الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توفّي الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل ابْن
نور الدّين
مَحْمُود بن زنكي بن آقسنقر صَاحب حلب وعمره نَحْو تسع عشرَة سنة وَلما اشْتَدَّ بِهِ مرض القولنج وصف لَهُ الْأَطِبَّاء الْخمر فَمَاتَ وَلم يستعملها وَكَانَ حَلِيمًا عفيف الْيَد والفرج وَاللِّسَان ملازما لأمور الدّين لَا يعرف شَيْئا مِمَّا يتعاطاه الشَّبَاب وَأوصى بِملك حلب إِلَى ابْن عَمه عز الدّين مَسْعُود صَاحب الْموصل فَلَمَّا مَاتَ سَار مَسْعُود وَمُجاهد الدّين قيماز من الْموصل إِلَى حلب وَاسْتقر بملكها ثمَّ كَاتبه أَخُوهُ عماد الدّين زنكي بن مودود صَاحب سنجار فِي أَن يُعْطِيهِ حلب وَيَأْخُذ مِنْهُ سنجار فاشار عَلَيْهِ قيماز بذلك فَلم يُمكن مسعودا إِلَّا مُوَافَقَته فَأجَاب إِلَى ذَلِك فَسَار عماد الدّين إِلَى حلب وتسلمها وَسلم سنجار إِلَى أَخِيه مَسْعُود وَعَاد مَسْعُود إِلَى الْموصل
نور الدّين
قَالَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فِي تَارِيخ دمشق مَحْمُود بن زنكي بن آق سنقر ابْن أبي سعيد قسيم الدولة الذكي الْملك الْعَادِل نور الدّين وناصر أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَ جده آق سنقر قد ولاه السُّلْطَان أَبُو الْفَتْح ملك شاه بن ألب أرسلان حلب وَولي غَيرهَا من بِلَاد الشَّام وَنَشَأ أَبوهُ قسيم الدولة بعده بالعراق وندبه السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد ابْن ملكشاه بن ألب أرسلان بِرَأْي الْخَلِيفَة المسترشد بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ لولاية ديار الْموصل والبلاد الشامية بعد قتل آقسنقر البرسفي وَمَوْت ابْنه مَسْعُود فظهرت كِفَايَته وَظَهَرت شهامته فِي مُقَابلَة الْعَدو وثبوته عِنْد ظُهُور متملك الرّوم ونزوله على شيزر حَتَّى رَجَعَ إِلَى بِلَاده خائبا وحاصر أَبوهُ قسيم الدولة دمشق مرَّتَيْنِ فَلم يَتَيَسَّر لَهُ فتحهَا وَفتح الرها والمعرة وَكفر طَابَ وَغَيرهَا من الْحُصُون الشامية واستنقذها من أَيدي الْكفَّار
فَلَمَّا انْقَضى اجله قَامَ ابْنه نور الدّين مقَامه فِي ولَايَة الْإِسْلَام ومولده على مَا ذكر لي كَاتبه أَبُو الْيُسْر شَاكر بن عبد الله التنوخي المعري وَقت طُلُوع الشَّمْس من يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر شَوَّال سنة إِحْدَى عشرَة وَخَمْسمِائة وَلما راهق لزم خدمَة وَالِده إِلَى أَن انْتَهَت مدَّته لَيْلَة الْأَحَد السَّادِس من شهر ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة على قلعة جعر وَكَانَ محاصرا لَهَا وَنقل تابوته إِلَى مشْهد الرقة فَدفن بهَا وسير صبحة الْأَحَد الْملك ألب أرسلان ابْن السُّلْطَان مَحْمُود بن مُحَمَّد إِلَى الْموصل مَعَ
