الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الأولى
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ قَالَ فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً وَقَالَ: «اذْهَبْ وَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ» .
قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: «هُوَ يَأْكُلُ» .
قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِيَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ» .
قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: «هُوَ يَأْكُلُ» .
فَقَالَ: «لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ» (رواه مسلم).
الجواب:
قد يستغل بعض أعداء الإسلام كالشيعة وغيرهم هذا الحديث ليتخذوا منه مطعنًا فى معاوية رضي الله عنه وليس فيه ما يساعدهم على ذلك، كيف وفيه أنه كان كاتب النبى صلى الله عليه وآله وسلم؟!.
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم:
«وَقَوْله: حَطْأَة: هُوَ الضَّرْب بِالْيَدِ مَبْسُوطَة بَيْن الْكَتِفَيْنِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا بِابْنِ عَبَّاس مُلَاطَفَة وَتَأْنِيسًا.
وَأَمَّا دُعَاؤُهُ عَلَى مُعَاوِيَة أَنْ لَا يَشْبَع حِين تَأَخَّرَ فَفِيهِ الْجَوَابَانِ السَّابِقَانِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ جَرَى عَلَى اللِّسَان بِلَا قَصْد، وَالثَّانِي أَنَّهُ عُقُوبَة لَهُ لِتَأَخُّرِهِ.
وَقَدْ فَهِمَ مُسْلِم رحمه الله مِنْ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ مُعَاوِيَة لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَجَعَلَهُ غَيْره مِنْ مَنَاقِب مُعَاوِيَة لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة يَصِير دُعَاء لَهُ». (اهـ باختصار).
فالظاهر أن هذا الدعاء منه صلى الله عليه وآله وسلم غير مقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب فى وصل كلامها بلا نية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لبلال رضي الله عنه:«مَا لَهُ تَرِبَتْ يَدَاهُ» (1).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ» (2) ونحو ذلك.
ويمكن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم بباعث البشرية التى أفصح عنها هو نفسه صلى الله عليه وآله وسلم فى أحاديث كثيرة متواترة، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي عز وجل أَيُّ عَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا» (رواه مسلم).
وقد ختم الإمام مسلم رحمه الله بهذا الحديث الأحاديث الواردة في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل ما صدر منه من سب ودعاء على أحد ليس هو أهلًا لذلك أن يجعله له زكاة،
(1) عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: «ضِفْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ وَأَخَذَ الشَّفْرَةَ فَجَعَلَ يَحُزُّ لِي بِهَا مِنْهُ» ، قَالَ:«فَجَاءَ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ» ، قَالَ:«فَأَلْقَى الشَّفْرَةَ، وَقَالَ: «مَا لَهُ تَرِبَتْ يَدَاهُ» ، وَقَامَ يُصَلِّي» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ: (ضِفْتُ):أَيْ نَزَلْت عَلَيْهِ ضَيْفًا. (بِجَنْبٍ):جَنْب الشَّاة شِقّهَا، وَجَنْب الْإِنْسَان شِقّه. (الشَّفْرَة): هِيَ السِّكِّين الْعَظِيمَة، وَقِيلَ: هِيَ السِّكِّين الْعَرِيضَة. (يَحُزّ): حَزَّهُ وَاحْتَزَّهُ أَيْ قَطَعَهُ، وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز قَطْع اللَّحْم بِالسِّكِّينِ، وَفِي النَّهْي عَنْهُ حَدِيث ضَعِيف فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ.
…
(فَآذَنَهُ): أَيْ أَعْلَمَهُ وَأَخْبَرَهُ. (وَقَالَ (النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (مَا لَهُ): لِبِلَالٍ قَدْ عَجَّلَ وَلَمْ يَنْتَظِر إِلَى أَنْ أَفْرُغ مِنْ أَكْل طَعَامِي. (تَرِبَتْ يَدَاهُ): تَرِبَ الشَّيْء: أَصَابَهُ التُّرَاب، وَمِنْهُ تَرِبَ الرَّجُل اِفْتَقَرَ كَأَنَّهُ لَصِقَ بِالتُّرَابِ، يُقَال تَرِبَتْ يَدَاك وَهُوَ عَلَى الدُّعَاء أَيْ لَا أَصَبْت خَيْرًا.
