الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقسم الثَّالِث فِي مدارس الشَّافِعِيَّة
هَذَا الْقسم لِكَثْرَة مدارسه اقْتضى الْحَال تَقْدِيمه وَيحسن بِنَا أَن نذْكر هُنَا مُقَدّمَة تَتَضَمَّن كَيْفيَّة تشعب الْمذَاهب وَمَا كَانَ دَاعيا إِلَى انحصارها فِي هَذِه الْأَرْبَعَة فِي دِيَارنَا وَمَا والاها فَنَقُول
يعلم كل أحد أَن نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بَعثه الله تَعَالَى على فَتْرَة من الرُّسُل رَسُولا إِلَى النَّاس جَمِيعًا وَرَحْمَة للْعَالمين وَكَانَ النَّاس حِينَئِذٍ أهل شرك وَعبادَة لغير الله تَعَالَى إِلَّا بقايا من أهل الْكتاب وَنذر يسير من الْعَرَب المقرين بوحدانيته تَعَالَى فَقَامَ بِالْأَمر مَعَ شدَّة شكيمة المعارضين وصدع بِهِ معرضًا عَن الْجَاهِلين واتاهم بِكِتَاب اخرس الفصحاء واعجز البلغاء مَعَ انهم كَانُوا يفوقون رمل عالج عددا فَاخْتَارُوا الْمُضَاربَة بالصفاح والطعن بِالسِّنَانِ على المغالبة بِالْحجَّةِ والبرهان وَكتابه يناديهم {وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا فَأتوا بِسُورَة من مثله وَادعوا شهداءكم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين} الْآيَة 2 / 23 فَلم يَك فِي وسعهم إِجَابَة النداء بل اخْتَارُوا المقاومة والمشاتمة والملاكمة والصدام إِلَى أَن كَانَ من أمره صلى الله عليه وسلم مَعَ قُرَيْش مَا كَانَ مِمَّا هُوَ موضح فِي كتب السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَهَاجَر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة فأشرقت أشعة هَذَا الدّين الْمُبين وطلعت شمسه فعمت الْآفَاق وَلم تكن الدعاية إِلَى الدّين إِلَّا بِالْحجَّةِ والبرهان وَلَيْسَت الحروب إِلَّا للمدافعة عَن الرّوح كَمَا يُعلمهُ من سبر أسرار الشَّرِيعَة المحمدية وَمن يقل أَن الدعْوَة الإسلامية كَانَت بِالسَّيْفِ والقهر وَالْغَلَبَة وَلَا سُلْطَان للبرهان عَلَيْهَا فقد كذب وافترى وَقيل لَهُ آيَة قُوَّة كَانَت لمُحَمد صلى الله عليه وسلم من المَال والأعوان حينما كَانَ بِمَكَّة أَمَام جَمِيع الْعَرَب المقاومين لَهُ وهم أهل الشجَاعَة والفصاحة والبلاغة وَلَو كَانَ لَهُ مَا ذكر لما خرج من مَكَّة حَيْثُ أخرجه أَهلهَا مِنْهَا فَمَا غلبهم بِغَيْر هَذَا الْقُرْآن وَكله حجج دامغة لأولي الشّرك والطغيان وَلما خلص نور الْبُرْهَان إِلَى أَفْئِدَة قوم رفقهم الله من أهل الْمَدِينَة وَمن حولهَا هَاجر النَّبِي صلى الله عليه وسلم اليها وَمَعَهُ قومه مِمَّن خالط الايمان بشاشة قُلُوبهم وَاسْتقر بهَا بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَكَانَ الصَّحَابَة رضي الله عنهم يَجْتَمعُونَ اليه ويحتاطون بِهِ إحاطة الهالة
بالبدر النير فِي كل وَقت مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ من ضنك الْمَعيشَة وَقلة الْقُوت وَلذَلِك كَانَ مِنْهُم من يحترف فِي الْأَسْوَاق وَمِنْهُم من كَانَ يقوم على نخله ويحضر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي كل وَقت وَمِنْهُم طَائِفَة كَانُوا يحْضرُون عِنْدَمَا يَجدونَ أدنى فرَاغ مِمَّا هم بسبيله من طلب الْقُوت فَإِذا سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن مَسْأَلَة أَو حكم بِحكم أَو أَمر بِشَيْء أَو فعل شَيْئا وعاده من حضر عِنْده من الصَّحَابَة وَفَاتَ من غَابَ عَنهُ علم ذَلِك كَمَا هُوَ مَعْرُوف فِي كتب الحَدِيث وَكَانَ يُفْتِي فِي زمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعبد الله ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب ومعاذ بن جبل وعمار بن يَاسر وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان وَزيد بن ثَابت وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأَبُو مُوسَى ألاشعري وسلمان الْفَارِسِي رضي الله عنهم
