الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الثامنة عشرة
مسألة سب معاوية لعلي رضي الله عنهما
-
يتعلق أهل البدع والأهواء في ذلك بشبهات واهية، ليس فيها أي دليل على ما يتشدقون به:
الشبهة الأولى:
ما جاء في صحيح مسلم عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟» .
فَقَالَ: «أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَلَنْ أَسُبَّهُ لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ لَهُ خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:«يَا رَسُولَ اللهِ خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟» .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي» .
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ» .
قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا، فَقَالَ:«ادْعُوا لِي عَلِيًّا» ، فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: «اللهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي» .
الجواب:
أولا: هذا الحديث لا تصح نسبته إلى الإمام مسلم دون بيان أنه إنما أورده في الشواهد لا في الأصول، أي أنه لم يخرجه احتجاجًا، فإنه على طريقته المعروفة ـ والتي
نص عليها في مقدمة صحيحه ـ يقدِّم اللفظ الأصح، والمحفوظ في الرواية، ثم يتبعه بما هو دونه، وقد يُشير في ذلك لعلة في السياق المؤخر، ونص على مثل ذلك في كتاب (التمييز) له ـ وهو في العلل ـ ومن أمثلته ما نحن بصدده الآن.
فالإمام مسلم أورد أكثر من طريق لحديث «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ، ليس فيها هذا اللفظ:«أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟» ولا حتى إشارة له، بل هذا اللفظ تفرد به راوٍ مختلفٌ فيه، وهو بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَار (1)، وخالف بذلك جمعًا من الرواة الثقات الذين لم يذكروا السبّ، فتكون روايته بذلك ضعيفة منكرة.
تنبيه:
كلمة «أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا» هي من كلام بكير لا من كلام سعد، إذ لو كانت من كلام سعد لقال:«أمرني معاوية» . فيكون قد روى بالمعنى وتصرف بالألفاظ. فقد جاء الحديث عند الحاكم عن بكير بن مسمار قال: سمعت عامر بن سعد يقول: قال معاوية لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: «ما يمنعك أن تسب ابن أبي طالب؟» . فهذا إسناد متصل؛ وليس فيه لفظ الأمر.
ثانيًا: على فرض أن اللفظ ثابت، فليس صريحًا في السب ولا يفيد أن معاوية أمر سعدًا بسَبّ علي رضي الله عنهم، وإنما أراد معاوية أن يستفسر عن المانع من سبّ علي، فأجابه سعدٌ عن السبب، ولم نعلم أن معاوية عندما سمع ردَّ سعدٍ غضبَ منه ولا عاقبه.
(1) بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَار: قال عنه ابن حجر في التقريب: «صدوق» . وقال الذهبي في الكاشف: «فيه شيء» .
وقال النسائي: «ليس به بأس» (وهذا دون التوثيق). وقال أبو أحمد بن عدي: «مستقيم الحديث» .
وقال البخاري: «فيه نظر» كما في تهذيب الكمال. وذكر له هذا الحديث في التاريخ الكبير (2/ 115) وقال: «فيه بعض النظر» ، وما روى له شيئًا.
وذكره العقيلي في (الضعفاء 191). وقال ابن حزم في المحلى (9/ 47): «بكير بن مسمار ضعيف» .
وقال عنه الذهبي في (المغني في الضعفاء 1/ 180): «صدوق، ليَّنَه ابن حبان البستي وابن حزم، وقال البخاري: فيه نظر» .
كما أن سكوت معاوية هنا، تصويب لرأي سعد، ولو كان معاوية رضي الله عنه ظالمًا يجبر الناس على سب علي رضي الله عنه كما يدّعون، لَمَا سكت عن سعد ولأجبره على سبِّه، ولكن لم يحدث من ذلك شيء، فعُلم أنه لم يأمر بسبه ولا رضي بذلك.
