المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌والصلح خير كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما في - معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين وكاتب وحي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم - كشف شبهات ورد مفتريات

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم الأستاذ الدكتور: أنور السنوسي

- ‌مقدمة

- ‌هذا معاوية رضي الله عنه

- ‌كيف نقرأ التاريخ

- ‌دور الشيعة في الدس على التاريخ الإسلامي وتشويهه:

- ‌وسائل الأخباريين في تشويه التاريخ:

- ‌تنبيه:

- ‌ذم في ثوب المدح، تشويق وتشويه

- ‌1 - قصة ابن الأكرمين:

- ‌2 - قصة أصابت امرأة وأخطأ عمر:

- ‌3 - قصة جلد عمر رضي الله عنه لابنه حتى الموت:

- ‌4 - قصة اغتسال فاطمة رضي الله عنها قبل الموت:

- ‌5 - حلم أم ظلم:

- ‌6 - ذكر أحد المعاصرين الغيورين ـ حفظه الله ـ الكلام التالي يستدل بها على ثقة عمر في معاوية وسعادة أبي سفيان بذلك:

- ‌7 - وقال هذا الغيور أيضًا ما يلي:

- ‌التحذير من أخبار يحتج بها الرافضة

- ‌منهج أهل السنة والجماعةفيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم

- ‌لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة رضي الله عنهم ولماذا الدفاع عنهم

- ‌معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في سطور

- ‌أبو سفيان بن حرب والد معاوية رضي الله عنهما

- ‌هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية رضي الله عنهما

- ‌من إخوان وأخوات معاوية رضي الله عنه

- ‌تاريخ إسلام معاوية رضي الله عنه

- ‌حقيقة ما حدث بين علي ومعاوية رضي الله عنهما

- ‌التحكيم

- ‌بطلان قصة التحكيم المشهورة

- ‌والصلح خير

- ‌فضائل معاوية رضي الله عنهمن فضائل معاوية رضي الله عنه في القرآن الكريم:

- ‌من فضائل معاوية رضي الله عنهفي السُّنّة النبوية الصحيحة

- ‌من فضائل معاوية رضي الله عنهثبوت كونه كاتبًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكتابته الوحي

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهكونه خال المؤمنين

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهأنه أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ وقد وجبت له الجنة

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنه أنه من الذينرآهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهأنه كان من الذين أحبُّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يَعِزّوا، فأعزّهم الله

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهأنه كانت له منزلةٌ خاصة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهدلائل النبوة في الإخبار بأن ولايته رحمةٌ على الأمة

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالهداية وبالوقاية من العذاب

- ‌ومن فضائل معاوية رضي الله عنهأنه أحد الخلفاء الاثني عشر

- ‌معاوية رضي الله عنهأم عمر بن عبد العزيز رحمه الله

- ‌أحاديث لا تصح في شأن معاوية رضي الله عنه مدحًا وذمًا

- ‌تعظيممعاوية رضي الله عنه لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌توقيرمعاوية رضي الله عنه لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌أمر معاوية رضي الله عنهبالمعروف وإنكاره للمنكر

- ‌معاوية رضي الله عنهطالبًا للعلم والنصيحة

- ‌بعض الأحاديث التيرواها معاوية رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌علم معاوية رضي الله عنه وفقهه

- ‌ذكر بعض ما جاءمن ثناء الصحابة على معاوية رضي الله عنهم

- ‌ذكر بعض ما جاءمن ثناء التابعين على معاوية رضي الله عنه

- ‌ذكر بعض ما جاءمن ثناء العلماء على معاوية رضي الله عنه

- ‌تواضع معاوية رضي الله عنه وزهده

- ‌حِلممعاوية رضي الله عنه ورحابة صدره

- ‌جهادمعاوية رضي الله عنه وفتوحاته

- ‌عدل معاوية رضي الله عنه

- ‌حرص معاوية رضي الله عنهعلى توطين الأمن في خلافته

- ‌اهتمام معاوية رضي الله عنه برعيته

- ‌بعض ما رُويمن أقوال معاوية رضي الله عنه

- ‌كشف شبهاتالشيعة حول معاوية رضي الله عنه

- ‌الشبهة الأولى«لا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ»