فَلَمَّا انْتَقَلت الرّوح الطاهرة النَّبَوِيَّة إِلَى أَعلَى عليين واستخلف أَبُو بكر الصّديق رضي الله عنه تَفَرَّقت الصَّحَابَة فِي الأقطار فَمنهمْ من خرج لقِتَال مُسَيْلمَة وَأهل الرِّدَّة وَمِنْهُم من خرج لقِتَال أهل الشَّام وَمِنْهُم من خرج لقِتَال أهل الْعرَاق
وَبَقِي من الصَّحَابَة فِي الْمَدِينَة مَعَ أبي بكر رضي الله عنه جمَاعَة فَكَانَت الْقَضِيَّة إِذا نزلت بِأبي بكر قضى فِيهَا بِمَا عِنْده من الْعلم بِكِتَاب الله أَو سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فان لم يكن عِنْده فِيهَا علم من كتاب الله أَو سنة رَسُوله سَأَلَ من بِحَضْرَتِهِ من الصَّحَابَة عَن ذَلِك فان وجد عِنْدهم علما بذلك رَجَعَ إِلَيْهِ وَإِلَّا اجْتهد فِي الحكم
وَلما توفّي أَبُو بكر رضي الله عنه وَولي الْأَمر من بعده عمر بن الْخطاب وَفتحت الْأَمْصَار وَزَاد تفرق الصَّحَابَة فِيمَا افتتحوه من الأقطار كَانَت الْمَسْأَلَة الْوَاقِعَة من الشَّرْع تنزل الْمَدِينَة أَو غَيرهَا من الْبِلَاد فان كَانَ عِنْد الصَّحَابَة الْحَاضِرين بهَا فِي ذَلِك اثر عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حكم بِهِ وَإِلَّا اجْتهد أَمِير تِلْكَ الْبَلدة فِي ذَلِك وَقد يكون فِي تِلْكَ الْقَضِيَّة حكم عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم عِنْد صَحَابِيّ آخر وَقد حضر الْمدنِي مَا لم يحضرهُ الْمصْرِيّ وَهُوَ حَضَره مَا لم يحضرهُ الشَّامي والشامي حَضَره مَا لم يحضرهُ الْبَصْرِيّ وَحضر الْبَصْرِيّ مَا لم يحضرهُ الْكُوفِي وَحضر الْكُوفِي مَا لم يحضرهُ الْمدنِي كل هَذَا مَوْجُود فِي كتب الْآثَار وَفِي دواوين السَّادة الأخيار من الْمُحدثين وَفِيمَا علم من مغيب بعض الصَّحَابَة عَن مجْلِس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي بعض الْأَوْقَات وَحُضُور غَيره ثمَّ مغيب الَّذِي حضر أمس وَحُضُور الَّذِي غَابَ فيدري كل وَاحِد مِنْهُم مَا حضر ويفوته مَا غَابَ عَنهُ فَمضى الصَّحَابَة رضي الله عنهم على مَا ذكرنَا
ثمَّ خلف بعدهمْ التابعون الآخذون عَنْهُم وكل طبقَة من التَّابِعين فِي الْبِلَاد الَّتِي تقدم ذكرهَا إِنَّمَا تفقهوا مَعَ من كَانَ عِنْدهم من الصَّحَابَة فَكَانُوا لَا يتعدون فتواهم إِلَّا يَسِيرا عَن غير من كَانَ فِي بِلَادهمْ من الصَّحَابَة كاتباع أهل الْمَدِينَة فِي الْأَكْثَر فَتَاوَى عبد الله بن عمر وَأَتْبَاع أهل الْكُوفَة فِي الْأَكْثَر فَتَاوَى عبد الله بن مَسْعُود وَأَتْبَاع أهل مَكَّة فِي الْأَكْثَر فَتَاوَى عبد الله بن غياث وَأَتْبَاع أهل مصر فِي الْأَكْثَر فَتَاوَى عبد الله ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ
ثمَّ أَتَى من بعد التَّابِعين فُقَهَاء الْأَمْصَار كَأبي حنيفَة وسُفْيَان وَابْن أبي ليلى بِالْكُوفَةِ وَابْن جريج بِمَكَّة وَمَالك وَابْن الْمَاجشون بِالْمَدِينَةِ وَعُثْمَان البتي وسوار بِالْبَصْرَةِ والاوزاعي بِالشَّام وَاللَّيْث بن سعد بِمصْر فجروا على تِلْكَ الطَّرِيق من اخذ كل وَاحِد مِنْهُم عَن التَّابِعين من أهل بَلْدَة فِيمَا كَانَ عِنْدهم واجتهادهم فِيمَا لم يَجدوا عِنْدهم وَهُوَ مَوْجُود عِنْد غَيرهم وَأول من اقْرَأ الْقُرْآن بِمصْر أَبُو قبيل وَهُوَ يروي عَن عبيد بن مخمر المغافري المكنى بِأبي أُميَّة رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم شهد فتح مصر ثمَّ إِن أهل مصر كَانُوا يتحدثون فِي الْفِتَن وَالتَّرْغِيب فَكَانَ أول من نشر علم الْحَلَال وَالْحرَام فيهم يزِيد بن أبي حبيب وَحكى أَبُو عَمْرو الْكِنْدِيّ أَن أَبَا ميسرَة عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة مولى الملامس الْحَضْرَمِيّ كَانَ فَقِيها وَكَانَ أول من اقْرَأ النَّاس بِمصْر بِحرف نَافِع قبل الْخمسين وَمِائَة وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة وان أَبَا سعيد عُثْمَان بن عَتيق مولى غافق أول من رَحل من أهل مصر إِلَى الْعرَاق فِي طلب الحَدِيث توفّي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة انْتهى
وَكَانَ حَال أهل الْإِسْلَام من أهل مصر وَغَيرهَا من الْأَمْصَار فِي أَحْكَام الشَّرِيعَة على مَا تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ
ثمَّ كثر الترحال إِلَى الْآفَاق وتداخل النَّاس والتقوا وانتدب أَقوام لجمع الحَدِيث النَّبَوِيّ وتقييده فَكَانَ أول من دون الْعلم مُحَمَّد بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَأول من صنف وَبَوَّبَ سعيد بن عرُوبَة وَالربيع بن صبيح بِالْبَصْرَةِ وَمعمر بن رَاشد بِالْيمن وَابْن
جريج بِمَكَّة ثمَّ سُفْيَان الثَّوْريّ بِالْكُوفَةِ وَحَمَّاد بن سَلمَة بِالْبَصْرَةِ والوليد بن مُسلم بِالشَّام وَجَرِير بن عبد الحميد بِالريِّ وَعبد الله بن الْمُبَارك بمرو وخراسان وهيثم ابْن بشير بواسط وَتفرد بِالْكُوفَةِ أَبُو بكر بن أبي شيبَة بتكثير الْأَبْوَاب وجودة التصنيف وَحسن التآليف فوصلت أَحَادِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الْبِلَاد الْبَعِيدَة إِلَى من لم تكن عِنْده وَقَامَت الْحجَّة على من بلغه شَيْء مِنْهَا وجمعت الْأَحَادِيث المبينة لصِحَّة أحد التأويلات المتأولة من الْأَحَادِيث وَعرف الصَّحِيح من السقيم وزيف الِاجْتِهَاد المودي إِلَى خلاف النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَترك الْعَمَل بِهِ وَسقط الْعذر عَمَّن خَالف من السّنَن بِبُلُوغِهِ إِلَيْهِ وَقيام الْحجَّة عَلَيْهِ وعَلى هَذَا الطَّرِيق كَانَ الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَكثير من التَّابِعين يرحلون فِي طلب الحَدِيث الْوَاحِد الْأَيَّام الْكَثِيرَة كَمَا هُوَ مَعْلُوم من كتب الحَدِيث
فَلَمَّا قَامَ هَارُون الرشيد بالخلافة وَولى أَبَا يُوسُف بن يَعْقُوب صَاحب أبي حنيفَة الْقَضَاء بعد سنة سبعين وَمِائَة لم يُقَلّد بِبِلَاد الْعرَاق وخراسان وَالشَّام ومصر إِلَّا من أَشَارَ بِهِ أَبُو يُوسُف واعتنى بِهِ