جمَاعَة من أكَابِر دولة أَبِيه وَقَالَ لَهُم أَن وصل أخي سيف الدّين غَازِي إِلَى الْموصل فَهِيَ لَهُ وَأَنْتُم فِي خدمته وان تأخرنا أقرر أُمُور الشَّام وأتوجه إِلَيْكُم ثمَّ قصد حلب وَدخل قلعتها المحروسة على أسعد طَائِر وأيمن بركَة يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع ربيع الآخر
ورتب فِي القلعة وَالْمَدينَة النواب وأنعم على الْأُمَرَاء وخلع عَلَيْهِم وَكَانَ بعض الْأُمَرَاء قد عمل على أَخذ الرها وَحصل فِي الْبَلَد فَوجه إِلَيْهِ أُمَرَاء دولته حَتَّى استنقذها مِنْهُ وَخرج هَارِبا مِنْهَا وَلما استتب لَهُ الْأَمر ظهر مِنْهُ بذل الِاجْتِهَاد فِي الْقيام بِأَمْر الْجِهَاد والقمع لأهل الْكفْر والعناد وَالْقِيَام بمصالح الْعباد وَخرج غازيا فِي أَعمال ناشر فَافْتتحَ حصونا كَثِيرَة وافتتح قلعة عليم وقلعة عزاز وتل ناشر ودلوك ومرعش وقلعة عينتاب ونهر الْجَوْز وَغير ذَلِك وحصن البارة وقلعة الدلوندان وقلعة تل خَالِد وحصن كفرلانا وحصن سرنوب بجبل بني فامية وغزا حصن أنب فقصده الابرقس متملك أبطاله وَكَانَ من أبطال الْعَدو وشياطينهم فَرَحل عَنْهَا ولقيهم دونهَا فَكَسرهُ وَقَتله وَثَلَاثَة آلَاف إفرنجي مَعَه وَبَقِي ابْنه صَغِيرا مَعَ أمه بإنطاكية وَتَزَوَّجت بابرنس آخر فَخرج نور الدّين فِي بعض غَزَوَاته فَأسر الابرنس الثَّانِي وتملك إنطاكية وَوَقع فِي أسره ابْن الابرنس الأول فِي نوبَة حارم وَبَاعه نَفسه بِمَال عَظِيم أنفقهُ فِي الْجِهَاد
وَأظْهر بحلب السّنة حَتَّى أَقَامَ شَعَائِر الدّين وَغير الْبِدْعَة الَّتِي كَانَت لَهُم فِي الْأَذَان وقمع بهَا الرافضة المبتدعة وَنشر بهَا مَذَاهِب أهل السّنة الْأَرْبَعَة وَأسْقط عَنْهُم جَمِيع الْمُؤَن ومنعهم من النشوب فِي الْفِتَن وَبنى بهَا الْمدَارِس ووقف الْأَوْقَاف وَأظْهر بهَا الْعدْل والإنصاف وَقد كَانَ صَالح الْمعِين الَّذِي كَانَ بدمشقوصاهره وَاجْتمعت كلمتهما على الْعَدو وَلما وازره وحاصر دمشق مرَّتَيْنِ فَلم يَتَيَسَّر لَهُ فتحهَا ثمَّ قَصدهَا الثَّالِثَة فتم لَهُ صلحها وَسلم إِلَيْهِ أَهلهَا الْبَلَد لغلاء الأسعار وَالْخَوْف من استعلاء كلمة الْكفَّار فضبط أمورها وَحسن سورها وَبنى بهَا الْمدَارِس والمساجد وأفاض على أَهلهَا الْفَوَائِد وَأصْلح طرقها ووسع أسواقها وأدر الله على رَعيته ببركته أرزاقها وَبَطل مِنْهَا الْإِنْزَال وَدفع عَن أَهلهَا الأثقال وَمنع مَا كَانَ يَوْمئِذٍ مِنْهُم من المغارم كدار الْبِطِّيخ وسوق البقل وَضَمان النَّهر والكيالة وسوق الْغنم وَغير
