الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف نقرأ التاريخ
(1)
كيف نقرأ التاريخ؟
لابد أن نقرأ التاريخ كما نقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذا أردنا أن نقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإننا نتثبت من الخبر أثابِتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم لا؟ ولن نستطيع أن نعرف صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بطلانه إلا بالنظر إلى الإسناد مع المتن؛ لأن أهل العلم اعتنوا بالحديث ورجاله وتتبعوا أحاديثهم ومحَّصُوها وحكموا عليها وبيَّنوا الصحيح من الضعيف وبالتالي نُقّيَتْ هذه الأحاديث مما فيها أو مما أدخِلَ عليها من كذب أو تدليس أو مما شابه ذلك.
ولكن التاريخ يختلف فتارة نجد كثيرًا من رواياته ليس لها إسناد وتارة أخرى نجد لها إسنادًا ولكن قد لا نجد للرجال الذين في إسناد تلك الرواية ترجمة، ولا نجد أحدًا من أهل العلم تكلم فيهم جرحًا أو تعديلا ً مدحًا أو ذمًا، فيصعب عليك عندئذ أن تحكم على هذه الرواية؛ لأنك لا تعرف حال بعض رجال السند.
فالأمر أصعب من الحديث، ولكن لا يعني هذا أبدًا أن نتساهل فيه بل لابد أن نتثبت وأن نعرف كيف نأخذ تاريخنا.
قد يقول قائل: سيضيع علينا كثير من التاريخ بهذه الطريقة.
نرد عليه قائلين: إنه لن يضيع الكثير كما تتصور.
بل إن كثيرًا من روايات التاريخ مذكورة بالأسانيد سواء كانت هذه الأسانيد في كتب التاريخ نفسها كتاريخ الطبري، أوفي كتب الحديث كصحيح البخاري ومسند أحمد وسنن الترمذي، أو المصنفات كمصنف ابن أبي شيبه، أو في كتب التفسير التي تذكر بعض الروايات التاريخية بالأسانيد كتفسير ابن كثير وتفسير ابن جرير، وأحيانًا في كتب خاصة تكلمت عن أوقات خاصة ككتاب (حروب الردة) للكلاعي مثلا ً أو
(1) حقبة من التاريخ، للشيخ عثمان الخميس ص 29 - 39 باختصار وتصرف يسيرين.
كتاب (تاريخ خليفة بن خياط) المختصر، القصد أنك لا تعجز عن أن تجد سندًا لرواية من الروايات.
إن لم تجد سندًا:
وإن عجزت ولم تجد سندًا فعندك أصل عام تسير عليه وهو خاص بالنسبة لما وقع في عهد الصحابة، ألا وهو ثناء الله تبارك وتعالى وثناء رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على الصحابة فالأصل فيهم العدالة.
وكل رواية جاء فيها مطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالأصل النظر في السند فإن كان صحيحًا ينظر بعد ذلك في تأويل هذه الرواية وفيما تدل عليه.
فإن وجدنا السند ضعيفًا فالحمد لله، وإن لم تجد لها سندًا فعندك الأصل وهو عدالة أولئك القوم.
إذًا عند قراءة التاريخ لابد أن نقرأ بتمحيص كما نقرأ الحديث، ويُخَصُّ من هذا التاريخ تاريخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لمن نقرأ؟
للأسف شُغف الكثيرون الآن في زماننا هذا بقراءة الكتب الحديثة التي ألّفَتْ في التاريخ والتي تهتم بجمال القصة، أو تشويه الصورة، أو هما معًا، بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها، ككتب عباس العقاد، أو كتب خالد محمد خالد، أو كتب طه حسين، أو كتب چورچي زيدان أو غيرهم من المُحْدَثين.
فهؤلاء عندما يتكلمون عن التاريخ يهتمون بالسياق وجمال القصة بغض النظر عما إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة المهم أن يقص عليك قصة جميلة.
إذن لمن نقرأ؟
• إذا كنت تستطيع أن تبحث عن الأسانيد وتمحصها فاقرأ للإمام الطبري فهو العمدة بالنسبة للذين يكتبون في التاريخ، واقرأ لابن كثير في كتابه (البداية والنهاية)، وللذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام).
• وإذا كنت لا تستطيع أن تمحص الأسانيد فاقرأ لأبي بكر ابن العربي في كتابه (العواصم من القواصم)، وهو من أجمل الكتب التي تكلمت عن فترة الفتنة التي وقعت بين الصحابة، واقرأ لكتب أهل السنة التي تهتم بتمحيص الروايات التاريخية وفق منهج المحدثين ككتاب (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدّثين) للأستاذ الدكتور محمد أمحزون.
