الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الثامنة والعشرون
قَتْلُه حِجْر بنَ عدي وأصحابه
الجواب:
1 -
إن حِجْر بن عدى مختلف في صحبته، والأكثرون على أنه تابعى، قال الحافظ ابن حجر:«وأما البخاري، وابن أبي حاتم، عن أبيه، وخليفة بن خياط، وابن حبان فذكروه في التابعين، وكذا ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة» (1).
وعلى فرض التسليم له بالصحبة فالواجب علينا عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة، بل الترحم عليهم، والتصديق بعدالتهم.
2 -
تحدثت معظم المصادر التاريخية عن مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه بين مختصر في هذا الأمر ومطول كل بحسب ميله، وكان للروايات الشيعية النصيب الأوفر في تضخيم هذا الحدث ووضع الروايات في ذلك؛ وكأنه ليس في أحداث التاريخ الإسلامي حدث غير قصة مقتل حجر بن عدي.
3 -
ذكر ابن العربي أن الأصل في قتل الإمام، أنه قَتْلٌ بالحق فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل، ولكن حِجْرًا فيما يقال: «رأى من زياد أمورًا منكرة، حيث أن زياد بن أبيه كان في خلافة علي واليًا من ولاته، وكان حجر بن عدي من أولياء زياد وأنصاره، ولم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعًا بعاطفة التحزب والتشيع، وكان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد.
فقام حجر وحصب زياد وهو يخطب على المنبر، حيث أن زياد قد أطال في الخطبة فقام حجر ونادى: «الصلاة! فمضى زياد في خطبته فحصبه حجر وحصبه آخرون معه وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على
(1) االإصابة (1/ 313).
أميره في بيت الله، وعدّ ذلك من الفساد في الأرض، فلمعاوية العذر، وقد كلمته عائشة في أمره حين حج، فقال لها:«دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند الله» (1).
وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله عز وجل.
4 -
وأما قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه، فإنه لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة من علي رضي الله عنه كما تزعم بعض الروايات الشيعية (2)، بل استخار الله سبحانه وتعالى فيهم، واستشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم.
والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل بإسناد حسن عن ابن عياش قال: حدثني شرحبيل بن مسلم قال: «لما بُعِث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت.
فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ألا إنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية، ألا وأنت أعلمنا بدائهم، وأقدرنا على دوائهم، وإنما علينا أن نقول:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285).
فقال معاوية: «أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم، ورمى بها ما بين عيني معاوية» .
ثم قام المنادي فنادى: «أين أبو مسلم الخولاني» ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا
(1) العواصم من القواصم (ص 219 - 220).
(2)
انظر: تاريخ الطبري (5/ 256 - 257، 275).
فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، سيوفنا على عواتقنا، إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك وإن سبقناك نظرناك»، ثم جلس.
ثم قام المنادي فقال: «أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي» ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:«وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفُ فقد أحسنت» .
فقام المنادي فنادى: «أين عبد الله بن أسد القسري» ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أمير المؤمنين، رعيتك وولايتك وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا على أنفسهم العقوبة، وإن تعفوا فإن العفو أقرب للتقوى، يا أمير المؤمنين لا تطع فينا من كان غشومًا ظلومًا بالليل نؤومًا، عن عمل الآخرة سؤومًا.
يا أمير المؤمنين إن الدنيا قد انخشعت أوتارها، ومالت بها عمادها وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها»، ثم جلس.
فقلت ـ القائل هو: اسماعيل بن عياش ـ لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: قتل بعضًا واستحيى بعضًا، وكان فيمن قتل حجر بن عدي بن الأدبر» (1).
5 -
مما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية رضي الله عنه لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لو أن حجرًا اقتصر في معارضته على الأقوال فقط ولم ينتقل إلى الأفعال.
وقد ذكر ابن سعد ما يدل على أن معاوية أمر بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لما شهد عنده الشهود بأنه ألب على عامله بالعراق، وحصبه وهو على المنبر، وخلع البيعة لمعاوية نفسه، وهو آنذاك أمير المؤمنين (2).
ولعل معاوية رضي الله عنه قد اعتمد في قضائه هذا بقتل حجر بن عدي، على قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» (رواه مسلم).
(1) انظر الرواية في مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (2/ 328 ـ 331).