- ‌الشبهة الثانية«وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ»

- ‌الشبهة الثالثة«إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»

- ‌الشبهة الرابعةالطليق ابن الطليق

- ‌الشبهة الخامسةقالوا: قاتل عليًا وهوعند أهل السنة رابع الخلفاء، إمامحق، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم

- ‌الشبهة السادسة

- ‌الشبهة السابعة

- ‌الشبهة الثامنة

- ‌الشبهة التاسعة

- ‌الشبهة العاشرة

- ‌الشبهة الحادية عشرة

- ‌الشبهة الثانية عشرة

- ‌الشبهة الثالثة عشرة

- ‌الشبهة الرابعة عشرة

- ‌الشبهة الخامسة عشرة

- ‌الشبهة السادسة عشرة

- ‌الشبهة السابعة عشرةهل لُعِنَ عليٌّ على المنابر بأمر من معاوية رضي الله عنهما

- ‌الشبهة الثامنة عشرةمسألة سب معاوية لعلي رضي الله عنهما

- ‌الشبهة التاسعة عشرةهل حُمِلَتْ الخمرُ لمعاوية رضي الله عنه

- ‌الشبهة العشرونهل باع معاوية رضي الله عنه الأصنام لأهل الهند

- ‌الشبهة الحادية والعشرونهل أقسم معاوية رضي الله عنهاليمين الغموس وكذبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌الشبهة الثانية والعشرونهل قتل معاوية عبد الرحمن بن خالد بن الوليد

- ‌الشبهة الثالثة والعشرونهل قتل معاوية الأشتر مالك بن الحارث النخعي

- ‌الشبهة الرابعة والعشرونهل معاوية رضي الله عنه ذمه كثير من المهاجرينوالأنصار من البدريين وغيرهم رضي الله عنهم

- ‌الشبهة الخامسة والعشرونهل معاوية رضي الله عنه ذمه كثير من التابعينكالحسن البصري والأسود بن يزيد وغيرهم

- ‌الشبهة السادسة والعشرونقولهم: «قتلَ ابنُه يزيد الحسينَ رضي الله عنه ونهب نساءه»

- ‌الشبهة السابعة والعشروناستلحاق معاوية رضي الله عنه زياد بن أبيه

- ‌الشبهة الثامنة والعشرونقَتْلُه حِجْر بنَ عدي وأصحابه

- ‌الشبهة التاسعة والعشروناتهام معاوية رضي الله عنه بشرب الخمر

- ‌الشبهة الثلاثونافتراءات حول مصارفالأموال في عهد معاوية رضي الله عنه

- ‌الشبهة الحادية والثلاثونهل قال معاوية رضي الله عنه: «إن الكريم طروب»

- ‌الشبهة الثانية والثلاثونهل أراد معاوية رضي الله عنه أن ينقلمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى الشام

- ‌الشبهة الثالثة والثلاثون

- ‌الشبهة الرابعة والثلاثونهل تعامل معاوية رضي الله عنه بالربا

- ‌الشبهة الخامسة والثلاثونهل قتل معاوية رضي الله عنهخمسة وعشرين بدريًا يوم صِفِّين

- ‌أهم المراجع

الفصل: ‌ ‌والصلح خير كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما في

‌والصلح خير

كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنهما في شهر رمضان من سنة 40 هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم المرادي ، وقد اختار الناس الحسن بعد والده رضي الله عنهما ولم يعين أمير المؤمنين أحدًا من بعده، وقد اشترط الحسن بن علي رضي الله عنه على أهل العراق عندما أرادوا بيعته، فقال لهم:«والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم» .

قالوا: «ما هو؟» .

قال: «تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت» .