ذَلِك من الْمَظَالِم وَأمر بترك مَا كَانَ يُؤْخَذ على الْخمر من المكس وَنهى عَن شربهَا وعاقب عَلَيْهِ بِإِقَامَة الْحَد وَالْحَبْس واستنقذ من الْعَدو ثغر بانياس وَغَيره من المعاقل المنيعة كالمنيطرة وَغَيرهَا بعد الاياس
وَبَلغنِي أَنه فِي الْحَرْب رابط الجأش ثَابت الْقدَم شَدِيد الانكماش حسن الرَّمْي بِالسِّهَامِ صَلِيب الضَّرْب عِنْد ضيق الْمقَام يقدم أَصْحَابه عِنْد الكرة ويحمي منهزمهم عِنْد الفرة ويتعرض بِجهْدِهِ للشَّهَادَة لما يَرْجُو بهَا من كَمَال السَّعَادَة وَلَقَد حكى عَنهُ من خدمه مُدَّة ووازرة على فعل الْخيرَات انه سَمعه يسْأَل الله تَعَالَى أَن يحشره من بطُون السبَاع وحواصل الطير
وَلَقَد أحسن إِلَى الْعلمَاء وَأكْرمهمْ وَقرب المتدينين واحترمهم وتوخى الْعدْل فِي الْأَحْكَام والقضايا وألان كتفه واظهر رأفته بالرعية وَبنى فِي أَكثر مَمْلَكَته دور الْعدْل وأحضر لَهَا الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء للفصل وحضرها بِنَفسِهِ فِي أَكثر الْأَوْقَات واستمع من المتظلمين الدَّعَاوَى والبينات طلبا للإنصاف والفصل وحرصا على إِقَامَة الْعدْل
وأدر على الضُّعَفَاء والأيتام الصَّدقَات وتعهد ذَوي الْحَاجة من أولي التعفف بالصلات حَتَّى وقف وقوفا على المرضى والمجانين وَأقَام لَهُم الْأَطِبَّاء والمعالجين وَكَذَلِكَ على جمَاعَة العميان ومعلمي الْخط وَالْقُرْآن وعَلى سَاكِني الْحَرَمَيْنِ ومجاوري المسجدين
وَأكْرم أَمِير الْمَدِينَة الْحُسَيْن وَأحسن إِلَيْهِ وأجرى عَلَيْهِ الضِّيَافَة لما قدم عَلَيْهِ وجهز مَعَه عسكرا لحفظ الْمَدِينَة وَقَامَ لَهُم بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من المؤونة واقطع أَمِير مَكَّة إقطاعا سنيا وَأعْطى كلا مِنْهُمَا مَا يَأْكُلهُ هنيا مريا وَرفع عَن الْحجَّاج مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم من المكس وأقطع أُمَرَاء الْعَرَب الإقطاعات لِئَلَّا يتَعَرَّضُوا للحجاج بالنخس وَأمر بإكمال سور الْمَدِينَة واستخراج الْعين الَّتِي بِأحد وَكَانَت قد دفنتها السُّيُول ودعي لَهُ بالحرمين واشتهر صيته فِي الْخَافِقين وَعمر الرَّبْط والخانقاهات والبيمارستانات وَبنى الجسور فِي الطّرق والخانات
وَنصب جمَاعَة من المعلمين لتعليم يتامى الْمُسلمين وأجرى الأرزاق على معلميهم بِقدر مَا يكفيهم وَكَذَلِكَ صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماة وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر فَمَا من بلد إِلَّا وَله فِيهِ حسن أثر وَمَا من أَهلهَا أحد إِلَّا نظر لَهُ أحسن نظر