وَكَذَلِكَ لما قَامَ بالأندلس الحكم المرتضى بن هِشَام بعد أَبِيه وتلقب بالمنتصر فِي سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة اخْتصَّ بِيَحْيَى بن يحيى بن كثير الأندلسي وَكَانَ قد حج وَسمع الْمُوَطَّأ من مَالك إِلَّا أبوابا وَحمل عَن وهب وَابْن الْقَاسِم وَغَيرهمَا علما كثيرا وَعَاد إِلَى الأندلس فنال من الرِّئَاسَة وَالْحُرْمَة مَا لم ينله غَيره وعادت الْفتيا إِلَيْهِ وَعظم أمره ثمَّ هُوَ لم يُقَلّد فِي سَائِر أَعمال الأندلس قَاضِيا إِلَّا بإشارته واعتنائه فصاروا على رَأْي مَالك بعد مَا كَانُوا على رَأْي الاوزاعي وَكَانَ زِيَاد بن عبد الرَّحْمَن الملقب ببسطور قد ادخل مَذْهَب مَالك إِلَى الأندلس قبل يحيى وَكَانَ الْغَالِب فِي إفريقية مَذْهَب السّنَن إِلَى أَن ادخل عبد الرَّحْمَن بن فروج أَبُو مُحَمَّد الْفَارِسِي إِلَيْهَا مَذْهَب أبي حنيفَة فَلَمَّا يزَالُوا عَلَيْهِ إِلَى أَن ولي سَحْنُون بن سعيد الْقَضَاء فنشر إِذْ ذَاك مَذْهَب مَالك وَصَارَ الْقَضَاء فِي أَصْحَاب سَحْنُون دولا وَلم يزل الْحَال على ذَلِك إِلَى زمن بني الهاشم فتوارثوا الْقَضَاء ثمَّ إِن المضر بن باديس حمل جَمِيع أهل إفريقية على التَّمَسُّك بِمذهب مَالك وَترك مَا عداهُ من الْمذَاهب فَرجع أهل إفريقية كلهم وَأهل الأندلس كلهم إِلَى مَذْهَب مَالك فَفَشَا هُنَاكَ فشوا طبق تِلْكَ الأقطار كَمَا فشى مَذْهَب أبي حنيفَة بِبِلَاد الْمشرق وَلما كَانَت أَيَّام الْخَلِيفَة الْقَادِر بِاللَّه أبي الْعَبَّاس احْمَد وَتمكن الشَّيْخ أَبُو حَامِد الاسفرائيني
من دولته قرر مَعَه اسْتِخْلَاف أبي الْعَبَّاس احْمَد بن مُحَمَّد الْبَارِزِيّ الشَّافِعِي عوضا عَن قَاضِي بَغْدَاد أبي مُحَمَّد ألاكفاني وَكتب أَبُو حَامِد إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين وَأهل خُرَاسَان أَن الْخَلِيفَة نقل الْقَضَاء عَن الْحَنَفِيَّة إِلَى الشَّافِعِيَّة وَكَانَ الْقَادِر بِاللَّه قد سير إِلَى مَحْمُود خلعة السلطنة سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة بعد أَن انْقَطَعت الدولة السامانية فحصلت بذلك فتْنَة بخراسان بَين الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة صَار أمرهَا إِلَى رُجُوع الْقَضَاء إِلَى الْحَنَفِيَّة وَانْقِطَاع أبي حَامِد عَن دَار الْخلَافَة وَظُهُور التسخط عَلَيْهِ والانحراف عَنهُ وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة
وَلما قدم عبد الرَّحِيم بن خَالِد مولى جمح على مصر نشر بهَا مَذْهَب مَالك وَتُوفِّي بالإسكندرية سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة ثمَّ نشره بهَا أَيْضا عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم فاشتهر حِينَئِذٍ اكثر من مَذْهَب أبي حنيفَة إِلَى أَن قدم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي إِلَى مصر مَعَ عبد الله بن الْعَبَّاس بن مُوسَى فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة فَتَبِعَهُ جمَاعَة من أعيانها كبني عبد الحكم وَالربيع والمزني والبويطي وَكَتَبُوا عَن الشَّافِعِي مَا أَلفه وتبعوا مذْهبه فقوي حِينَئِذٍ واشتهر وَصَارَ الْقَضَاء فِي مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَن قدم الْقَائِد جَوْهَر من بِلَاد إفريقية فِي سنة ثَمَان وَخمسين وثلاثمائة وَبنى مَدِينَة الْقَاهِرَة وَكَانَ شِيعِيًّا فَفَشَا مَذْهَب التَّشَيُّع بِمصْر وَعمل بِهِ فِي الْقَضَاء والفتيا وَأنكر على من خَالفه وَلم يبْق بِمصْر مَذْهَب سواهُ حَتَّى قَامَ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين ابْن أَيُّوب فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَشرع فِي تَغْيِير دولة الإسماعيلية وإزالتها وانشأ بِمصْر مدرسة للفقهاء الشَّافِعِيَّة وَصرف قُضَاة مصر الشيعية كلهم وفوض الْقَضَاء لصدر الدّين عبد الْملك بن درباس الماراني الشَّافِعِي فَلم يستنب عَنهُ فِي إقليم مصر إِلَّا من كَانَ شافعيا فتظاهر النَّاس من يَوْمئِذٍ بِمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ واختفى مَذْهَب الشِّيعَة والإسماعيلية والأمامية حَتَّى فقد من ارْض مصر كلهَا