ويستفاد من ذلك ابتداء الحسن رضي الله عنه في التمهيد للصلح فور استخلافه وقد باشر الحسن بن علي سلطته كخليفة، فرتب العمال وأمّر الأمراء وجند الجنود وفرق العطايا، وكان في وسعه أن يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد معاوية ،وكانت شخصيته الفذة من الناحية العسكرية والأخلاقية، والسياسية، والدينية تساعده على ذلك، إلا أن الحسن بن علي رضي الله عنهما ، مالَ إلى السلم والصلح لحقن الدماء، وتوحيد الأمة، والرغبة فيما عند الله، وزهده في الملك، وغير ذلك من الأسباب.

وقد قاد الحسن بن علي مشروع الإصلاح الذي تُوّج بوحدة الأمة.

وقد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما من موقف قوة فقد اختير الحسن بن علي بعد والده رضي الله عنهما اختيارًا شوريًا وأصبح الخليفة الشرعي على الحجاز واليمن والعراق، وكل الأماكن التي كانت خاضعة لوالده، وقد استمر في خلافته ستة أشهر وتلك المدة تدخل ضمن الخلافة الراشدة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن مدتها ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا (1).

(1) رواه أبو داود، وصححه الألباني.

ص: 90

وكان مع الحسن بن علي رضي الله عنهما أكثر من أربعين ألفًا بايعوه على الموت وكان في معسكره كثير من القواد الكبار، كأخيه الحسين، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وقيس بن سعد بن عبادة، وعدي بن حاتم وغيرهم فلو أراد الخلافة لأعطي المجال لقياداته للتحرك نحو تعبئة الناس والدخول في الحرب مع معاوية وعلى الأقل يكون خليفة على دولته إلى حين.

إن تسليم الحسن بن علي رضي الله عنهما الخلافة إلى معاوية رضي الله عنه مع أنه كان معه أكثر من أربعين ألفًا بايعوه على الموت، ليدل على مكانة معاوية رضي الله عنه فلو لم يكن أهلًا لها لما سلمها السبط الطيب إليه ولَحَاربه (1).

عن الْحَسَن قال: «اسْتَقْبَلَ وَاللهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: «إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لَا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا» .

فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ ـ وَكَانَ وَاللهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ ـ: «أَيْ عَمْرُو، إِنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ؟ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ؟ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ؟»

فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ـ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ ـ فَقَالَ: «اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولَا لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ» .

فَأَتَيَاهُ فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا وَقَالَا لَهُ، فَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ:«إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا» .

قَالَا: «فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ» .

قَالَ: «فَمَنْ لِي بِهَذَا؟» .

قَالَا: «نَحْنُ لَكَ بِهِ» .

فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا: «نَحْنُ لَكَ بِهِ» ، فَصَالَحَهُ.

(1) بتصرف من كتاب الدولة الأموية للصلابي (229 - 244).

ص: 91

فَقَالَ الْحَسَنُ: «وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . (رواه البخاري في كتاب الصلح من صحيحه).

وفي رواية أخرى للبخاري عن الْحَسَنُ قَالَ: «لَمَّا سَارَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكَتَائِبِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: «أَرَى كَتِيبَةً لَا تُوَلِّي حَتَّى تُدْبِرَ أُخْرَاهَا» .

قَالَ مُعَاوِيَةُ: «مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ» ، فَقَالَ:«أَنَا» .

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: «نَلْقَاهُ فَنَقُولُ لَهُ الصُّلْحَ» .

قَالَ الْحَسَنُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: «بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . (رواه البخاري في كتاب الفتن من صحيحه).

قال الحافظ ابن حجر: «(الْحَسَن) يَعْنِي الْبَصْرِيّ.

وَالْكَتَائِب جَمْع كَتِيبَة وَهِيَ طَائِفَة مِنْ الْجَيْش تَجْتَمِع.