وَحصل الْكثير من كتب الْعُلُوم ووقفها على طلابها وَأقَام عَلَيْهَا الْحفظَة من أَهلهَا وأربابها وجدد كثيرا من قني السَّبِيل وَهدى بِجهْدِهِ إِلَى سَوَاء السَّبِيل
وأجهد نَفسه فِي جِهَاد أَعدَاء الله وَبَالغ فِي حربهم وَتحصل فِي أسره جمَاعَة من أُمَرَاء الإفرنج كجوسلين وَابْنه وَابْن القنس وقومس اطرابلس وَجَمَاعَة من حزبهم وَكَانَ متملك الرّوم قد خرج من قسطنطينية وَتوجه إِلَى الشَّام طامعا فِي تسلم إنطاكية فَشَغلهُ عَن مرامه الَّذِي رامه بالمراسلة إِلَى أَن وصل أَخُوهُ قطب الدّين فِي جنده من المواصلة وَجمع لَهُ الجيوش والعساكر وَأنْفق فيهم الْأَمْوَال والذخائر فأيس الرُّومِي من بُلُوغ مَا كَانَ يَرْجُو وَتمنى مِنْهُ الْمُصَالحَة عساه ينجو فاستقر رُجُوعه إِلَى بِلَاده ذَاهِبًا فَرجع من حَيْثُ جَاءَ خائبا وَلم يقتل بِالشَّام مَعَ كَثْرَة عسكره مَقْتَله وَلم يرع فِيهَا من زرع خَادِم أَو أَمِير سنبله وَحمل إِلَى بَيت مَال الْمُسلمين من التحف مَا حمل وَلم يبلغ وضل مَا عمل وغزا مَعَه أَخُوهُ قطب الدّين فِي عَسْكَر الْموصل وَغَيرهم من الْمُجَاهدين فَكسر الإفرنج وَالروم والأرمن على حارم وأذاقهم كؤوس الْمنية بالأسنة والصوارم فأبادهم حَتَّى لم يفلت مِنْهُم غير الشَّديد الذاهل وَكَانَت عدتهمْ ثَلَاثِينَ ألفا بَين فَارس وراجل ثمَّ نزل على قلعة حارم فافتتحها ثَانِيَة وحواها وَأخذ أَكثر قرى إنطاكية وسبى أَهلهَا وَكَانَ قبل ذَلِك قد كسرهم بِقرب بانياس وَقتل جمَاعَة من أبطالهم وَأسر كثيرا من فرسانهم
وَقد كَانَ شاور السَّعْدِيّ أَمِير جيوش مصر فوصل إِلَى جَانِبه مستجيرا لما عاين الذعر فَأحْسن جواره واكرمه وَأظْهر بره واحترمه وَبعث مَعَه جَيْشًا كثيفا ليَرُدهُ إِلَى دَرَجَته فَقتلُوا خَصمه وَلم يَقع مِنْهُ الْوَفَاء بِمَا قرر من جِهَته فاستجاش جَيش الْعَدو طلبا للبقاء فِي السمو ثمَّ وَجه إِلَيْهِ بعد ذَلِك جَيْشًا آخر فأصر على الْمُسَابقَة لَهُ واستنجد بالعدو فانجدوه وَضمن لَهُم الْأَمْوَال الخطيرة حَتَّى عاضدوه وانكفا جَيش الْمُسلمين إِلَى الشَّام رَاجعا وَحدث متملك الإفرنج نَفسه بِملك مصر طامعا فَتوجه إِلَيْهَا بعد عَاميْنِ رَاغِبًا فِي انتهاز الفرصة فاخذ بلبيس وخيم من مصر بالعرصة فَلَمَّا بلغه ذَلِك تدخل جهده فِي تَوْجِيه الْجَيْش إِلَيْهَا وَخَافَ من تسلط عَدو الدّين عَلَيْهَا فَلَمَّا سمع الْعَدو بتوجه جَيْشه رجعُوا خائبين واصبح أَصْحَابه بِمصْر لمن عاندهم غَالِبين وأمل أهل أَعمالهَا بِحُصُول جَيْشه عِنْدهم وَزَالَ عَنْهُم مَا كَانُوا قد خَشوا واطلع من شاور على المخامرة وَأَنه قد راسل الْعَدو طَمَعا مِنْهُ فِي المظافرة وَأرْسل
