الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد اشتهرت أسرة (الجاسر) بالغني والشجاعة، ولذلك كان منهم رجال من كبار عقيل الذين كانوا يتاجرون بالإبل يأخذونها من نجد وبخاصة من القصيم ويبيعونها في الشام وفلسطين ومصر.
وقد عرفت من وجهاء عقيل من الجاسر عبد الله الجاسر وأخاه محمد الجاسر الملقب (القطقط) ولابد من ذكر الألقاب في ذكر رجالات الأسر الكبيرة التي تتشابه الأسماء فيها ولا تمكن معرفة الأشخاص باليقين بذكر الأسماء الأولى المجردة لكونها تتكرر فيهم.
الشيخ ابن جاسر:
منهم الشيخ العلامة إبراهيم بن حمد بن إبراهيم آل جاسر من أشهر علماء القصيم بالورع والكرم والعطف على الفقراء، تولى القضاء في بريدة وعنيزة وحصل بعض الخلاف في مسائل قليلة بينه وبين مشايخه آل سليم فانقسم طلبة العلم بين مؤيد له ومعارض، ثم أظهر بيانًا يتنصل فيه من كل ما نسب إليه ويعلن اتفاقه مع مشايخه في مسائل العقيدة كلها.
ولد الشيخ ابن جاسر في بريدة عام 1241 هـ.
وكما تولى القضاء في عنيزة وبريدة جلس للتدريس في عنيزة وبريدة وصار له بهما تلاميذ كثير.
تولى الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر قضاء عنيزة من سنة 1318 إلى 1323 هـ (1).
من مشاهير أصحاب ابن جاسر عبد الله بن عمرو وعلي المطلق، وابن صقيه الأعمى، وصالح الدخيل وعبد الرحمن الجلاجل وسابق الفوزان ببريدة
(1) علماء نجد في ستة قرون، ص 105.
والد فوزان السابق، ومن جماعة أهل بريدة الرشودي.
وأكثر العامة وبخاصة من عقيل لأنه يقال لهم إنَّ المشايخ يكفرون الذين يسافرون إلى بلاد المشركين مع أن المشايخ لا يكفرون أولئك، وإنما يقولون إن السفر إلى بلاد المشركين لا يجوز.
ومع آل سليم فوزان بن عبد العزيز الفوزان السابق من أهل الشماسية، وآل مبارك وأوائل المديفر والتويجري كلهم إلَّا أهل الصباخ وإبراهيم بن محسن فإنهم مع ابن جاسر وكذلك آل سيف مع ابن جاسر واتباعه ما عدا ناصر بن سليمان السيف فهو مع الجميع، ومن أكثر من كانوا معه تأييدًا له وقراءة عليه إلرشود الصالح أهل الصباخ فكانوا يجلونه ويعظمونه ويقرون عليه ويقربون تلامذته.
وقيل إنه لما اتسع الخلاف بين الشيخ ابن جاسر ومن معه وبين آل سليم واتباعهم أرسل حسن المهنا إلى الشيخ ابن جاسر وقال له:
من أين ها الخلاف وأنت من تلاميذ آل سليم؟
فقال له: أنا من تلاميذهم لكن تبين لي شيء غير الذي تعلمته قبل ذلك.
ثم قال: أنا مستعد أني أناظر الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم يريد أن يجري معه مناظرة ويكون الحكم فيها أحد المشايخ ممن يرضى به الطرفان، فذكروا عدة أشخاص من المشايخ ثم اتفقوا جميعا على الشيخ إبراهيم ابن عجلان من زملاء آل سليم ومن تلاميذ الشيخ عبد الله أبابطين، والشيخ سليمان المقبل، إلا أنه أخذ شيئًا من العلم عن جماعة من أهل العراق فأصبح - في عرف الجميع - ليس منحازًا لأحد الطرفين على علو سنه في ذلك الوقت.