(أَمْثَال الْجِبَال) أَيْ لَا يُرَى لَهَا طَرَف لِكَثْرَتِهَا كَمَا لَا يَرَى مَنْ قَابَلَ الْجَبَل طَرَفه، وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد شِدَّة الْبَأْس.

وَأَشَارَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ بِهَذِهِ الْقِصَّة إِلَى مَا اِتَّفَقَ بَعْدَ قَتْل عَلِيّ رضي الله عنه، وَكَانَ عَلِيّ لَمَّا اِنْقَضَى أَمْر التَّحْكِيم وَرَجَعَ إِلَى الْكُوفَة تَجَهَّزَ لِقِتَالِ أَهْل الشَّام مَرَّة بَعْدَ أُخْرَى فَشَغَلَهُ أَمْر الْخَوَارِج بِالنَّهْرَوَانِ وَذَلِكَ فِي سَنَة ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ تَجَهَّزَ فِي سَنَة تِسْع وَثَلَاثِينَ فَلَمْ يَتَهَيَّأ ذَلِكَ لِافْتِرَاقِ آرَاء أَهْل الْعِرَاق عَلَيْهِ، ثُمَّ وَقَعَ الْجِدّ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فِي سَنَة أَرْبَعِينَ.

فَأَخْرَجَ إِسْحَاق مِنْ طَرِيق عَبْد الْعَزِيز بْن سِيَاهٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْخَوَارِج قَامَ عَلِيّ فَقَالَ: «أَتَسِيرُونَ إِلَى الشَّام أَوْ تَرْجِعُونَ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَلَفُوكُمْ فِي دِيَاركُمْ؟» .

قَالُوا: «بَلْ نَرْجِع إِلَيْهِمْ» ، فَذَكَرَ قِصَّة الْخَوَارِج.

ص: 92

قَالَ: فَرَجَعَ عَلِيّ إِلَى الْكُوفَة، فَلَمَّا قُتِلَ وَاسْتَخْلَفَ الْحَسَن وَصَالَحَ مُعَاوِيَة كَتَبَ إِلَى قَيْس بْن سَعْد بِذَلِكَ فَرَجَعَ عَنْ قِتَال مُعَاوِيَة.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ يُونُس بْن يَزِيد عَنْ الزُّهْرِيّ قَالَ: «جَعَلَ عَلِيّ عَلَى مُقَدِّمَة أَهْل الْعِرَاق قَيْس بْن سَعْد بْن عُبَادَةَ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْت، فَقُتِلَ عَلِيّ فَبَايَعُوا الْحَسَن بْن عَلِيّ بِالْخِلَافَةِ، وَكَانَ لَا يُحِبّ الْقِتَال وَلَكِنْ كَانَ يُرِيد أَنْ يَشْتَرِط عَلَى مُعَاوِيَة لِنَفْسِهِ، فَعَرَفَ أَنَّ قَيْس بْن سَعْد لَا يُطَاوِعهُ عَلَى الصُّلْح فَنَزَعَهُ وَأَمَّرَ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس فَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ كَمَا اِشْتَرَطَ الْحَسَن» .

قَالَ اِبْن بَطَّال: «سَلَّمَ الْحَسَن لِمُعَاوِيَةَ الْأَمْر وَبَايَعَهُ عَلَى إِقَامَة كِتَاب اللَّه وَسُنَّة نَبِيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وَدَخَلَ مُعَاوِيَة الْكُوفَة وَبَايَعَهُ النَّاس فَسُمِّيَتْ سَنَة الْجَمَاعَة لِاجْتِمَاعِ النَّاس وَانْقِطَاع الْحَرْب. وَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ كُلّ مَنْ كَانَ مُعْتَزِلًا لِلْقِتَالِ كَابْنِ عُمَر وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ، وَأَجَازَ مُعَاوِيَة الْحَسَن بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْف وَأَلْف ثَوْب وَثَلَاثِينَ عَبْدًا وَمِائَة جَمَل، وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَة، وَوَلَّى مُعَاوِيَة الْكُوفَة الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة وَالْبَصْرَة عَبْد اللَّه بْن عَامِر وَرَجَعَ إِلَى دِمَشْق.