يقول الإمام النووي رحمه الله في ذلك: «قَوْل مُعَاوِيَة هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُ أَمَرَ سَعْدًا بِسَبِّهِ، وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ السَّبَب الْمَانِع لَهُ مِنْ السَّبّ، كَأَنَّهُ يَقُول: هَلْ اِمْتَنَعْت تَوَرُّعًا، أَوْ خَوْفًا، أَوْ غَيْر ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ تَوَرُّعًا وَإِجْلَالًا لَهُ عَنْ السَّبّ فَأَنْتَ مُصِيب مُحْسِن، وَإِنْ كَانَ غَيْر ذَلِكَ فَلَهُ جَوَاب آخَر.
. وَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا آخَر أَنَّ مَعْنَاهُ مَا مَنَعَك أَنْ تُخَطِّئَهُ فِي رَأْيه وَاجْتِهَاده، وَتُظْهِرَ لِلنَّاسِ حُسْن رَأْينَا وَاجْتِهَادنَا، وَأَنَّهُ أَخْطَأَ؟» (1).
وقال القرطبي في شرح هذا الحديث: «وهذا ليس بتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج ما عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن، وعرف الحق لمستحقه.
ولو سلمنا أن ذلك من معاوية رضي الله عنه حمل على السَّب، فإنَّه يحتمل أن يكون طلب منه أن يسبَّه بتقصير في اجتهاد، في إسلام عثمان لقاتليه، أو في إقدامه على الحرب والقتال للمسلمين، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يقصر بمثله من أهل الفضل.
وأما التصريح باللعن، وركيك القول، فحاشا معاوية منه، ومَن كان على مثل حاله من الصحبة، والدين، والفضل، والحلم، والعلم» (2).
وقال القاضي عياض في شرح هذا الحديث: «ليس فيه تصريح بأنه أمره بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب، وقد سُئِل عن مثل هذا السؤال من يستجيز سب المسؤول عنه، وسئل عنه من لا يستجيزه.
فقد يكون معاوية رأى سعدًا بين قوم يسبونه، ولا يمكن الإنكار عليهم، فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؛ ليستخرج منه مثل ما استخرج مما حكاه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم فيكون له حجة على من سبه ممن ينضاف إليه من غوغاء جنده، فيحصل على المراد على لسان غيره من الصحابة.
ويمكن أن يريد السب الذى هو بمعنى التغيير للمذهب والرأى، وقد سمى ذلك فى العرف سبًّا، ويقال فى فرقة: إنها تسب أخرى إذا سمع منهم أنهم اْخطؤوا فى مذاهبهم، وحادوا عن الصواب، وأكثروا من التشنيع عليهم، فمن الممكن أن يريد معاوية من سعد بقوله:«مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟» أى يُظهر للناس خطأه فى رأيه، وإن رأينا وما نحن عليه أشد وأصوب» (3).
وقيل: إن معاوية رضي الله عنه إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي رضي الله عنه، فإن معاوية رضي الله عنه كان رجلًا فطنًا ذكيًا يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي رضي الله عنهما، فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير.
ثالثًا: إن معاوية رضي الله عنه كان رجلًا ذكيًا، مشهورًا بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي رضي الله عنه ـ وحاشاه من ذلك ـ أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو من هو في الفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلًا!! فهذا لا يفعله أقل الناس عقلًا وتدبيرًا، فكيف بمعاوية؟!!
(1) باختصار من شرح النووي لصحيح مسلم.
(2)
باختصار يسير من شرح القرطبي لصحيح مسلم المسمى (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم).
(3)
باختصار يسير من من شرح القاضي عياض لصحيح مسلم المسمى (إكمال المعلم شرح صحيح مسلم).
الشبهة الثانية التي يتعلق بها أهل البدع والأهواء لاتهام معاوية بسبّ علي رضي الله عنهما:
ما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ، قَالَ: فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا.
قَالَ: فَأَبَى سَهْلٌ فَقَالَ لَهُ: «أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَقُلْ لَعَنَ اللهُ أَبَا التُّرَابِ» .
فَقَالَ سَهْلٌ: «مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي التُّرَابِ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا» .فَقَالَ لَهُ: «أَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّتِهِ لِمَ سُمِّيَ أَبَا تُرَابٍ» .
قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ» .
فَقَالَ: «أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ» .