قالوا: فحصلت المناظرة بينهما على هذا الأساس بحضور عدد من كبار أهل بريدة منهم محمد بن صالح أبا الخيل أخو مهنا الصالح أبا الخيل وعم الأمير حسن المهنا، وأقر الشيخ ابن جاسر أن فهمه لبعض المسائل ينبغي أن
يكون مثل فهم آل سليم فحكم عليه الشيخ ابن عجلان.
هكذا حدثني عدد من طلبة العلم تلاميذ آل سليم، ولم أسمعه من أي مصدر من جهة جماعة الشيخ ابن جاسر وأنصارهم.
وقد كتب الشيخ إبراهيم بن جاسر بعد ذلك ورقة يوضح فيها ذلك سماها طلبة العلم الذين أخذنا عنهم من اتباع آل سليم (توبة ابن جاسر).
وقد اختلفت الأقوال في سببها فقيل: إنه لم يكتبها بعد تلك المناظرة مباشرة، وإنما كتبها بعد ذلك عندما كثر النزاع بين الصغار والجهال من أتباعهما وطلب بعض العقلاء من الشيخ ابن جاسر أن يفعل شيئًا لحسم هذا الأمر فأصدر هذه الورقة التي سماها بعض طلبة العلم المخالفين له ولمن معه بتوبة ابن جاسر كما تقدم ولم أر فيها أي ذكر للفظ التوبة التي تقتضي الاعتراف بالذنب.
وقد رأيتها بل كتبت نسخة منها بخطي فقد كنت صديقًا وتلميذًا للشيخ فهد بن عبيد العبد المحسن في عام 1364 فذكر لي أنّ (توبة) الشيخ ابن جاسر موجودة عند الشيخ محمد بن صالح بن سليم، وأن فهدًا يريد نسخة منه غير أنه لا يستطيع أن يطلبها منه، ويرجوني أن أستعيرها من الشيخ محمد بن سليم، واكتب له منها نسخة، ولم أكن آنذاك أهتم بتوثيق هذه الأمور فأخذتها بالفعل من الشيخ محمد الصالح السليم وكتبت منها نسخة أعطيتها فهد العبيد، ولم أبال أن أخذ منها نسخة لنفسي وهي مؤرخة في عام 1303 هـ.
وبعد أن احتجت إلى نسخة منها طلبتها من الشيخ محمد بن سليم، وكانت مضت على أخذها منه نحو ثلاثين سنة، فلم يذكر أنها عنده، ولم يتذكر كيف أخذتها منه وأعدتها إليه.
وحدثني الشيخ سليمان بن علي المقبل أن الشيخ ابن جاسر أراد قبل وفاته أن يعلن رجوعه عما كان منه ومن أتباعه وأن أحد كبار الجماعة قال له:
يا شيخ هنا شيبان تبعوكم لا تضللهم، أي: لا تحكم عليهم بالضلال.
ويقال: إن سبب ذلك أن الشيخ ابن جاسر رأى رؤيا وهي أن جماعة من المشايخ كانوا موجودين فرأى شخصًا يتلو قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا
…
} ويشير إلى المشايخ من آل سليم واتباعهم.
ثم يمضي فيقول {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)} .
فأخذ يسترجعها ويبكي.
ومعلوم إنْ ذلك - إذا صح - هو رؤيا منام ومعلوم أيضًا أن راوي القصة وهو سليمان بن علي المقبل هو من اشد الناس تعلقا بآل سليم مثل والده المحسن الشهير علي بن مقبل الذي كان معروفًا ببعده عن ابن جاسر وأتباعه إن لم نقل بعداوته لهم مع أنه ورع مشهور بعيد عن الإنحياز لهوى نفسه كما نعرفه عنه.
وقد ذكره الشيخ عبد الله بن عمرو في رسالته للأمير محمد بن رشيد بأنه بين أهم المؤيدين لآل سليم.
