الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بطلان قصة التحكيم المشهورة
(1)
إن قضية التحكيم من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة وقد تاه فيها كثير من الكتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام وخصوصًا: أبا موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعًا في القول، وبأنه كان على جانب كبير من الغفلة؛ ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضيّة التحكيم، ووصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب مكر وخداع.
فكل هذه الصفات الذميمة حاول المغرضون والحاقدون على الإسلام إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين الذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدّى إلى قتل الكثير من المسلمين.
وقد تعامل الكثير من المؤرخين والأدباء والباحثين مع الروايات التي وضعها خصوم الصحابة الكرام رضي الله عنهم على أنها حقائق تاريخية، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها، وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في اهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها، وليعلم
(1) بتصرف من كتاب (الدولة الأموية) للدكتور علي الصلابي (203 - 218).
وانظر: الإنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدي من الخلاف - للدكتور حامد محمد الخليفة (ص533).
حقبة من التاريخ - للشيخ عثمان الخميس (ص84).
العواصم من القواصم - للقاضي أبو بكر بن العربي (ص117).
إبطال قصة التحكيم الشهيرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما للشيخ سليمان بن صالح الخراشي على موقع صيد الفوائد http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/11.htm
حيث نقل كلام الشيخ محمد العربي التباني عن هذه القصة من كتابه (تحذير العبقري من محاضرات الخضري، 2/ 86 - 91).
أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم حيث أن أصله حق لا شك فيه (1).
إن قصة تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص في الخلاف الذي كان بين علي ومعاوية ـ رضي الله عن الجميع ـ مشهورة ذائعة في كتب الأخباريين وأهل الأدب، وفيها ما فيها من لمز الصحابة رضي الله عنهم بما ليس من أخلاقهم.
لقد كثر الكلام حول هذه القصة الباطلة، وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبانٍ للأحكام على مضامينها وقلما تجد أحدًا وقف عندها فاحصًا محققًا، وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالًا دون أن يُفَصّل وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص.
وقد فند هذه القصة الباطلة: الدكتور يحيى اليحيى في (مرويات أبي مخنف).
وقد أجاد الشيخ محمد العربي التباني في إبطالها في رده على محمد الخضري المؤرخ في كتابه (تحذير العبقري من محاضرات الخضري).
إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه (2).
الوجه الأول:
أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبد الرزاق والطبري بسند رجالة ثقات عن الزهري مرسلًا قال: قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراق، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص فتعرق أهل صِفِّين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ويخفضا من خفض
(1) مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري (ص 378).
(2)
نفس المصدر (ص 404).
القرآن، وأن يختار لأمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح.
فلما انصرف عليّ خالفت الحرورية وخرجت ـ وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فآذنوه بالحرب، وردوا عليه: أن حكَّم ابن آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه، فلما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشّام، وأبَى علي وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحدًا من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يفترقان؟ قالوا: لا نرى أحدًا يعلم ذلك.
قال: فوالله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأرجعهما، فدخل على عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمّة، قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو، وقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأيًا، فيكم بقية المسلمين.
فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد.
فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشّام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها فكتبها أبو موسى.
قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن نسمي رجلًا يلي أمر هذه الأمة؟ فسَمِّه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك علَيَّ أن أتابعك، وإلا فلي عليك أن تتابعني!
قال أبو موسى: أسمي لك عبد الله بن عمر، وكان ابن عمر فيمن اعتزل؛ قال عمرو: إني أسمي لك معاوية بن أبي سفيان.
فلم يبرحا مجلسهما حتى استبَّا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: «إني وجدت مثَلَ عمرو كمَثَلِ الذي قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} (الأعراف:175).
فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الجمعة:5). وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار (1).
تحقيق هذه القصة:
الزهري لم يدرك الحادثة فهي مرسلة، ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة (2)، كما قرّر العلماء.
* وهناك طريق أخرى أخرجها ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد: كان يضع الحديث. وفي سندها أيضًا الواقدي، وهو متروك (3).
وهذا نصها:
«
…
رفع أهل الشّام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتابًا على أن يوافوا رأس الحول أذرح، وحكموا حكمين ينظرون في أمور الناس فيرضوا بحكمها، فحكّم عليٌّ أبا موسى الأشعري، وحكَّم معاوية عمرو بن العاص.