إِلَيْهِم ليردهم ليدفع جَيش الْمُسلمين بجيشهم فَلَمَّا خيف من شَره ومكره لما عرف من غدره وختره واتضح الْأَمر فِي ذَلِك واستبان تمارض الْأسد ليقتنص الثعلبان فَجْأَة قَاصِدا لعيادته جَارِيا فِي خدمته على عَادَته فَوَثَبَ جرديك وبرحش موليا نور الدّين فقتلا شاورا وأراحا الْبِلَاد والعباد من شَره وَأما شاور فانه أول من تولى الْقَبْض عَلَيْهِ وَمد يَده الْكَرِيمَة إِلَيْهِ بالمكروه وصفي الْأَمر لأسد الدّين وَملك وخلعت عَلَيْهِ الْخلْع وَحل وَاسْتولى أَصْحَابه على الْبِلَاد وَجَرت أُمُوره على السداد وَظَهَرت مِنْهُ حميد السِّيرَة وَحسن الْآثَار وَسَيعْلَمُ الْكَافِر لمن عُقبى الدَّار
وَظَهَرت كلمة أهل السّنة بالديار المصرية وخطب فِيهَا للدولة العباسية بعد الْيَأْس وأراح الله من بهَا من الْفِتْنَة وَرفع عَنْهُم المحنة وَمَعَ مَا ذكرت من هَذِه المناقب كلهَا وشرحت من دقها وجلها فانه كَانَ رحمه الله حسن الْخط والبنان متأتيا لمعْرِفَة الْعُلُوم بالفهم وَالْبَيَان كثير المطالعة مائلا إِلَى نقل الْكتب مواظبا وحريصا على تَحْصِيل كتب الصِّحَاح وَالسّنَن مُشْتَريا لَهَا بأوفر الاعواض وَالثمن كثير المطالعة للعلوم الدِّينِيَّة مُتبعا للآثار النَّبَوِيَّة مواظبا على الصَّلَوَات فِي الْجَمَاعَات مراعيا لأدائها فِي الْأَوْقَات مُؤديا لفروضها ومسنوناتها مُعظما لَهَا فِي جَمِيع حالاتها عاكفا على تِلَاوَة الْقُرْآن على الْأَيَّام حَرِيصًا على فعل الْخَيْر من الصَّدَقَة وَالصِّيَام كثير الدُّعَاء وَالتَّسْبِيح رَاغِبًا فِي صَلَاة التَّرَاوِيح عفيف الْبَطن والفرج مقتصدا فِي الْإِنْفَاق والخرج متحريا فِي المطاعم والمشارب والملابس متبرئا من التباهي والتمادي والتنافس عريا عَن التكبر والتجبر بَرِيئًا من التطير مَعَ مَا جمع الله لَهُ من الْعقل المتين والرأي الصَّوَاب الرصين والإقتداء بسيرة السّلف الماضين والتشبه بالعلماء وَالصَّالِحِينَ والاقتفاء لسيرة من سلف مِنْهُم فِي خير سمتهم والأتباع لَهُم فِي حفظ حَالهم ووقتهم حَتَّى روى حَدِيث الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم واسمعه وَكَانَ قد استجيز لَهُ مِمَّن سَمعه وَجمعه حرصا مِنْهُ على الْخَيْر فِي نشر السّنة والتحديث ورجاء أَن يكون مِمَّن حفظ على الْأمة أَرْبَعِينَ حَدِيثا لما جَاءَ فِي الحَدِيث
فَمن رَآهُ شَاهد من جلال السلطنة وهيبة الْملك مَا يبهره فَإِذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه مَا يحيره وَقد حكى عَنهُ من صَحبه فِي سَفَره وحضره أَنه لم يسمع مِنْهُ كلمة فحش فِي رِضَاهُ وَلَا فِي ضجره وَأَن أشهى مَا يكون إِلَيْهِ كلمة حق يسْمعهَا أَو إرشاد إِلَى سنة يتبعهَا يحب الصَّالِحين ويؤاخيهم ويزور مساكنهم لحسن ظَنّه