أما المسائل التي خالف فيها الشيخ إبراهيم ابن جاسر مشايخه آل سليم فإنها فيما يقال كثيرة، ولكن رؤوسها سبع مسائل.
منها موالاة الأتراك حيث يرى الشيخ ابن جاسر أن الدولة التركية دولة إسلامية وينبغي موالاتها وعدم الخروج عليها.
ومنها إباحة السفر إلى بلاد المشركين لمن قدر على إظهار دينه.
وتفرعت عن هذه المسألة مسألة حية وهي مسألة قصر الصلاة في السفر إلى بلاد المشركين وهي بعض الأمصار العربية وتركيا فالمشايخ آل سليم ومن تبعهم يقولون لا يجوز قصر الصلاة فيه لأنه سفر معصية وسفر المعصية لا يجوز قصر الصلاة فيه، أما الشيخ ابن جاسر وأتباعه فإنهم يقولون يجوز
السفر إلى تلك البلاد لأنهم يحكمون بأنها بلاد إسلامية.
ولذلك يفتون بجواز القصر في السفر إليها.
وهذا ما جعل عامة العقيلات والمسافرين هم من أتباع الشيخ ابن جاسر.
وبخاصة أن بعضهم يشربون الدخان وأن الشيخ ابن جاسر وأتباعه لا يشددون النكير على من شرب الدخان وإنما ينصحونهم بتركهـ كما حدثني إبراهيم النصار، قال: كان فلان ممن يذهبون إلى الأمصار وهو يشرب الدخان فوعظه الشيخ إبراهيم بن جاسر وعظًا غير مباشر فترك التدخين امتثالًا لنصيحة الشيخ.
قال ذلك في بيان أثر وعظ الشيخ إبراهيم بن جاسر للعامة، وكونه لإخلاصه، وحسن موعظته يؤثر في الناس تأثيرًا عجيبًا، وكان إبراهيم النصار مثل والده كثير الإعجاب بالشيخ إبراهيم بن جاسر ويردد ذلك في المجالس ويدعو له.
أما المشايخ آل سليم وأتباعهم فإنهم يشددون النكير على من يشرب الدخان ولا يجالسونه، بل وينكرون على من قد يجالسه من طلبة العلم، ويجعلون ذلك سببًا في الحكم عليه بأنه متساهل في دينه.
وهناك مسائل صغيرة عديدة لا تذكر، مثل السلام على أهل الدار عند طرق البيت من الخارج وهذه أدركتها وشهدتها.
وذلك أن أتباع المشايخ آل سليم إذا طرق أحد منهم باب دار أو أراد أن ينادي من فيها بدون طرق الباب، فإنه لا يقول: يا فلان، وإنما يرفع صوته بالسلام فيقول: السلام عليكم.
أما أتباع الشيخ ابن جاسر فإنهم ينكرون عليهم ذلك ويقولون: أنتم تسلمون على الخشب يعني الباب الخشبي، لأنكم لا تعرفون هل في البيت أحد يصح أن يسلم عليه.
وهناك مسألة مهمة ولكن لا يدركها إلا المشايخ المتمكنون من الفريقين وهي أن الشيخ ابن جاسر وأتباعه لا يكفرون المعين لمجرد أنه أتى بالكفر بمعنى أنهم لا يحكمون عليه بأنه كافر مخلد في النار، يقولون: إن ذلك لكونه قد يتوب قبل موته، وإنما نقول: إن فعله كُفْرُ إلا إذا علمنا أنه مات على كفره.
أما المشايخ آل سليم وأتباعهم فإنهم يقولون: إن من عمل الكفر فإنه كفر، ولكن باب التوبة مفتوح أمامه.
والذي ضخم الخلاف وأخرجه للعلن، بل وأبقى عليه ظاهرًا لسنوات طويلة هي السياسة فالمشايخ آل سليم وأتباعهم هم قلبًا وقالبًا مع آل سعود ومع المشايخ آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أما الآخرون فإنهم يميلون إلى آل رشيد وآل رشيد وبخاصة عبد العزيز بن متعب الرشيد يميلون للأتراك، ولذلك أعطته الدولة التركية قوة من الجنود الأتراك النظاميين الذين قاتلوا معه في سنة البكيرية.