(1) المصنف (5/ 463)، مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري (ص 406).
(2)
المراسيل لأبي حاتم (ص 3)، الجرح والتعديل (1/ 246).
(3)
تهذيب التهذيب (12/ 27)، مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري (ص 406).
وتفرق الناس فرجع عليٌّ إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كان معه، وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حُكْم إلا لله ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه.
ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدم أبا موسى فتكلم وخلع عليًّا ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع عليًا وأقر معاوية، فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما وبايع أهل الشام ومعاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين» (1).
*وهناك طريق أخرى فيها أبو مخنف وأبو جناب الكلبي فهي معلولة بهما:
فالأول: أبو مخنف ـ لوط بن يحيى ـ ضعيف ليس بثقة، وأخباري تالف غالٍ في الرفض.
والثاني: أبو جناب الكلبي قال فيه ابن سعد: «كان ضعيفًا» .
وقال البخاري وأبو حاتم: «كان يحيى القطان يضعفه» .
وقال عثمان الدارمي: «ضعيف» ، وقال النسائي:«ضعيف» (2).
وهذا نص رواية أبي مخنف كما ذكرها الطبري في (تاريخ الرسل والملوك 5/ 70 - 71):
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (16/ 53).
(2)
انظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدّثين) للأستاذ الدكتور محمد أمحزون (2/ 223)، مرويات أبي محنف في تاريخ الطبري (ص 407)، التاريخ الكبير للبخاري (4/ 267)، الجرح والتعديل (9/ 138). التاريخ للدارمي (ص 238)، الضعفاء والمتركون (ص 253).
فكان عمرو قد عوَّد أبا موسى أن يقدمه في كل شيء، اعتزى (1) بذلك كله أن يقدمه فيبدأ بخلع عَلِيٍّ.
قال: فنظرا في أمرهما وما اجتمعا عليه، فأراده عمرو على معاوية فأبى، وأراده على ابنه فأبى، وأراد أبو موسى عمْرًا على عبد الله بن عمر فأبى عليه.
فقال له عمرو: «خبرني ما رأيك؟» .
قال: «رأيي أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا» .
فقال له عمرو: «فإن الرأي ما رأيت» .
فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال:«يا أبا موسى، أعْلِمْهم بأن رأيَنَا قد اجتمع واتفق» ، فتكلم أبو موسى فقال:«إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله عز وجل به أمر هذه الأمة» .
فقال عمرو: «صدق وبرّ، يا أبا موسى، تقدم فتكلم» .
فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس:«ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك. إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك، ثم تكلم أنت بعده، فإنّ عَمْرًا غادر، ولا آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك» ، ـ وكان أبو موسى مغفّلًا ـ فقال له:«إنا قد اتفقنا» .
فتقدم أبو موسى فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نَرَ أصلحَ لأمرِها، ولا ألَمَّ لشعثها من أمرٍ قد أجمع رأيي ورأيُ عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليًا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم. وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلًا» ، ثم تنحى.
(1) اعتزى: أي قصد.
وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال:«إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه. وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه» .
فقال أبو موسى: «ما لك لا وفقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» .
قال عمرو: «إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا» .
وحمل شريح بن هانىء على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل على شريح ابنٌ لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم.
وكان شريح بعد ذلك يقول: «ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف آتيًا به الدهر ما أتى» .
والتمس أهل الشام أبا موسى فركب راحلته ولحق بمكة!
قال ابن عباس: «قبح الله رأي أبي موسى حذرته وأمرته بالرأي فما عقل» .
فكان أبو موسى يقول: «حذرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئًا على نصيحة الأمة» .
ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، وسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانىء إلى علي، وكان إذا صلى الغداة يقنت فيقول:«اللهم العن معاوية وعمرًا وأبا الأعور السلمي وحبيبًا وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد» .فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليًّا وابن عباس والأشتر وحسنًا وحسينًا».
هذه طرق قصة التحكيم المشهورة، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة، أفمثل هذا تقوم به حجة، أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام
وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة، ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفًا فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها (1).
وتأمل ما وضعنا تحته خطًا في الرواية الأخيرة لتعلم مدى جُرم هؤلاء الكذابين في الافتراء على صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإظهارهم بمظهر أهل السبّ واللعن والغدر.