(2)
الطبقات (6/ 151).
وفي رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» (رواه مسلم).
الْهَنَات: جَمْع هَنَة، وَتُطْلَق عَلَى كُلّ شَيْء، وَالْمُرَاد بِهَا هُنَا الْفِتَن وَالْأُمُور الْحَادِثَة.
قال الإمام النووى رحمه الله في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم: «فِيهِ الْأَمْر بِقِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَى الْإِمَام، أَوْ أَرَادَ تَفْرِيق كَلِمَة الْمُسْلِمِينَ وَنَحْو ذَلِكَ، وَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ قُوتِلَ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِع شَرّه إِلَّا بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ كَانَ هَدَرًا» .
6 -
وفي القصة التي ذكرها ابن سعد ما يدل على أن الشيعة قد ألّبوه على معاوية وعامله، وأن زيادًا والى العراق قد راجعه في ذلك قبل أن يبعث بالشهود إلى معاوية رضي الله عنه فلما علم معاوية من حاله، وشهد عنده الشهود بذلك، أمر بقتله عملًا بنص هذا الحديث، خصوصًا وأن البيعة كانت قد استقرت له، والتأليب عليه مما يضر بالدولة الإسلامية آنذاك.
وقد أمرنا النبي بالسمع والطاعة ولو لعبد حبشي يقيم كتاب الله، فكيف بمن كان من صحابته الذين آزروه ونصروه، وبمن دعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهداية؟!!
إن حجرًا رضي الله عنه زيَّن له شيعة الكوفة هذه المعارضة، فأوردوه حياض الموت بخذلانهم إياه.
ولا ننسى موقف شيعة الكوفة مع الحسين رضي الله عنه، حين زينوا له الخروج ثم خذلوه كما خذلوا حجرًا من قبله.
7 -
إن قيل: قتل حجر بن عدي واختلفنا: فقائل يقول قتله ظلمًا، وقائل يقول قتله حقًا.
فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله: قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل.
8 -
إن الذين يرون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك من يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعًا بعاطفة الحزبية والتشيع.
والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه.
ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية كانت في غنى عنها لو أن هيبة الدولة حفظت بتأديب عدد قليل من أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب.
ولو سلمنا أن معاوية أخطأ في قتل حجر؛ فقد سبق هذا الخطأ في القتل أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
وقصة أسامة بن زيد رضي الله عنه مع الرجل الذي نطق بالشهادتين، وقتْل أسامة له بعد نطقها، في الصحيحين البخاري ومسلم.
وكل ما جرى من أسامة ناتج عن اجتهاد لا عن هوى وعصبية وظلم.
9 -
الغريب أن الشيعة يصيحون من أجل قتل حجر بن عدي ولا يعترضون على عليٍّ رضي الله عنه عندما قاتل الخارجين على خلافته في الجمل وصفين، والتي تسببت في مقتل خيار الصحابة إضافة إلى الآلاف من المسلمين، مع أنّ السبب واحد وهو الخروج على سلطة الخليفة!!!
10 -
بالغت الروايات في ذكر موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي، حيث ذهبت بعض الروايات إلى زعم بتهديد عائشة لمعاوية بالقتل حين زارها عام
51هـ، وكذلك التهديد بمحاربة معاوية، وهذه الروايات لم يصح منها شيء في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وأما حقيقة موقفها فعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبت أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان، قال: ويحك أدخلني على عائشة فإنها قد غضبت علَيَّ، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال:«أمّتاه فيما وجَدْتِ عليَّ (1) يرحمكِ الله؟» .
قالت: «
…
وجدت عليك في شأن حِجْر وأصحابه أنك قتلتهم».
فقال لها: «
…
وأما حِجْر وأصحابه فإني تخوفت أمرًا، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، تستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل ما يشاء».
قالت: «تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله» .
وجاء في رواية أخرى: «لما قدم معاوية دخل على عائشة، فقالت: «أقتلت حجرًا؟» .
قال: «يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجلٍ في صلاح الناس، خيرًا من استحيائه في فسادهم» (2).
(1) وَجَدَ عليه: غَضِبَ، (القاموس المحيط، مادة وجد).
(2)
تاريخ دمشق (4/ 273، 274) نقلا عن مرويات معاوية (ص440).