وقد بلغ الأمر بذلك أن نمي إلى علم الملك عبد العزيز آل سعود أن الشيخ عبد الله بن عمرو أقوى جماعة الشيخ ابن جاسر قد ذهب إلى العراق عن طريق الكويت، لكي يؤلب الدولة التركية ضد ابن سعود ويطلب منها أن ترسل جيشا لذلك.
ولذلك أرسل إليه الملك عبد العزيز من يقبض عليه عند عودته من الكويت إلى بريدة فقبض عليه بالفعل في الشماسية، ونقل إلى الرياض، حيث قتِل هناك.
وسوف تأتي تتمة لذلك في ترجمة الشيخ ابن عمرو، ومعروف أن الشيخ ابن عمرو هو الرجل الثاني في هذه الجماعة، وقد استمر الخلاف والتمايز عند ما تغلب الملك عبد العزيز آل سعود على آل رشيد فصارت الوظائف الدينية والتصدر للتدريس والقضاء والإفتاء من نصيب آل سليم ومن معهم، دون الفريق الثاني وذلك استمر إلى ما بعد وفاة الشيخ عمر بن محمد بن سليم آخر كبار المشايخ العلماء من آل سليم في آخر عام 1362 هـ.
وكان أتباع الشيخ ابن جاسر يسمون طلبة العلم الذين يتبعون آل سليم بالمغاليث: جمع مغلوث وهو المصاب بداء الكَلْب، يريدون بذلك أنهم يسارعون إلى الكلام في أعراض مخالفيهم ويشددون في الدين.
أما أولئك فإنهم كانوا يسمون أتباع ابن جاسر الضِّدَّ أي: ضد طلبة العلم، وقد أدركت ذلك بحيث كانت كلمة الضَّدِّ تعنيهم، ولا يسمونهم أتباع ابن جاسر إلا من باب التعريف بهم وشرح حالهم.
ومسائل مهمة:
وقيل إن بعض أنصار الشيخ ابن جاسر يقولون: لا يجوز أن يكفر من قال: (لا إله إلا الله) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: ماذا تفعل بلا إله إلا الله؟ .
وظني أنه إذا صح ذلك فإن مرادهم به أنه لا يقتل من قال (لا إله إلا الله) ابتداء أي يترك له المجال حتى ينظر في أمره، فإن فعل أفعالًا تخرجه عن الإسلام عومل بمقتضى ذلك، وإلا ترك وشأنه.
وهناك مسألة ذكرها الشيخ إبراهيم العبيد في تاريخه ولم أجد من ذكرها غيره رغم كون طلبة العلم من تلاميذ آل سليم وأتباعهم كانوا يذكرون المسائل التي خالف فيها أتباع ابن جاسر وهي قوله في الشيخ إبراهيم بن جاسر: إنه يرى جواز الاستغاثة بذوات الأموات وهذه مسألة خطيرة من مسائل العقيدة، لا يمكن أن تهمل لمجرد الإهمال لو كانت حقيقة، قال الشيخ إبراهيم بن عبيد:
ذكر نهاية أمر الشيخ إبراهيم بن جاسر.
كان هذا قد جرى بينه وبين آل سليم مخالفات ومناقشات تستغرق بسطًا طويلا نذكره في غير هذا الموضع الأسباب، لكننا نشير هنا إشارة لطيفة، فإن الشيخ إبراهيم كان في بادئ أمره تلميذًا لآل سليم ثم بعد ذلك طرا له التوسع
في العقيدة ورأى جواز الاستغاثة بذوات الأموات مع مسائل أخرى فشن عليه المخالفون غارتهم وأجلبوا عليه ولسوء الحظ لم توفق المشكلة لحسن حل يرى خطأه ويرجع عن فكرته، وآل أمر هذا الخلاف والشقاق إلى فتن ومحن يمتد لهيبها إلى عنان السماء تارة وتارة تهمد رمادًا، وما زال منذ أيام الأمير حسن بن مهنا حتى غاية هذه السنة وهو مصر على رأيه مظهرًا للخلاف، وله أتباع يؤيدون مذهبه ويشدون أزره.