قَوْله (قَالَ عَمْرو بْن الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى كَتِيبَة لَا تُوَلِّي) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ لَا تُدْبِرُ.

قَوْله (حَتَّى تُدْبِر أُخْرَاهَا) أَيْ الَّتِي تُقَابِلهَا.

(قَالَ مُعَاوِيَة مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ مَنْ يَكْفُلهُمْ إِذَا قُتِلَ آبَاؤُهُمْ؟

وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ (ضَيْعَتهمْ) الْأَطْفَال وَالضُّعَفَاء سُمُّوا بِاسْمِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرهمْ لِأَنَّهُمْ إِذَا تُرِكُوا ضَاعُوا لِعَدَمِ اِسْتِقْلَالهمْ بِأَمْرِ الْمَعَاش.

وَأَمَّا قَوْله هُنَا فِي جَوَاب قَوْل مُعَاوِيَة: «مَنْ لِذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: «أَنَا» فَظَاهِره يُوهِم أَنَّ الْمُجِيب بِذَلِكَ هُوَ عَمْرو بْن الْعَاصِ، وَلَمْ أَرَ فِي طُرُق الْخَبَر مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَة فَلَعَلَّهَا كَانَتْ:(فَقَالَ أَنَّى) بِتَشْدِيدِ النُّون الْمَفْتُوحَة، قَالَهَا عَمْرو عَلَى سَبِيل الِاسْتِبْعَاد.

قَوْله (فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَامِر وَعَبْد الرَّحْمَن بْن سَمُرَة: نَلْقَاهُ فَنَقُول لَهُ الصُّلْح)

ص: 93

أَيْ نُشِير عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ، وَهَذَا ظَاهِره أَنَّهُمَا بَدَآ بِذَلِكَ، وَاَلَّذِي فِي كِتَاب الصُّلْح أَنَّ مُعَاوِيَة هُوَ الَّذِي بَعَثَهُمَا، فَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنَّهُمَا عَرَضَا أَنْفُسهمَا فَوَافَقَهُمَا.

(فَقَالَ مُعَاوِيَة: اِذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُل فَاعْرِضَا عَلَيْهِ) أَيْ مَا شَاءَ مِنْ الْمَال (وَقُولَا لَهُ) أَيْ فِي حَقْن دِمَاء الْمُسْلِمِينَ بِالصُّلْحِ (وَاطْلُبَا إِلَيْهِ) أَيْ اُطْلُبَا مِنْهُ خَلْعه نَفْسه مِنْ الْخِلَافَة وَتَسْلِيم الْأَمْر لِمُعَاوِيَةَ وَابْذُلَا لَهُ فِي مُقَابَلَة ذَلِكَ مَا شَاءَ.

(فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: «إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا» .

قَالَا: «فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ» .

قَالَ: «فَمَنْ لِي بِهَذَا؟» .

قَالَا: «نَحْنُ لَكَ بِهِ» .

فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا: «نَحْنُ لَكَ بِهِ» ، فَصَالَحَهُ).

قَالَ اِبْن بَطَّال: هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَة كَانَ هُوَ الرَّاغِب فِي الصُّلْح وَأَنَّهُ عَرَضَ عَلَى الْحَسَن الْمَال وَرَغَّبَهُ فِيهِ وَحَثَّهُ عَلَى رَفْع السَّيْف وَذَكَّرَهُ مَا وَعَدَهُ بِهِ جَدّه صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ سِيَادَته فِي الْإِصْلَاح بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَن: إِنَّا بَنُو عَبْد الْمُطَّلِب أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَال، أَيْ إِنَّا جُبِلْنَا عَلَى الْكَرَم وَالتَّوْسِعَة عَلَى أَتْبَاعنَا مِنْ الْأَهْل وَالْمَوَالِي وَكُنَّا نَتَمَكَّن مِنْ ذَلِكَ بِالْخِلَافَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ لَنَا عَادَة.

