يكون مستكبرًا عن طاعة الله. والمعصية تصدر تارة عن شهوة، وتارة عن كِبْر، وهل يُحكم على كل عاصٍ بأنه مستكبر عن طاعة الله كاستكبار إبليس؟!

ص: 185

تاسعًا: قولهم: «وبايعه الكل بعد عثمان» .

إن لم يكن هذا حجة فلا فائدة فيه، وإن كان حجة فمبايعتهم لعثمان كان اجتماعهم عليها أعظم. والشيعة لا يرون الممتنع عن طاعة عثمان كافرًا، بل مؤمنًا تقيًّا.

عاشرًا: اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قول الشيعة أكمل، وهم وغيرهم يقولون: إن عليًّا تخلّف عنها مدة.

فيلزم على قولهم أن يكون عليّ رضي الله عنه مستكبرًا عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إمامًا، فيلزم حينئذ كفر عليّ بمقتضى حجتهم، أو بطلانها في نفسها.

وكُفْر عليّ رضي الله عنه باطل، فلزم بطلانها.

حادي عشر: قولهم: «بايعه الكل بعد عثمان» من أظهر الكذب، فإن كثيرًا من المسلمين: إما النصف، وإما أقل أو أكثر لم يبايعوه، ولم يبايعه سعد بن أبي وقاص ولا ابن عمر ولا غيرهما.

ثاني عشر: قولهم: «إنه جلس مكانه» كذب؛ فإن معاوية لم يطلب الأمر لنفسه ابتداء، ولا ذهب إلى عليّ لينزعه عن إمارته، ولكن امتنع هو وأصحابه عن مبايعته، وبقي على ما كان عليه واليًا على من كان واليًا عليه في زمن عمر وعثمان. ولما جرى حكم الحكمين إنما كان متوليًا على رعيته فقط.

فإن أريد بجلوسه في مكانه أنه استبد بالأمر دونه في تلك البلاد، فهذا صحيح، لكن معاوية رضي الله عنه يقول: إني لم أنازعه شيئًا هو في يده، ولم يثبت عندي ما يوجب عليّ دخولي في طاعته.

وهذا الكلام سواء كان حقًا أو باطلًا لا يوجب كون صاحبه شرًّا من إبليس، ومَن جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرًّا من إبليس، فما أبقى غاية في الافتراء على الله ورسوله والمؤمنين، والعدوان على خير القرون في مثل هذا المقام، والله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، والهوى إذا بلغ بصاحبه إلى هذا الحد فقد أخرج صاحبه عن ربقة العقل، فضلًا عن العلم والدين.

ص: 186

سؤال للشيعة

من المسَلّم عند كل من اطلع على مذهب الشيعة الإمامية أنهم يكفّرون معاوية لقتاله عليًا رضي الله عنه ولكن الثابت ـ عندهم ـ أن الحسن بن علي رضي الله عنهما من الأئمة المعصومين، فكل ما يصدر عنه فهو حق، والحسن قد صالح معاوية وبايعه على الخلافة. فهل صالح الحسن (المعصوم) رضي الله عنه كافرًا وسلّم له بالخلافة؟! أم أصلح بين فئتين مسلمتين كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!!! نريد من الشيعة الإجابة!!!

إن في مصادر الاثني عشرية ما يثبت أن عليًا ومعاوية على حق ومأجورين على اجتهادهما فقد ذكر الكليني في كتابه (الروضة من الكافي) ـ الذي يمثل أصول وفروع مذهب الاثني عشرية: «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَلَبِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: «اخْتِلَافُ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنَ الْمَحْتُومِ، وَالنِّدَاءُ مِنَ الْمَحْتُومِ، وَخُرُوجُ الْقَائِمِ مِنَ الْمَحْتُومِ» .قُلْتُ: وَكَيْفَ النِّدَاءُ؟

قَالَ: يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوَّلَ النَّهَارِ أَلَا إِنَّ عَلِيًّا وَشِيعَتَهُ هُمُ الْفَائِزُونَ، قَالَ وَيُنَادِي مُنَادٍ فِي آخِرِ النَّهَارِ أَلَا إِنَّ عُثْمَانَ وَشِيعَتَهُ هُمُ الْفَائِزُونَ» (1).

وهذا علي بن أبي طالب يقرر أن عثمان وشيعته هم أهل إسلام وإيمان ولكن القضية اجتهادية كل يرى نفسه على الحق في مسألة عثمان فيذكر الشيعي الشريف الرضي في كتابهم (نهج البلاغة) عن علي رضي الله عنه أنه قال: «وكان بدء أمرنا أن التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء» (2)

(1) روضة الكافي (8/ 310).

(2)

نهج البلاغة (3/ 648).

ص: 187