مم نحذر؟
ونحن نقرأ كتب التاريخ نحذر من أن نميل مع رأي المؤلف إذ لابد من أن ننظر إلى أصل الرواية لا إلى رأيه وأن نكون منصفين ونحن نقرأ.
ولابد أن نعتقد ونحن نقرأ تاريخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرين اثنين:
الأمر الأول:
أن نعتقد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم خير البشر بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم؛ وذلك لأن الله تبارك وتعالى مدحهم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مدحهم وبيَّنَ في أكثر من حديث أنهم أفضل الأمة أو الأمم بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.
الأمر الثاني:
أن نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير معصومين؛ نعم نحن نعتقد العصمة في إجماعهم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة (1)، لكنْ كأفراد هم غير معصومين فالعصمة لأنبياء الله عز وجل، أما غير الأنبياء فلا نعتقد بعصمة أحد منهم.
إذًا لابد أن نعتقد أن الصحابة خير الأولياء وأن نعتقد أنهم غير معصومين.
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَجَارَ أمَّتِي أنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ» . (رواه ابن أبي عاصم في السنة وحسنه الألباني).
فإذا جاءتك رواية فيها طعن في صحابي فلا تُقْدِمْ على ردّها وأيضًا لا تقْبَلْها حتى تنظر فيها، فإن وجدت السند صحيحًا فهذه من الأشياء التي هم غير معصومين فيها.
وإن وجدت السند ضعيفًا فنبقى على الأصل وهو أنهم خير البشر بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.
مدح الله تبارك وتعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أما مدح الله تبارك وتعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو في قول الله عز وجل:
مَدَح الله تبارك وتعالى جملة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ ًا الأصل فيهم المدح.
مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه رضي الله عنهم:
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (متفق عليه).
فهذا مدح من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
لاتقبل كل ما خَطّ الرواة:
يقول أبو عبد الله القحطاني في نونيته:
لَا تَقْبَلَنَّ مِنَ التَّوَارِخِ كُلّ مَا
…
جَمَعَ الرُّوَاةُ وَخَطّ كُلُّ بَنَانِ
ارْوِ الحَدِيثَ المُنْتَقَى عَنْ أَهْلِهِ
…
سِيمَا ذَوِي الأحْلَامِ والأسْنَانِ
كَابْنِ المُسَيَّبِ وَالعَلَاءِ وَمَالِكٍ
…
وَاللّيْثِ وَالزُهْرِيِّ أوْ سُفْيَانِ
وهو يحذّر المخاطب أن لا يقبلن من التوارخ كل ما خط الرواة وجمعوا ، وأن لا يقبل كل هذا التاريخ ففيه الغث والسمين ، إذ ًا كيف؟ قال: إذا أردت تاريخًا صحيحًا
فهو الذي يرويه هؤلاء وأمثالهم من الثقات، لا كما يقول الكثيرون ممن يطعنون في سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقولون إن تاريخنا أسود مظلم قاتم ، لا بل تاريخنا ناصع ، جميل ، طيب يتلذذ الإنسان بقراءته.
تاريخ الطبري:
إن أهم كتاب في التاريخ هو تاريخ الإمام الطبري وكثيرًا ما ينقل الناس عن تاريخ الطبري، أهل السنة ينقلون عن تاريخ الطبري، وأهل البدعة ينقلون عن تاريخ الطبري، أهل السنة يحتجون بتاريخ الطبري، وأهل البدعة يحتجون بتاريخ الطبري.
لماذا يقدم تاريخ الطبري على غيره من التواريخ؟
لأمور كثيرة منها:
1 -
قرب عهد الإمام الطبري من تلك الحوادث.
2 -
أن الإمام الطبري يروي بالأسانيد.
3 -
جلالة الإمام الطبري ومنزلته العلمية رحمه الله تبارك وتعالى.
4 -
أن أكثر كتب التاريخ إنما تنقل عنه.
وإذا كان الأمر كذلك فنحن إذا أردنا أن نقرأ فلنذهب مباشرة إلى الإمام الطبري ، ولكن أهل السنة يأخذون من تاريخ الطبري وأهل البدعة يأخذون من تاريخ الطبري، فكيف نوفّق بين هذا وهذا؟
تاريخ الطبري ـ كما قلنا ـ من مميزاته أنه لايحدّث إلا بالأسانيد، أهل السنة يأخذون الصحيح من أسانيد الطبري وأهل البدعة يأخذون الصحيح والغث والسمين ، المهم أن يوافق أهواءهم.