الوجه الثاني من أوجه بطلان قصة التحكيم المشهورة:
إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طُلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قرارًا في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يَفْقَهَا موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو مستبعد جدّا (2).
ولم يكن معاوية رضي الله عنه مدعيا للخلافة ولا منكرًا حق عليّ رضي الله عنه فيها كما تقرر سابقًا، وإنما كان ممتنعًا عن بيعته وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبًا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيدًا من طاعة الناس له بعد أن بقي واليًا فيها زهاء عشرين سنة (3).
الوجه الثالث:
ليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات أن كل من لم يرضَ بإمامه خلعه، فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد، وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامة، وهل علي رضي الله عنه فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك، فما ظهر منه قط إلى
(1) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري (ص 408).
(2)
تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/ 225).
(3)
نفس المصدر (2/ 234).
أن مات رضي الله عنه، شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد والبر والتقوى والخير (1).
الوجه الرابع:
أن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة له، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءًا، والصحابة الكرام رضي الله عنهم أحذق وأعقل من أن يُقْدِموا على هذا، وبهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلًا ونقلًا.
الوجه الخامس:
هذه الرواية المكذوبة تطعن في أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بأنه مغفل وهذا طعْن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ولاه على تهائم اليمن زبيد وعدن وغيرهما وهو مغفل.
والطعنُ فيه بما ذكر طعنٌ في عمر رضي الله عنه الذي ولاه أميرًا على البصرة وقائدًا على جيشها فافتتح الأهواز وأصبهان، وكتب عمر في وصيته:«لا يقر لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين» .
فكيف يقرّ عمر رضي الله عنه أبا موسى الأشعري أربع سنين وهو مغفل؟!!!
فهؤلاء الوضاعون الكائدون للإسلام ورجاله مغفلون لا يحسنون وضع الأباطيل؛ لأنهم يأتون فيها بما يظهر بطلانها في بادئ الفهم الصحيح لكل مسلم.
الوجه السادس:
ما نقصت هذه الخديعة ـ لو صحت ـ مما كان لأمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه عند أتباعه شيئًا وما أفادت معاوية رضي الله عنه شيئًا جديدًا زائدًا عما كان له حتى يصح أن يقال فيها إن فلانًا داهية كاد أمة من المسلمين بكيد مقدمها ومحكمها، وغاية أمرها أنها أشبه بعبث الأطفال لا تتجاوز العابث والمعبوث به، وبرَّأ الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا العبث.
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 238).
الوجه السابع:
لا يخلو قول عمرو بن العاص رضي الله عنه فيما زعموا عليه: «وأثبت صاحبي معاوية» من أمرين:
الأول: تثبيته في الخلافة كما كان أولًا، وهذا هو المتبادر من لفظ التثبيت، وهو باطل قطعًا؛ فإنه لم يقل أحد ينتسب إلى الإسلام إن معاوية رضي الله عنه كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبّته حَكمه فيها بعده، ولم يدَّعِها هو لا قبله ولا بعده، ولم ينازع عليًّا رضي الله عنه فيها.
الثاني: تثبيته على إمارة الشام كما كان قبل، وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية، وهو تحصيل الحاصل، وأي دهاء امتاز به على أبي موسى في تحصيل الحاصل؟ وأي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ فهل زاد به معاوية شيئًا جديدًا لم يكن له من قبل؟ وهل نقص به علي عما كان له قبل؟
الوجه الثامن:
لا يخفى ما تنطوي عليه هذه الروايات من قدح وذمّ في صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتهام بعضهم بالغدر والخيانة وسب ولعن بعضهم بعضًا ، وما يخالف هذا امتداح الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لهم رضي الله عنهم.
الوجه التاسع:
وردت رواية صحيحة تناقض تلك الروايات تمامًا، وذلك فيما أخرجه البخاري في (التاريخ الكبير) بسند صحيح، أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما جاء التحكيم التقى مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال له: ما ترى في هذا الأمر؟
قال: «أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنهم راض» (1).
فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: «فأين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟» .
قال: «إن يستَعِن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما (2).
ثم انتهى الأمر على هذا فرجع عمرو بن العاص إلى معاوية رضي الله عنهما بهذا الخبر ورجع أبو موسى الأشعري إلى عليٍّ رضي الله عنهما.
(1) أي علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2)
التاريخ الكبير (5/ 398).