وَقَوْله (إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّة) أَيْ الْعَسْكَرَيْنِ الشَّامِيّ وَالْعِرَاقِيّ (قَدْ عَاثَتْ) أَيْ قَتَلَ بَعْضهَا بَعْضًا فَلَا يَكُفُّونَ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالصَّفْحِ عَمَّا مَضَى مِنْهُمْ وَالتَّأَلُّف بِالْمَالِ.

وَأَرَادَ الْحَسَن بِذَلِكَ كُلّه تَسْكِين الْفِتْنَة وَتَفْرِقَة الْمَال عَلَى مَنْ لَا يُرْضِيه إِلَّا الْمَال، فَوَافَقَاهُ عَلَى مَا شَرَطَ مِنْ جَمِيع ذَلِكَ وَالْتَزَمَا لَهُ مِنْ الْمَال فِي كُلّ عَام وَالثِّيَاب وَالْأَقْوَات مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ لِكُلِّ مَنْ ذُكِرَ.

وَقَوْله (مَنْ لِي بِهَذَا) أَيْ مَنْ يَضْمَن لِي الْوَفَاء مِنْ مُعَاوِيَة؟ فَقَالَا: نَحْنُ نَضْمَن لِأَنَّ مُعَاوِيَة كَانَ فَوَّضَ لَهُمَا ذَلِكَ.

ص: 94

وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة مِنْ الْفَوَائِد:

عَلَم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة، وَمَنْقَبَة لِلْحَسَنِ بْن عَلِيّ فَإِنَّهُ تَرَكَ الْمُلْك لَا لِقِلَّةٍ وَلَا لِذِلَّةٍ وَلَا لِعِلَّةٍ بَلْ لِرَغْبَتِهِ فِيمَا عِنْدَ اللَّه لِمَا رَآهُ مِنْ حَقْن دِمَاء الْمُسْلِمِينَ، فَرَاعَى أَمْر الدِّين وَمَصْلَحَة الْأُمَّة.

وَفِيهَا رَدّ عَلَى الْخَوَارِج الَّذِينَ كَانُوا يُكَفِّرُونَ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ، وَمُعَاوِيَة وَمَنْ مَعَهُ؛ بِشَهَادَةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم لِلطَّائِفَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ يَقُول عَقِبَ هَذَا الْحَدِيث:«قَوْله: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» يُعْجِبنَا جِدًّا» أَخْرَجَهُ يَعْقُوب بْن سُفْيَان فِي تَارِيخه عَنْ الْحُمَيْدِيِّ وَسَعِيد بْن مَنْصُور عَنْهُ.

وَفِيهِ فَضِيلَة الْإِصْلَاح بَيْنَ النَّاس وَلَا سِيَّمَا فِي حَقْن دِمَاء الْمُسْلِمِينَ، وَدَلَالَة عَلَى رَأْفَة مُعَاوِيَة بِالرَّعِيَّةِ، وَشَفَقَته عَلَى المُسْلِمِينَ، وَقُوَّة نَظَره فِي تَدْبِير الْمُلْك، وَنَظَره فِي الْعَوَاقِب.

وَفِيهِ وِلَايَة الْمَفْضُول الْخِلَافَة مَعَ وُجُود الْأَفْضَل لِأَنَّ الْحَسَن وَمُعَاوِيَة وُلِّيَ كُلّ مِنْهُمَا الْخِلَافَة وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَسَعِيد بْن زَيْد فِي الْحَيَاة وَهُمَا بَدْرِيَّانِ.

