الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة السابعة
قالوا: إن أهل السنة سموه كاتب الوحي ولم يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كلمة واحدة من الوحي، بل كان يكتب له رسائل. وقد كان بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة عشر نفسًا يكتبون الوحي، أولهم وأخصهم وأقربهم إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، مع أن معاوية لم يزل مشركًا بالله تعالى في مدة كَوْن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبعوثًا، يُكذِّب بالوحي ويهزأ بالشرع.
الجواب:
* أما قول الشيعة: «وسمّوه كاتب الوحي ولم يكتب كلمة واحدة من الوحي» .
فهذا قول بلا حجة ولا علم، فما الدليل على أنه لم يكتب له كلمة واحدة من الوحي، وإنما كان يكتب له رسائل؟
وقولهم: «إن كتاب الوحي كانوا بضعة عشر أخصّهم وأقربهم إليه عليّ» .
فلا ريب أن عليًّا رضي الله عنه كان ممن يكتب له أيضًا، كما كتب الصلح بينه وبين المشركين عام الحديبية، ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضًا، ويكتب له زيد بن ثابت بلا ريب.
وكتب له أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وأبيّ بن كعب، وثابت بن قيس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وزيد بن ثابت، ومعاوية، وشُرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم.
* أما قولهم: «إن معاوية لم يزل مشركًا مدة كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبعوثًا» .
فيقال: لا ريب أن معاوية وأباه وأخاه وغيرهم أسلموا عام فتح مكة، قبل موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحو ثلاث سنين، فكيف يكون مشركًا مدة البعث، ومعاوية رضي الله عنه كان حين بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم صغيرًا، ومعاوية رضي الله عنه أسلم مع مسلمة الفتح، مثل أخيه يزيد، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان بن حرب، وهؤلاء كانوا قبل إسلامهم أعظم كفرًا ومحاربة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من معاوية رضي الله عنه.
فصفوان وعكرمة وأبو سفيان كانوا مقدَّمين للكفار يوم أحد، رؤوس الأحزاب في غزوة الخندق، ومع هذا كان أبو سفيان وصفوان بن أمية وعكرمة من أحسن الناس إسلامًا، وقُتِلوا رضي الله عنهم يوم اليرموك.
ومعاوية لم يُعرف عنه قبل الإسلام أذًى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بيد ولا بلسان فإذا كان مَن هو أعظم معاداة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن معاوية قد حَسُن إسلامه، وصار ممن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فما المانع أن يكون معاوية رضي الله عنه كذلك؟
وكان معاوية رضي الله عنه من أحسن الناس سيرة في ولايته، وهو ممن حسن إسلامه، ولولا محاربته لعليّ رضي الله عنه وتولِّيه الملك، لم يذكره أحد إلا بخير، كما لم يذكر أمثاله إلا بخير. وهؤلاء مسلمة الفتح ـ معاوية ونحوه ـ قد شهدوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة غزوات، كغزاة حُنين والطائف وتبوك، فله من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ما لأمثاله، فكيف يكون هؤلاء كفارًا وقد صاروا مؤمنين مجاهدين تمام سنة ثمان وتسع وعشر وبعض سنة إحدى عشرة؟
فإن مكة فُتحت باتفاق الناس في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم باتفاق الناس توفي في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة، والناس كلهم كانوا كفارًا قبل إيمانهم بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان فيهم من هو أشد عداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من معاوية وأسلم وحسن إسلامه، كأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان من أشد الناس بُغضًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهجاء له قبل الإسلام.
وأما معاوية رضي الله عنه فكان أبوه شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك أمه حتى أسلمت، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمْ اللهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُعِزَّهُمْ اللهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ» .
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه» . (رواه البخاري ومسلم).
(خِبَاء) خَيْمَة مِنْ وَبَر أَوْ صُوف، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْبَيْت كَيْف مَا كَانَ.
قَوْله: (قَالَ وَأَيْضًا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) قَالَ اِبْن التِّين: «فِيهِ تَصْدِيق لَهَا فِيمَا ذَكَرَتْهُ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنَا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْك مِثْل ذَلِكَ» (1).
قال ابن كثير: «فالمِدحة في قوله: «وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه» ؛ وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يَوَدُّ أن هندًا وأهلَها وكلَّ كافر يَذلّوا في حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحبُّ أن يَعِزّوا، فأعزّهم الله، يعني أهلَ خبائها» (2).
والحديث يدلُّ على تخصيص هند وأهل خبائها بالذات، ثم مما يؤكدُ إعزازَ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لها بعد الإسلام؛ أنه استَغفرَ لها لما جاءته مبايعةً مع النساء، فنَزل قولُ الله تعالى:{فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ} ، وجاء وصفُ المبايعات في الآيات بأنهن من (المؤمنات). (الممتحنة:12) ويَدخلُ معاويةُ في فضل الحديث السابق، فهو من أهل خباء هند.
وفيهم أنزل الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)} (الممتحنة:7)، فإن الله جعل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الذين عادوه ـ كأبي سفيان وهند وغيرهما ـ مودة، والله قدير على تبديل العداوة بالمودة، وهو غفور لهم بتوبتهم من الشرك، رحيم بالمؤمنين، وقد صاروا مؤمنين.
(1) باختصار من فتح الباري.
(2)
البداية والنهاية (8/ 131).