فيهم فَإِذا احْتَلَمَ مماليكه أعتقهم وَزوج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم وَمَتى تَكَرَّرت الشكاية إِلَيْهِ من أحد ولاته أَمر بالكف من أَذَى من تكلم بشكاية فَمن لم يرجع مِنْهُم إِلَى الْعدْل قابله بِإِسْقَاط الْمرتبَة والعزل وَقد جمع الله لَهُ من شرِيف الْخِصَال مَا ييسر لَهُ جَمِيع مَا يَقْصِدهُ من الْأَعْمَال وَسَهل على يَدَيْهِ فتح الْحُصُون والقلاع وَمكن لَهُ فِي الْبلدَانِ وَالْبِقَاع حَتَّى ملك حصن شيزر وقلعة دوسر وهما من أحصن المعاقل والحصون واحتوى على مَا فيهمَا من الذخر المصون من غير سفك محجمة من دم عَلَيْهِمَا وَلَا قتل أحد من الْمُسلمين بسببهما وَأكْثر مَا أَخذه من الْبلدَانِ تسلمه من أَهله بالأمان ووفى لَهُم بالعهود والأيمان فأوصلهم إِلَى مأمنهم من الْمَكَان وَإِذا اسْتشْهد أحد من أجناده حفظه فِي أَهله وَأَوْلَاده وأجرى عَلَيْهِم الجرايات وَولى من كَانَ أَهلا مِنْهُم للولايات وَكلما فتح الله عَلَيْهِ فتحا وزاده ولَايَة أسقط عَن رَعيته قسطا وَزَادَهُمْ رِعَايَة حَتَّى ارْتَفَعت عَنْهُم الظلامات والمكوس واتضعت فِي جَمِيع ممالكه الغرامات والنحوس وَدرت على رعاياه الأرزاق ونفقت عِنْدهم الْأَسْوَاق وَحصل بَينهم بِيَمِينِهِ الِاتِّفَاق وَزَالَ ببركته العناء والشقاق فان فتكت شرذمة من الملاعين فَأَنَّهَا لما علمت مِنْهُ من الرأفة واللين وَلَو خلط لَهُم شدته بلينه لخاف سطوته الْأسد فِي عرينه فَالله يحقن بِهِ الدِّمَاء ويسكن بِهِ الدهماء
ثمَّ قَالَ ابْن عَسَاكِر بعد أَن دَعَا الله لَهُ ومناقبه خطيرة وممادحه كَثِيرَة ذكرت مِنْهَا غيضا من فيض وقليلا من كثير وَقد مدحه جمَاعَة من الشُّعَرَاء فاكثروا وان لم يبلغُوا وصف آلائه بل قصروا وَهُوَ قَلِيل الابتهاج بالشعر زِيَادَة فِي تواضعه لعلو الْقدر
انْتهى مَا قَالَه الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر بِحَذْف بعض جمل يسيرَة وَقد حكى فِي خطْبَة تَارِيخه انه جمع مِنْهُ أَولا شَيْئا كثيرا ثمَّ تَركه فَأقبل النَّاس يشوقونه على الْإِتْمَام إِلَى أَن وصل خَبره إِلَى نور الدّين فيحنئذ اهتم بإكماله
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَارِيخه ولي الشَّام سِنِين وجاهد الثغور وانتزع من الصليبيين نيفا وَخمسين مَدِينَة وحصنا وَبنى بيمارستانا بِالشَّام وَعَاهد صَاحب طرابلس بعد أَن قبض عَلَيْهِ على أَن يُطلقهُ بِشَرْط أَن يدْفع ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار وَخَمْسمِائة حصان وَخَمْسمِائة زردية وَمثلهَا أتراس وَمثلهَا قنطاريات وَخَمْسمِائة أَسِير مُسلم