غير أنه لما تبدأ طال آل سعود حماة الدين ونصرة الشريعة ضعف شأنه وانقشعت غمامة هذا الخلاف، وجمع الله المسلمين على يدي صاحب الجلالة عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل قام الشيخ المذكور يظهر الموافقة وكان قد تولى قضاء عنيزة في آخر ولاية عبد العزيز ابن متعب وتولى قضاء بريدة في أيام محمد أبي الخيل، ولا ريب أن أولئك الأمراء يقدمونه، وينتصرون لمقالاته، أضف إلى ذلك أنه كان متواضعًا وذا عطف على الفقير والمحتاج مع سخاء وكرم يتصدق بما يجد ويواسي وإن كان عن قلة.
إلى أن قال: ثم إنه دعا به ابن سعود إليه وأشار له بأن أهل حائل يريدون قاضيًا، وأنه يجمل به أن يذهب ليسد ذلك الفراغ والزم عليه أن يسير إلى تلك الجهات، فأجمع أمره وسار على مضض يريد بلاد حائل ومنها سار بلد الكويت فتوفاه الله بها (1).
وفي آخر كلام الشيخ إبراهيم العبيد غلط وهو كون الملك عبد العزيز أشار على الشيخ ابن جاسر بأن أهل حائل يريدون قاضيًا، وأنه يجمل به أن يذهب ليسد ذلك الفراغ، وألزم عليه أن يسير إلى تلك الجهات، فأجمع أمره فسار على مضض يريد بلاد حائل ومنها بلد الكويت فتوفاه الله بها.
(1) تذكرة أولي النهى والعرفان، ج 2، ص 125 - 126.
فذلك غير ممكن الوقوع لأن حائل لم تكن سنة وفاة الشيخ إبراهيم بن جاسر التي حدثت عام 1338 قد صارت تحت نفوذ الملك عبد العزيز آل سعود لأنه لم يستول على حائل إلا في عام 1340 هـ كما هو معروف.
وإنما الصحيح أن أهل حائل طلبوا من الشيخ ابن جاسر أن يقدم إليهم يكون قاضيا عليهم، وأن ابن خميس رئيس بلدة الخميسية في العراق كان قد استدعى الشيخ علي بن عرفج وجعله قاضيًا في بلدة الخميسية ولما توفي ابن عرفج كتب إلى الشيخ إبراهيم بن جاسر بأن يقدم إليه في الخميسية ليتولى القضاء فيها، وقد تأخر عليه الشيخ ابن جاسر في القدوم فعين فيها عبد المحسن أبا بطين.
فعندما وصل الشيخ ابن جاسر إلى الخميسية وجد أن أبابطين قد باشر القضاء فيها فعرض عليه أبابطين أن يتنازل عن القضاء ويتولاه الشيخ ابن جاسر، فامتنع ابن جاسر عن ذلك وسافر إلى الكويت حيث مرض وتوفي فيها عام 1338 هـ.
وقد أوضح الشيخ صالح بن سليمان العمري موضوع طلب الشيخ ابن جاسر للقضاء في حائل فذكر أنه طلب للقضاء بحائل وظاهر أن الطلب كان من قبل حكام حائل الذي اعتقد أنه حدث في عام 1328 فاستأذن الشيخ ابن جاسر من الملك عبد العزيز آل سعود بأن يأذن له بتلبية هذا الطلب لأن حائل لبس له عليها سلطان، ولكنه هو ولي الأمر بالنسبة إلى القصيم ويستطيع إذ أراد أن يمنع الشيخ ابن جاسر من السفر إلى حائل والعمل فيها.