وَفِيهِ جَوَاز خَلْع الْخَلِيفَة نَفْسه إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلْمُسْلِمِينَ وَالنُّزُول عَنْ الْوَظَائِف الدِّينِيَّة وَالدُّنْيَوِيَّة بِالْمَالِ، وَجَوَاز أَخْذ الْمَال عَلَى ذَلِكَ وَإِعْطَائِهِ بَعْدَ اِسْتِيفَاء شَرَائِطه بِأَنْ يَكُون الْمَنْزُول لَهُ أَوْلَى مِنْ النَّازِل وَأَنْ يَكُون الْمَبْذُول مِنْ مَال الْبَاذِل.

فَإِنْ كَانَ فِي وِلَايَة عَامَّة وَكَانَ الْمَبْذُول مِنْ بَيْت الْمَال اُشْتُرِطَ أَنْ تَكُون الْمَصْلَحَة فِي ذَلِكَ عَامَّة، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ اِبْن بَطَّال قَالَ: يُشْتَرَط أَنْ يَكُون لِكُلٍّ مِنْ الْبَاذِل وَالْمَبْذُول لَهُ سَبَب فِي الْوِلَايَة يَسْتَنِد إِلَيْهِ، وَعَقْد مِنْ الْأُمُور يُعَوَّل عَلَيْهِ (1).

إن أهم نتائج الصلح هي:

- توحد الأمة تحت قيادة واحدة.

- عودة الفتوحات إلى ما كانت عليه.

(1) باختصار من (فتح الباري).

ص: 95

- تفرغ الدولة للخوارج.

وبتنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما اكتملت عوامل تولي معاوية رضي الله عنه الخلافة، وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميرًا للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة وسمي هذا العام بعام الجماعة، وسجل في ذاكرة الأمه عام الجماعة وأصبح هذا الحدث من مفاخرها التي تزهو بها على مر العصور، وتوالي الدهور.

فقد التقت الأمة على زعامة معاوية، ورضيت به أميرًا عليها، وابتهج خيار المسلمين بهذه الوحدة الجامعة، بعد الفرقة المشتتة، وكان الفضل في ذلك لله عز وجل ثم للسيد الكبير صاحب المشروع الإصلاحي العظيم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ويُعد عام الجماعة من علامة نبوة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وفضيلة باهرة من فضائل الحسن.

ويكفي معاوية رضي الله عنه فخرًا أن كل الصحابة الأحياء في عهده بايعوه، فقد أجمعت الأمة على معاوية وبايعه علماء الصحابة والتابعين وعدوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام في تلك المرحلة.

رُوي عن الأوزاعي أنه قال: «أدركت خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم سعد، وأسامة، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، ورجال أكثر مما سميت بأضعاف مضاعفة.

كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأويله، ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن محيريز في أشباه له، لم ينزعوا يده عن مجامعة في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم» (1).

(1) البداية والنهاية (11/ 434، 435).

ص: 96

وقال ابن حزم: «فبويع الحسن ثم سلّم الأمر إلى معاوية، وفي بقايا الصحابة مَن هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل، وكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية، ورأى إمامته» (1).

فالصحابة لم يبايعوا معاوية رضي الله عنه إلا وقد رأوا فيه شروط الإمامة متوفرة، ومنها العدالة، فمن يطعن في عدالة معاوية وإمامته فقد طعن في عدالة هؤلاء الصحابة جميعهم وخونّهم وتنقَّصَهم.

فمن رضيه هؤلاء لدينهم ودنياهم ألا نقبله ونرضى به نحن؟!! ومن قال: «لعلهم بايعوا خوفًا» فقد اتهمهم بالجبن وعدم الصدع بالحق، وهم القوم المعلوم من سيرتهم الشجاعة والشهامة وعدم الخوف في الله لومة لائم.

انتهاء عهد الخلافة الراشدة:

انتهى عهد الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بتنازل الحسن بن علي لمعاوية رضي الله عنه، فعن حُذَيْفَةُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ» ، ثُمَّ سَكَتَ (2).

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ يُؤْتِى اللهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ - أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ -» . (رواه أبو داود وصححه الألباني).

(1) الفصل في الملل والنحل (5/ 6).