وَبِأَن لَا يُغير على بِلَاد الْمُسلمين سبع سِنِين وَسَبْعَة اشهر وَأخذ بَنَاته رهنا على الْوَفَاء مَعَ بعض أَوْلَاد الإفرنج وبطارقتهم وان نكث أراق دِمَاءَهُمْ وعزم على فتح بَيت الْمُقَدّس فَتوفي
وَقَالَ الفيلسوف عبد اللَّطِيف الْبَغْدَادِيّ كَانَ نور الدّين يَأْكُل من عمل يَده ينسج تَارَة وَيعْمل عُلَبًا تَارَة ثَانِيَة ويلبس الصُّوف ويلازم السجادة والمصحف وَكَانَ حنفيا ويراعي مذهبي الشَّافِعِي وَمَالك
وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ نور الدّين كثير اللّعب بالكرة فَكتب إِلَيْهِ رجل يَدعِي الصّلاح يُنكر عَلَيْهِ وَيَقُول تتعب الْخَيل فِي غير فَائِدَة فَكتب إِلَيْهِ بِخَطِّهِ وَالله مَا أقصد اللّعب وَإِنَّمَا نَحن فِي تَعب فَرُبمَا وَقع الصَّوْت فَتكون الْخَيل قد أمنت اهـ
قلت وَلم يخل وَقت من اعْتِرَاض بعض من يَدعِي الصّلاح على مَا لَا يعرفونه وَلَا يعنيهم بل يعترضون على الذّرة ويبتلعون الْجَبَل وَمِمَّا يسطر فِي تَارِيخ نور الدّين مَعَ الْفَخر مَا ذكره ابْن الْأَثِير انه كَانَ يَوْمًا يلْعَب فِي ميدان دمشق فَجَاءَهُ رجل وَطَلَبه إِلَى الشَّرْع فجَاء مَعَه إِلَى مجْلِس الشَّرِيعَة وَكَانَ بِهِ القَاضِي مجد الدّين الشهرزوري فَأرْسل إِلَيْهِ السُّلْطَان حَاجِبه يَقُول للْقَاضِي لَا تنزعج واسلك مَعَه مَا تسلكه مَعَ آحَاد النَّاس فَلَمَّا حضر سوى بَينه وَبَين خَصمه فتحاكما فَلم يثبت للرجل عَلَيْهِ حق وَكَانَ يَدعِي ملكا فِي يَد نور الدّين فَلَمَّا فرغت المحاكمة قَالَ هَل ثَبت لَهُ حق قَالُوا لَا قَالَ فَاشْهَدُوا عَليّ أَنِّي قد وهبت لَهُ مَا ادّعى بِهِ وَإِنَّمَا حضرت مَعَه لِئَلَّا يُقَال عني أَنِّي دعيت إِلَى الشَّرْع فأبيت وَدخل بَيته يَوْمًا فَرَأى مَالا كثيرا فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا لَهُ بعث بِهِ القَاضِي كَمَال الدّين من فائض الْأَوْقَاف فَقَالَ ردُّوهُ وَقُولُوا لَهُ أَن رقبتي رقيقَة لَا أقدر على حمله غَدا وَأَنت رقبتك غَلِيظَة تقدر على حمله وَلما قدم أمراؤه دمشق اقتنوا الْأَمْوَال واستطالوا على النَّاس وَكَانَ أعظمهم استطالة شيركوه فَبنى السُّلْطَان دَار الْعدْل وَكَانَ يحضرها فِي الْأُسْبُوع أَربع مَرَّات ويحضر مَعَه الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء وَيَأْمُر بِإِزَالَة الْحجاب والبوابين فانتصف أمراؤه من أنفسهم خوفًا من دَار الْعدْل وَالسُّلْطَان وَلما وَقع ملك الإفرنج فِي أسره أطلقهُ على ثَلَاثمِائَة ألف وَبنى بهَا البيمارستان الْمَشْهُور فِي دمشق وَجعله على كَافَّة النَّاس من غَنِي وفقير وَبنى بهَا أَيْضا الْمدرسَة النورية وَدَار الحَدِيث الْمَار ذكرهَا