فَقَالَتْ: «كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي» (1).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِإِنْسَانٍ: «انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟» .
فَجَاءَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ» .
فَجَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: «قُمْ أَبَا التُّرَابِ، قُمْ أَبَا التُّرَابِ» .
الجواب: هذا الادعاء لا أساس له من الصحة، بل إن استشهاد هؤلاء وأمثالهم بهذا الحديث لا حجة فيه، فأين التصريح باسم معاوية فيه؟!!
ثم إن الرجل من آل مروان، ومن المعروف لدى الجاهل قبل العالم أن معاوية رضي الله عنه سفياني وليس مرواني.
ومما يدل على جهل هؤلاء قول سهل بن سعد رضي الله عنه: «اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ» ، إن كان المقصود بذلك معاوية رضي الله عنه فمن الذي استعمله، وقد كان حاكم المسلمين ولم يكن واليًا على المدينة فقط.
ومن الغرائب أن هؤلاء الشيعة المبتدعة ينكرون سب علي رضي الله عنه، ولم يتورعوا عن سب خير البرية بعد الأنبياء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم!! وكتبهم طافحة بذلك.
(1)(فَخَرَجَ وَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ ـ مِنْ الْقَيْلُولَة، وَهِيَ النَّوْمُ نِصْفَ النَّهَار.
الشبهة الثالثة التي يتعلق بها أهل البدع والأهواء لاتهام معاوية بسبّ علي رضي الله عنهما:
قال ابن ماجه: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ سَابِطٍ ـ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ـ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ فِي بَعْضِ حَجَّاتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدٌ فَذَكَرُوا عَلِيًّا، فَنَالَ مِنْهُ فَغَضِبَ سَعْدٌ، وَقَالَ تَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ:«مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:«لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ الْيَوْمَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ» .
الجواب:
هذا الحديث منكر شديد الضعف فيه علل (1).
وابن سابط لم يسمع من سعد بن أبي وقاص كما نص يحيى بن معين.
الشبهة الرابعة التي يتعلق بها أهل البدع والأهواء لاتهام معاوية بسبّ علي رضي الله عنهما:
ما ذكر البلاذري بلا إسناد! فقال: «وحُدِّثْتُ أن معاوية خطب الناس يومًا ، فذكر عليًا فتنقصه
…
» (2).
الجواب: هذه الشبهة ليست بحاجة إلى جواب؛ فالقصة ليس لها إسناد أصلًا حتى يحكم أهل العلم بصحتها أو ضعفها.
(1) انظر تخريجًا مفصلًا للحديث وبيان سبب تضعيفه والرد على من أخطأ في تصحيحه من أهل العلم في: أبحاث من مسودة كتاب من فضائل وأخبار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه دراسة حديثية، تأليف: محمد زياد بن عمر التكلة.
(2)
أنساب الأشراف (5/ 124).
إن ما ادعاه الشيعة من الأمر بالسبّ، حاشا معاوية رضي الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك، والمانع من هذا عدة أمور:
الأول: أن معاوية نفسه ما كان يسب عليًا رضي الله عنه، فكيف يأمر غيرَه بسبه؟ بل كان معظمًا له معترفًا له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابتة عنه.
قال ابن كثير: وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: «هل تنازع عليًا أم أنت مثله؟» .
فقال: «والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني
…
».
ونقل ابن كثير أيضًا عن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته:«أتبكيه وقد قاتلته؟» .
فقال: «ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم» (1).
الثاني: أنه لا يعرف بنقل صحيح أن معاوية رضي الله عنه تعرض لعلي رضي الله عنه بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
الثالث: أن معاوية رضي الله عنه انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة والقلوب، ودانت له الأمصار بالملك، فأي نفع له في سبِّ علي رضي الله عنه؟!
بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية رضي الله عنه الذي شهدت له الأمة بحسن السياسة والتدبير.
الرابع: أنه كان بين معاوية رضي الله عنه بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي رضي الله عنهم من الألفة والتقارب ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ.
(1) البداية والنهاية (8/ 132، 133)، وانظر: تاريخ دمشق (59/ 142).