وَكَذَلِكَ كَانَ السُّلْطَان نور الدّين مَحْمُود بن عماد الدّين زنكي حنفيا فِيهِ تعصب فنشر مَذْهَب ابي حنيفَة بِبِلَاد الشَّام وَمِنْه كثرت الْحَنَفِيَّة بِمصْر وَمَا زَالَ مَذْهَبهم ينتشر ويقوى وفقهاؤهم تكْثر بِمصْر وَالشَّام من يَوْمئِذٍ وَحمل السُّلْطَان صَلَاح الدّين النَّاس أَيْضا على عقيدة الشَّيْخ أبي الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل ألاشعري وَشرط ذَلِك فِي أوقافه الَّتِي بديار مصر كالمدرسة الناصرية والقمحية وخانقاه سعيد السُّعَدَاء فِي
الْقَاهِرَة فاستمر الْحَال عَلَيْهَا بِمصْر وَالشَّام وَارْضَ الْحجاز واليمن وَالْمغْرب أَيْضا لإدخال مُحَمَّد بن تومرت رَأْي ألاشعري إِلَيْهَا وَلم يكن فِي الدولة الأيوبية بِمصْر كثير ذكر لمَذْهَب أبي حنيفَة وَاحْمَدْ بن حَنْبَل ثمَّ اشْتهر ذكرهمَا فِي آخرهَا
فَلَمَّا كَانَت سلطنة الْملك الظَّاهِر بيبرس البندقداري ولى بِمصْر والقاهرة أَرْبَعَة من الْقُضَاة وهم شَافِعِيّ ومالكي وحنفي وحنبلي وتقرر الْأَمر على ذَلِك فِي الشَّام وَمَا والاها وَكَانَ أول من ولي قَضَاء قُضَاة الْحَنَابِلَة بِدِمَشْق الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد ابْن احْمَد بن قدامَة الْمَقْدِسِي ثمَّ الصَّالِحِي وَهُوَ من مَشَايِخ شيخ الْإِسْلَام احْمَد بن تَيْمِية وَله مصنفات سنذكرها فِي تَرْجَمته وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
وَقد كَانَ مَذْهَب الإِمَام احْمَد شَائِعا أَولا فِي الْعرَاق وَمَا وَالَاهُ فَلَمَّا دخل الْبِلَاد الشامية عبد الْوَلِيد بن مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ ثمَّ الْمَقْدِسِي الدِّمَشْقِي وَسكن بَيت الْمُقَدّس نشر فِيهِ وَفِي جهاته مَذْهَب احْمَد ثمَّ أَقَامَ بِدِمَشْق وَنشر بهَا الْمَذْهَب أَيْضا وَكَانَت وَفَاته سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة بِدِمَشْق قَالَه الْبُرْهَان بن مُفْلِح فِي الْمَقْصد الارشد فَمن ثمَّ انتشرت الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فِي هَذِه الديار وبنيت لَهَا الْمدَارِس وتنافس النَّاس فِيهَا وتسابقوا فِي إنشائها وَكَانَت كثرتها على حسب كَثْرَة أَصْحَابهَا كَمَا يُعلمهُ من طالع كتَابنَا هَذَا وَجعلت مَقْصُورَة على علم الْفِقْه غَالِبا الْمُسَمّى الْآن بفن الْفُرُوع وعَلى فني النَّحْو والتصريف وعَلى قَلِيل من فني الْبَيَان وَالْأُصُول وعَلى تلقي الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة وعمرت الزوايا والخوانق للمتصوفة وبنيت فِي دمشق مدارس لفن الطِّبّ وَأما الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة فَالظَّاهِر أَنَّهَا كَانَت يَوْمئِذٍ مبتذلة وفن التَّحْقِيق متروكا لَا يهجم على ذَلِك إِلَّا الْأَفْرَاد وخصوصا فن الْحِكْمَة فانه كَانَ مَعَ فنون الْهَيْئَة وتشريح الأفلاك وَتلك الْمعَانِي فِي الندرة بمَكَان يكَاد المشتغلون بِهِ أَن يتبرؤوا مِنْهُ فِي الظَّاهِر وَللَّه فِي خلقه شؤون وَحَيْثُ المعنا إِلَى زبدة يسْتَخْرج مِنْهَا الْمطَالع اللبيب تَارِيخ انحصار الْمذَاهب فِي الْأَرْبَعَة وَأَسْبَاب بِنَاء الْمدَارِس لَهَا فلنرجع إِلَى مَا كُنَّا بصدده وَهُوَ هَذَا