قَالَ ابْن وَاصل كَانَ السُّلْطَان من أقوى النَّاس بدنا وَقَلْبًا وانه لم ير على ظهر فرس أَشد مِنْهُ كَأَنَّمَا خلق عَلَيْهِ فَلَا يَتَحَرَّك وَكَانَ إِذا حضر الْقِتَال أَخذ قوسين وتركاشين وباشر الْقِتَال بِنَفسِهِ وَكَانَ يَقُول طالما تعرضت للشَّهَادَة فَلم أدْركهَا قَالَ الذَّهَبِيّ قلت وَقد أدْركهَا على فرَاشه وَبَقِي ذَلِك فِي أَفْوَاه النَّاس تراهم يَقُولُونَ نور الدّين الشَّهِيد وَمَا شَهَادَته إِلَّا بالخوانيق
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ كَانَ السُّلْطَان يخيط الكوافي وَيعْمل السكاكر ويعطيها للعجائز فتبيعها لَهُ سرا وَكَانَ يَوْم يَصُوم يفْطر على أثمانها
قَالَ ابْن كثير وَكَانَ يجلس يَوْم الثُّلَاثَاء بِالْمَسْجِدِ الْمُعَلق الَّذِي بالكشك ليصل إِلَيْهِ كل أحد من الْمُسلمين وَأهل الذِّمَّة وَقد عمد إِلَى الْأَوْقَاف الَّتِي لَا يعرف واقفها وَلَا تعرف شروطهم فِيهَا فأضافها إِلَى أوقاف الْجَامِع وَجعلهَا قَلما وَاحِدًا سَمَّاهُ قلم الْمصَالح ورتب مِنْهُ مُرَتبا لِذَوي الْحَاجَات من الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والأرامل والأيتام وَمَا أشبه ذَلِك
قَالَ الصّلاح الكتبي فِي تَارِيخه كَانَ نور الدّين يحلف بِاللَّه أَن جَمِيع مَا بناه من الْمدَارِس والأوقاف والربط وَغَيره إِنَّمَا هُوَ من مَال المفاداة يَوْم قارم وَلَيْسَ فِيهَا من بَيت المَال الدِّرْهَم الْفَرد
هَذَا مَا قصدناه من تَرْجَمَة نور الدّين وَمن أَرَادَ الزِّيَادَة فَعَلَيهِ بالبرق الشَّامي وَغَيره من مؤلفات الْعِمَاد الْكَاتِب وبالروضتين لأبي شامة والدر الثمين وَالْكَوَاكِب الدرية للأسدي ويجدر بِي الْآن أَن أذكر حِكَايَة قد تداولتها السن النَّاس فزادوا بهَا وَأَكْثرُوا وغيروا وبدلوا وَكَثِيرًا مَا كنت أسمعها من وَالِدي مُغيرَة مبدلة وأدأب فِي التنقيب عَنْهَا حَتَّى ظَفرت بهَا فِي كتاب تحفة الْأَنَام للبصروي فنقلتها كَمَا رَأَيْتهَا والعهدة على الرَّاوِي
قَالَ أَن السُّلْطَان نور الدّين رأى لَيْلَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامه يَقُول لَهُ يَا مَحْمُود أَلِي من هذَيْن وَأَشَارَ إِلَى اثْنَيْنِ فِي زِيّ الْعَجم فَاسْتَيْقَظَ من مَنَامه فَزعًا مَرْعُوبًا ثمَّ تَكَرَّرت الرُّؤْيَا ثَلَاثًا فتحركت همته للسَّفر فأحضر الهجن وركبها مَعَ فرقة قَليلَة من الْعَسْكَر وَسَار مسرعا حَتَّى وافى الْمَدِينَة واظهر أَنه يُرِيد الزِّيَارَة فزار الْمَسْجِد وَجلسَ لَا يدْرِي مَاذَا يصنع فَقَالَ لَهُ وزيره أتعرف الشخصين إِذا