ومن ذلك أن الحسن بن علي رضي الله عنهما دخل مرة على معاوية فقال له: «مرحبًا وأهلًا بابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر له بثلاثمائة ألف» (1).
وهذا مما يقطع بكذب ما ادُّعِيَ في حق معاوية من حمله الناس على سبِّ علي رضي الله عنهما، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم.
الخامس: ماذا يمكن أن يقال في إجماع المسلمين على أنه لا يجوز لعن المسلم على التعيين؟
هل يكون هذا الحكم غائبًا عن معاوية رضي الله عنه؟
وكيف نفسر ما نقله صاحب العقد الفريد من أن معاوية أخذ بيد الحسن بن علي في مجلس له، ثم قال لجلسائه:«مَن أكرم الناس أبًا وأمًا وجدًا وجدة؟» .
فقالوا: «أمير المؤمنين أعلم» .
فأخذ بيد الحسن وقال: «هذا أبوه علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة رضي الله عنها بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجدته خديجة رضي الله عنها» .
وأخيرًا:
لنستمع إلى ما رواه أبو نعيم عن أبي صالح قال:
«دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له معاوية: «صف لي عليًا» .
فقال ضرار: «أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟» .
قال معاوية: «لا أعفيك» .
قال ضرار: «أما إذ لابدّ، فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا ويحكم عدلًا، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من
(1) البداية والنهاية (8/ 140).
الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب (1).
كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله، ولا ييأس الضعيفُ من عدله.
فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم (2)، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول:«يا ربنا، يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: «إلىّ تغررت؟ إلىّ تشَوَّفْت؟ هيهات، هيهات، غُرّي غَيري، قد بَتَتّكِ ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كبير، آهٍ آهٍ من قلة الزاد، وبُعد السفر ووحشة الطريق» .
فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال ـ أي معاوية رضي الله عنه ـ:«كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وَجْدُكَ عليه يا ضرار؟» .
قال ضرار: «وَجْدُ من ذُبح واحِدُها في حِجْرِها، لا ترقأ دمعتها ولا يسكن حزنها» ، ثم قام فخرج (3).
قال القرطبي في كتابه (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم) معلقًا على وصف ضرار لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك، وتصديقه لضرار فيما قال: «وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنهما ومنزلته، وعظم حقه ومكانته، وعند ذلك يَبْعُد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه، لَِما
(1) غليظ، أو بلا إدام.
(2)
اللديغ.
(3)
حلية الأولياء (1/ 84 - 85).
كان معاوية موصوفًا به من العقل والدين والحلم وكرم الأخلاق وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح».اهـ.
وبعد هذا الموقف، هل يتصور من معاوية أن يسب عليًّا رضي الله عنهما أو أن يصرح بلعنه رضي الله عنه على المنابر؟!
وهل يعقل أن يسع حلم معاوية رضي الله عنه ـ الذي بلغ مضرب الأمثال ـ سفهاء الناس وعامتهم وهو أمير المؤمنين، ثم يأمر بعد ذلك بلعن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنابر، ويأمر ولاته بذلك في سائر الأمصار والبلدان؟؟!!
والحكم في هذا لكل صاحب عقل وفهم ودين.
تناقض عجيب:
من العجب أن الشيعة تنكر سبّ عليّ رضي الله عنه، وهم يسبّون أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ويكفرونهم ومن والاهم.
ومعاوية رضي الله عنه وأصحابه ما كانوا يكفرون عليًّا رضي الله عنه، وإنما يكفره الخوارج المارقون، والرافضة شر منهم.
ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة: لا عليّ ولا عثمان ولا غيرهما، ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثمًا ممن سب عليًّا.
ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما وصفهم الله عز وجل فى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر:10).
وطاعةً للنبى صلى الله عليه وآله وسلم فى قوله: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (رواه البخاري ومسلم).
ومَعْنَى الْحَدِيث: لَا يَنَال أَحَدكُمْ بِإِنْفَاقِ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مِنْ الْفَضْل وَالْأَجْر مَا يَنَال أَحَدهمْ بِإِنْفَاقِ مُدّ طَعَام أَوْ نَصِيفه.