منهج الإمام الطبري في تاريخه:
لقد أراحنا الإمام الطبري رحمه الله من هذه المسألة بمقدمة كتبها في أول كتابه ، ليت الذين يقرؤون التاريخ يقرؤون هذه المقدمة (1).
يقول الإمام الطبري في مقدمة تاريخه:
«وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه ، إنما هو على ما رُوِّيتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مُسْنِدُها إلى رواتها.
فما يكن في كتابي هذا من خير ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه ، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا من الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يُؤْتَ في ذلك مِن قِبَلِنَا وإنما أتِيَ مِنْ قِبَل ناقليه إلينا، وإنا إنما أدَّيْنا ذلك على نحو ما أدِّيَ إلينا».
إن الإمام الطبري بهذه المقدمة التي قدم لكتابه ألقى العهدة عليك أيها القارئ فهو يقول لك: إذا وجدت في كتابي هذا خبرًا تستشنعه ولا تقبله فانظر عمن رُوِّيناه والعهدة عليه، وعليَّ أن أذكر من حدثني بهذا، فإن كان ثقة فاقبل وإن لم يكن ثقة فلا تقبل.
وهذا الأمر قام به أكثر المحدثين ، فحين ترجع إلى كتب الحديث غير الصحيحين اللذين تعهدا بإخراج الصحيح فقط ، كأن ترجع إلى سنن الترمذي ، أو أبي داود ، أو الدارقطني ، أو الدارمي أو مسند أحمد أو غيرها من الكتب تجدهم يذكرون لك الإسناد ولم يتعهدوا بذكر الصحيح فقط وإنما ذكروا لك الإسناد، وانظر أنت إلى الإسناد إذا كان السند صحيحًا فاقبل وإن لم يكن صحيحًا فرُدّه.
والطبري هنا لم يتعهد أن ينقل الصحيح فقط إنما تعهد أن يحدثك عمن نقل عنه، يحدثك باسمه فإذا كان الأمر كذلك فلا عهدة على الإمام الطبري رحمه الله تعالى.
(1) بل ينبغي لكل إنسان إذا أراد أن يقرأ كتابًا من الكتب أن يقرأ مقدمة الكتاب حتى يعرف منهج المؤلف.
وقد أكثَرَ الإمام الطبري في كتابه (التاريخ) النقل عن رجل اسمه لوط بن يحيى، ويكنى بأبي مخنف.
ولوط بن يحيى هذا روى عنه الطبري خمسمائة وسبعًا وثمانين رواية ، وهذه الروايات تبدأ من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنتهي إلى خلافة يزيد ، منها سقيفة بني ساعدة ، قصة الشورى الأمور التي من أجلها قام الخوارج على عثمان رضي الله عنه ثم بعد ذلك مقتله ، خلافة علي رضي الله عنه ، معركة الجمل ، معركة صِفِّين ، التحكيم ، معركة النهروان ، خلافة معاوية رضي الله عنه ، قتل الحسين رضي الله عنه.في كل هذه تجد لأبي مخنف رواية وهذه هي التي يعتمدها أهل البدع ، ويحرصون عليها.
وليس أبو مخنف وحده بل أبو مخنف هو أشهرهم وإلا فهناك غيره كالواقدي مثلا ً، وهو متروك متهم بالكذب أيضًا.
والثالث: سيف بن عمر التميمي وهو أيضًا مؤرخ معروف ولكنه متروك متهم بالكذب أيضًا. وكذلك الكلبي وهو كذاب مشهور فإذ ًا لابد أن يتثبت المرء من رواية أمثال هؤلاء.
نرجع إلى أبي مخنف قال عنه ابن معين: ليس بثقة.
وقال أبو حاتم: متروك الحديث.
وسئل عنه مرة فنفض يده وقال: أحد يسأل عن هذا؟.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال الذهبي: أخباري تالف لا يوثق به.
فأنت إذا فتحت تاريخ الطبري ووجدت رواية فيها مطعن على أصحاب الرسول ثم وجدت أن الطبري إنما رواها عن أبي مخنف فعليك أن تلقيها جانبًا.
لماذا؟ لأنها من رواية أبي مخنف.
وأبو مخنف هذا جمع بين البدعة والكذب وكثرة الرواية؛ مبتدع كذاب مكثر من الرواية.