وَ (تَرِبَتْ يَدَاهُ) كَلِمَة تَقُولهَا الْعَرَب عِنْد اللَّوْم وَمَعْنَاهَا الدُّعَاء عَلَيْهِ بِالْفَقْرِ وَالْعَدَم، وَقَدْ يُطْلِقُونَهَا فِي كَلَامهمْ وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ وُقُوع الْأَمْر كَمَا قَالُوا عَقْرَى حَلْقَى فَإِنَّ هَذَا الْبَاب لَمَّا كَثُرَ فِي كَلَامهمْ وَأَدَامَ اِسْتِعْمَاله فِي مَجَارِي اِسْتِعْمَالهمْ صَارَ عِنْدهمْ بِمَعْنَى اللَّغْو، وَذَلِكَ مِنْ لَغْو الْيَمِين الَّذِي لَا اِعْتِبَار بِهِ وَلَا كَفَّارَة فِيهِ.
(2)
جزء من حديث طويل عن معاذ رضي الله عنه: «
…
قُلْتُُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِما نَتَكَلَّمُ بهِ؟ فقالَ:«ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، ـ أوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ ـ إلَاّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» . (رواهُ الترمذيُّ وصححه الألباني).
وأجرًا، ورحمة، وذلك كقوله:(عَقْرَى حَلْقَى (1)، وثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وتَرِبَتْ يَمِينُك، ولَا كَبِرَ سِنُّكِ)، فقد أورد في صحيحه عدّة أحاديث:
أحدها هذا الحديث.
وقبله حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْيَتِيمَةَ فَقَالَ: «آنْتِ هِيَهْ لَقَدْ كَبِرْتِ، لَا كَبِرَ سِنُّكِ» .
فَرَجَعَتْ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي؛ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: «مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ؟» .
قَالَتْ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي فَالْآنَ لَا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا ـ أَوْ قَالَتْ قَرْنِي.
فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا (2) حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» .
فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي؟
قَالَ: «وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟» .
قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا.
قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ قَالَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
(1) مَعْنَى (عَقْرَى) عَقَرَهَا اللهُ تَعَالَى، وَ (حَلْقَى) حَلَقَهَا اللهُ. يَعْنِي عَقَرَ اللهُ جَسَدهَا وَأَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقهَا.
وَقِيلَ: يُقَال لِلْمَرْأَةِ عَقْرَى حَلْقَى مَعْنَاهُ عَقَرَهَا اللهُ، وَحَلَقَهَا أَيْ حَلَقَ شَعْرهَا أَوْ أَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقهَا.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلَهَا اللَّه عَاقِرًا لَا تَلِد، وَحَلْقَى مَشْئُومَة عَلَى أَهْلهَا. وَعَلَى كُلّ قَوْل فَهِيَ كَلِمَة كَانَ أَصْلهَا مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ اِتَّسَعَتْ الْعَرَب فِيهَا فَصَارَتْ تُطْلِقهَا وَلَا تُرِيد حَقِيقَة مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا، وَنَظِيره تَرِبَتْ يَدَاهُ، وَقَاتَلَهُ اللَّه مَا أَشْجَعه وَمَا أَشْعَره. وَاَللَّه أَعْلَم. (باختصار من شرح صحيح مسلم للنووي).
(2)
تَلُوث خِمَارهَا: أَيْ تُدِيرهُ عَلَى رَأْسِهَا.
وعقب هذا الحديث مباشرة أورد مسلم رحمه الله الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاوية: «لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ» .
وهذا من حسن صنيع مسلم رحمه الله وجودة ترتيبه لصحيحه، وهو من دقيق فهمه، وحسن استنباطه رحمه الله.فركب مسلم من الحديث الاول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يُورِد له غير ذلك. قال الحافظ ابن كثير:«فركّب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية» (1).
الحديث الأول: أي حديث «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» وهذا الحديث: أي حديث «لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ» .
وفي الحديث تأكيد لصحبة معاوية رضي الله عنه وبأنه من كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وليس في الحديث ما يثبت أن ابن عباس رضي الله عنه ـ وقد كان طفلًا آنذاك ـ قد أخبر معاوية رضي الله عنه بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريده، بل يُفهم من ظاهر الحديث أنه شاهده يأكل فعاد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخبره. فأين الذم هنا كما يزعم المتشدِّقون؟!
(1) البداية والنهاية (8/ 119 - 120).