أما سفره إلى الخميسية فقد ذكر الشيخ عبد الله البسام أنه عاد منه إلى بريدة ثم ذهب إلى الكويت لعلاج مرض ألم به فتوفي هناك عام 1338 هـ.
ومن الشائعات التي كانت غذتها الخلافات بين الطرفين أتباع آل سليم وأتباع الشيخ ابن جاسر كون الشيخ ابن جاسر قد وضع له سم أي سمه أحدهم بغية قتله، وهذا غير معقول، إذ ما الداعي إلى تسميمه وهو قد بلغ السادسة
والتسعين من العمر، ولم تكن له جهود تؤذي أحدًا.
وإنما سمه إن كان قد سمه أحد - عمره البالغ في ذلك الوقت ستًّا وتسعين سنة حيث توفي بعد ذلك بقليل عن سبع وتسعين سنة.
وقد عاصرت أتباع الطرفين في صباي وكانت الأمور تلك لا تزال غضة، وكان أتباع الشيخ ابن جاسر لهم اجتماعات ومذاكرات فيما بينهم، ولكن لا أحد يضايقهم في قول أو فعل، فلم تكن الحكومة تتابعهم - مثلا - فتسجن أحدًا منهم، أو تعاقبة، ولم يكن المشايخ آل سليم يحكمون على أحد منهم حكمًا واجب التنفيذ يطالهم دون غيرهم.
إلَّا أنه كان معروفًا للناس أن أولئك القوم من طلبة العلم هم من أتباع الشيخ ابن جاسر الذين يخالفون آل سليم أو لا يحبونهم، ولذا لم يكونوا يدرسون في حلقات العلم في المساجد على آل سليم ولذا يصح القول بأنهم انكفأوا على أنفسهم، وصاروا يتذاكرون فيما بينهم.
وقد حصلت على كتب عديدة مفيدة من عدد منهم بعد أن كبرت أسنانهم وعرفوا أن الزمن لا يعمل لصالحهم من أولئك الشيخ (عويد بن عبد العزيز العويد) وكان يعرف بالشيخ في ذلك الزمان على قلة من يحصل على لقب شيخ آنذاك و (علي بن محمد الخراز) الملقب (الظبَّيْ) تصغير ظبي.
والخلاصة أن الوقت الذي بدأت أعقل فيه مثل هذه الأمور عام 1363 أو نحوه لم يكن من لا يعرف حقيقة الأمر، أو لم يحدثه محدث عنها يتصور أنه يوجد خلاف بينهم، لأن كل واحد منهم يتحادث ويتباحث مع الذين يميل إليهم ويرون مثل رايه.
ولكن لا أحد من أتباع الشيخ ابن جاسر يطمع في أن يولى وظيفة من الوظائف التي كانت موجودة آنذاك وهي القضاء في المدن والقرى الكبيرة والإرشاد رسميًا في القرى والهجر.
وكذلك إمامة الصلاة في المساجد، لأن الذي يعين أو يرشح لمثل هذه الوظائف هم المشايخ آل سليم وهم لا يعينون أحدا من أتباع الشيخ ابن جاسر لها.
وحتى الشيخ إبراهيم بن جاسر نفسه فلم يتعرض له الملك عبد العزيز بشيء، وكان محمد العبد الله أبا الخيل أمير بريدة آنذاك قد عينه قاضيًا قبيل تمرده أي أبا الخيل على الملك عبد العزيز، فلما تولى الملك عبد العزيز لم يسيء إلى ابن جاسر، ولم ينقض أحكامه، بل إنه صادق على بعضها كما سيأتي شاهد لذلك في رسم (المهنا) في حرف الميم.
وحتى عندما ولى غيره القضاء وهو الشيخ عبد العزيز بن بشر لم يضيق على الشيخ ابن جاسر، بل بقي على حاله عند الحكومة وعند الناس.