(2)

رواه الإمام أحمد وصححه الألباني. (ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا) أي يعضّ بعضُ أهلِه بعضًا كعَضِّ الكلاب (فَيَكُونُ) أي الملك أي الأمر على هذا المنوال (فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا) أي تلك الحالة (إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ) أي الحكومة (مُلْكًا جَبْرِيَّةً) أي جبروتية (ثُمَّ سَكَتَ) أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلام. (باختصار من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعلي القاري ح 5378).

ص: 97

وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وبذلك تكون مرحلة خلافة النبوة قد انتهت بتنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية في شهر ربيع الأول من سنة 41 هـ.

وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أوَّلُ هَذَا الْأمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً» (رواه أحمد والطيالسي والبزار، وصححه العراقي والألباني)(1).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «

فكانت نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوة ورحمة، وكانت خلافة الخلفاء الراشدين خلافة نبوة ورحمة، وكانت إمارة معاوية ملكًا ورحمة، وبعده وقع ملك عضوض» (2).

ويجوز تسمية مَن بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكًا، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل قول النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم:«كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِىٌّ خَلَفَهُ نَبِىٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِىَّ بَعْدِى، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ» .

قَالُوا: «فَمَا تَأْمُرُنَا؟» .قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» (رواه البخاري ومسلم). (3)

(1) انظر السلسلة الصحيحة (رقم 3270).

(2)

جامع المسائل (5/ 154).

(3)

قال الحافظ ابن حجر: «قَوْله: (تَسُوسهُمْ الْأَنْبِيَاء) أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ظَهَرَ فِيهِمْ فَسَاد بَعَثَ اللهُ لَهُمْ نَبِيًّا لَهُمْ يُقِيم أَمْرهمْ وَيُزِيل مَا غَيَّرُوا مِنْ أَحْكَام التَّوْرَاة، وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَا بُدّ لِلرَّعِيَّةِ مِنْ قَائِم بِأُمُورِهَا يَحْمِلهَا عَلَى الطَّرِيق الْحَسَنَة وَيُنْصِف الْمَظْلُوم مِنْ الظَّالِم» .قَوْله: (وَإِنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي) أَيْ فَيَفْعَل مَا كَانَ أُولَئِكَ يَفْعَلُونَ.

قَوْله: (وَسَيَكُونُ خُلَفَاء) أَيْ بَعْدِي. قَوْله: (فُوا) فِعْل أَمْر بِالْوَفَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا بُويِعَ الْخَلِيفَة بَعْد خَلِيفَة فَبَيْعَة الْأَوَّل صَحِيحَة يَجِب الْوَفَاء بِهَا وَبَيْعَة الثَّانِي بَاطِلَة. (اهـ باختصار من فتح الباري).

ص: 98

ومعاوية رضي الله عنه أفضل ملوك هذه الأمة، والذين كانوا قبله خلفاء نبوة، وأما هو فكانت خلافته مُلكًا، وكان مُلكه مُلكًا ورحمة وكان في مُلكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيرًا من مُلك غيره.

ومعاوية رضي الله عنه كان عالمًا ورعًا عدلًا دون الخلفاء الراشدين في العلم والورع والعدل، كما ترى من التفاوت بين الأولياء، بل الملائكة والأنبياء، وإمارته كانت صحيحة بإجماع الصحابة وتسليم الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما.

سؤال:

من المسَلّم به عند كل من اطلع على مذهب الشيعة أنهم يكفّرون معاوية لقتاله عليًّا رضي الله عنهما ولكن الثابت أن الحسن بن علي رضي الله عنهما ـ وهو من الأئمة المعصومين عندهم ـ قد صالح معاوية رضي الله عنه وبايعه على الخلافة.

فهل صالح الحسن (المعصوم) رجلًا كافرًا وسلّم له بالخلافة؟!

أم أصلح بين فئتين مسلمتين كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» ؟! (رواه البخاري ومسلم).

ص: 99