فكان الملك عبد العزيز آل سعود يزوره في بيته في بريدة كما يزور المشايخ إذا كان في بريدة، مع معرفة الناس جميعا أن منزلته عنده ليست بذاك.
ولكن للشيخ ابن جاسر منزلة كبيرة في نفوس الناس وبخاصة من العامة، ومن أناس كثير من الخاصة، ربما كان على رأسهم أو من رؤوسهم إبراهيم بن علي الرشودي أحد كبار جماعة بريدة، ويعتبر من تلاميذ الشيخ ابن جاسر، ومن أهم الذين يتظاهرون بالثناء عليه والدعاء له لا يتخفون في ذلك.
حدثني الوجيه عثمان بن عبد الله الدبيخي قال حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن الشريدة، قال: ذهبت أنا وأخي فهد الشريدة مع الملك عبد العزيز لزيارة الشيخ إبراهيم بن جاسر في بيته، فلما دخل الملك عبد العزيز عليه وكان أي الشيخ ابن جاسر جالسًا في صدر المجلس في غرفة الاستقبال القديمة (القهوة) عنده من يخدمه قام الشيخ ابن جاسر فأجلس الملك عبد العزيز في مجلسه وجلس هو بجانب الذي يصنع القهوة.
وقد تطرق الملك عبد العزيز إلى ذكر الشيخ ابن عمرو رفيق الشيخ ابن
جاسر أو تلميذه فيما نقل عنه من مخالفته لآل سليم، ذكر الملك عبد العزيز بعض أفعال ابن عمرو، وبعض أحواله التي لا يرضى عنها.
قال إبراهيم بن شريدة فتأثر الشيخ ابن جاسر وأخذ الشماغ الذي يلبسه وقبض على طرفيه جاعلهما في رقبته تحت حنكه كمن يريد أن يخنق نفسه وقال للملك عبد العزيز:
يا الإمام، ماذا تقول يوم القيامة إذا أخذ ابن عمرو بك هكذا؟ بماذا تجيب ربك، إن عليك أن تستعد لذلك الجواب.
قال: ولما خرجنا من عند الشيخ ابن جاسر قال له أخي فهد الشريدة: يا طويل العمر: ألا ترى أن ذكر ابن عمرو عند الشيخ ابن جاسر ليس مناسبًا.
قال: وكنا نمشي فوقف الملك عبد العزيز والتفت إلى أخي فهد، وقال: يا ابن شريدة أنا أشهد الله على حب الشيخ إبراهيم بن جاسر، لكن ما يصلح إن أنا أغزل وغيري ينقض!
يريد الملك عبد العزيز بهذه العبارة معناها المجازي الذي معناه أنه يقرر شيئا ولكن الشيخ ابن جاسر وأتباعه ينقضون ذلك الأمر، بمعنى أنهم لا يوافقون عليه، وهذا دليل على أن السياسة قد دخلت في اتجاه الطرفين.
وهو أمر معروف ظاهر لمن تتبع هذا الموضوع.
وعلى ذكر الملك عبد العزيز آل سعود مع ذكر الشيخ ابن جاسر يحسن أن نذكر هنا أن الملك عبد العزيز أقر الشيخ ابن جاسر على قضاء بريدة فترة من الوقت في حكمه أي في حكم الملك عبد العزيز، فكان ينفذ ما يحكم به، بل كان يصادق عليه كما في هذه الوثيقة المؤرخة في 5 محرم من عام 1327 هـ.
وهذا التصديق كان في أسفل وثيقة سوف نصورها كاملة، في رسم (المهنا) في حرف الميم لأنها تتعلق بدين على الأمير حسن المهنا.
وكان الشيخ إبراهيم بن جاسر رفيقًا بالعامة، لينًا في دعوتهم إلى الاستقامة يستعمل أسلوبًا جذابًا في هذا الموضوع، أو قل: إنه يصبر على مخالطتهم ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة.