الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص 152: هؤلاء أعلام بالسيرة والمغازى من غيرهم)، ثم إن كلمة سيرة كانت تستعمل فى تلك الأيام حقًا للدلالة على ترجمة الحياة بصفة عامة، ذلك أننا نعلم بوجود سيرة هى "سيرة معاوية وبنى أمية" لعوانة الكلبى المتوفى سنة 147 هـ أو 158 هـ، أو لمنجاب بن الحارث (التميمى المتوفى سنة 321 هـ؛ الفهرست، ص 91، س 18).
ومعنى "السيرة" متسلسل من "المسلك" أو "طريقة الحياة" اللذين تدل عليهما هذه الكلمة واللذين يعدان تطورا طبيعيا للأصل س ى ر، أى "سلك" أو "ذهب فى الأرض"(وقد وردت كلمة سيرة فى القرآن، سورة طه، الآية 20) * بمعنى "السنة" أو"الهيئة" ويبدو أن صيغة الجمع "سيَر" هى التى كانت مفضلة فى أول الأمر عند الكلام على ترجمة حياة النبى [صلى الله عليه وسلم] والراجح أنها أطلقت على الروايات الخاصة بحياته أسوة بـ "سير الملوك" البهلوية (1) الأصل التى كان العرب يعرفونها فى مطلع الإسلام (انظر Geseh. der Perser u، Araber: Noldeke، ص 14 - 18). والمصطلح "سير" يجئ فى جل الإشارات التى لدينا عن المؤلفات العربية الأولى الخاصة بترجمة حياة النبى [صلى الله عليه وسلم] مقترنا دائمًا بكلمة المغازى (A. Fischer فى Cesch، Schwally d.Qorans: Noldeke جـ 2، ص 122) واقتران هاتين الكلمتين يضئ لنا السبيل فى التعرف على أصل السيرة المركب.
(1) أصل السيرة وطبيعتها
إن فكرة جمع قصة حياة النبى صلى الله عليه وسلم من مولده إلى وفاته فى رواية متتابعة محكمة ليست فكرة قديمة فى الجماعة
(*) رقم الآية فى المصحف العثمانى هو 21 [م. ع]
(1)
و (2) أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون. أعوذ بمعاذ بين يدى ما أعلق على مادة "سيرة" رجاء أن يرزقنى اللَّه الوقاية من همز فيها تحضرنى فيه الشياطين فيكون تعليقى على غير ما أحب له من براءة وترفع واحترام للمنهج العلمى أتمنى دائمًا أن يتسم بها معاشنا مع هؤلاء السادة.
وأجمع فى هذا التعليق رقمى 1، 2 لأنهما مع عدم تقاربهما يؤلفان -كما يتضح جليا- فكرة متكاملة وصورة متماسكة لشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام؛ وفهم هذه الصورة المتصلة قبل التعليق عليها ضرورى، والحديث عن بعض أجزائها يتصل أقوى الاتصال بالحديث عن سائرها، فلهذا جمعت التعليقين. ففى رقم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (1) من المادة يقول الكاتب "الراجح أنها أطلقت على الروايات الخاصة بحياته -الرسول- أسوة يسير الملوك البهلوية الأصل التى كان العرب يعرفونها فى مطلع الإسلام". ومعنى هذا فى جلاء أن صورة الرسول فى نظر أتباعه كانت صورة الملوك البهلوية، وهو الذى طبع فى نفوسهم تلك الصورة طبعا -ويتكامل هذا المعنى بما جاء فى رقم 2 من المادة ونصه:"كما انصرف -أى الاهتمام- إلى تخليد ذكر المغازى على غرار ما كان يفعل العرب فى الجاهلية، تلك المغازى التى اشترك فيها المسلمون تحت راية قائدهم الذى كان جل اتباعه ينظرون إليه نظرتهم إلى أمير استطاع بفضل حكمته وشجاعته، المؤيدتين بروح من اللَّه، أن يحرز من آيات النصر أروعها وأعظمها أثرا فى النفوس وإن كان لا يختلف فى خلقه اختلافا مشهودا عن أمراء الجاهلية". فالرسول عليه الصلاة والسلام فى نظر جل أتباعه أمير لا يختلف عن أمراء الجاهلية، وما أقرب الإمارة من الملك. .
ونسأل الأستاذ كاتب المادة عن أشياء فى منهج تفكيره مثل: -
(أ) صدرت الكلام باستعمال كلمة "سيرة" لحياة النبى [صلى الله عليه وسلم] عند أكثر من مؤلف؛ واستعمالها فى تلك الأيام فعلا لترجمة حياة معاوية، مثلا لاستعمالها فى تلك الأيام فعلا للدلالة على ترجمة الحياة. وبعد شرح معنى "سيرة" المفردة وبيان استعمال القرآن لها. . الخ. إذا بك تعقب بقولك: ويبدو أن صيغة الجمع "سيَر" هى التى كانت مفضلة فى أول الأمر عند الكلام على ترجمة حياة النبى. . وقد بدا لك هذا دون مثل له ولا شاهد عليه، وبعد الذى قدمته من استعمال اللفظ المفرد "سيرة" ومقاله وشاهده. . فهل لى أن أقول إن المنهج غير دقيق فى هذا الموقف. .!
(ب) بعد الذى فات عن استعمال المفرد، عقبت بقولك "والراجح أنها أطلقت على الروايات الخاصة بحياته أسوة يسير الملوك البهلوية كالأصل التى كان العرب يعرفونها فى مطلع الإسلام. . فبم رجح عندك هذا التأسى فى إطلاق لفظ الجمع "سير" كسير الملوك البهلوية؟ . . الجمع قد بدا لك بدوًا فقط، بعد ما واجهتك شواهد استعمال المفرد، فبأى شئ رجح عندك هذا التأسى؟ وكيف صار ما بدا -بلا شاهد- هو الواقع، وهو صادر عن حال نفسية لمستعمليه، وهى التأسى باستعمال الفرس للجمع فى سير ملوكهم البهلوية؟ . . وهل المنهج فى هذه الانتقالات دقيق!
(جـ) تذكر -فى رقم 2 - أن جل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى أمير لا يختلف فى خلقه اختلافًا مشهودا عن أمراء الجاهلية. . فما دليلك على هذه النظرة من جل أتباعه إليه، أو -على الأقل- ما الشاهد عليها من خبرهم؟ ! ثم ما شاهدك على أن جل أتباعه كانوا ينظرون إليه هذه النظرة، وعن أى إحصاء صدرت فى هذه؟ ! وهل المنهج فى هذه الأقوال دقيق!
(د) ذكرت الأمراء فى الجاهلية، وجعلت محمدًا صلى الله عليه وسلم كأحدهم، لا يختلف اختلافًا مشهودا، فماذا كان الأمراء فى تلك الحياة القبلية الأبوية الطابع؟ ومن هم أمراء الجاهلية الذين كانوا قوادا ذوى ألوية انتصر أتباعهم تحت قيادتهم! وهل المنهج فى هذه الدعاوى دقيق!
وإذا جاوزنا ما فى البيان والتعبير إلى ما فى الحكم والتفكير فإنا نسأل الأستاذ كاتب المادة أسئلة أخرى عن تقديره الحقائق التاريخية حين قرر ما قرر، وتلك الأسئلة مثل:
(أ) هل الاتجاه إلى ظواهر الملكية والإمارة فى اعتبار أتباع الرسول له، أو فى تصويره هو نفسه لهم، هل هذا الاتجاه يتفق فى شئ مع إصرار الرسول فى مقام الرسالة، وهو أسمى من مقام الملوك، على تقرير بشريته، ومماثلته للنَّاس، وأنه ليس إلا بشرا رسولا. . والكاتب نفسه يعرف هذا جيدا. وسيذكره فيما يلى من هذه المادة.
(ب) هل الاتجاه إلى الملكية والإمارة يتفق مع تصرفات الرسول كنهيه أصحابه عما تفعله الأعاجم لملوكها، ودفع خوف من خاف منه بقوله: إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد!
(جـ) وقبل هذا كله، هل كانت طبيعة الحياة العربية حول الرسول [صلى الله عليه وسلم] تهيئ له مثل هذا الاتجاه إلى الملكية والإمارة، أو تساعد على تصور أصحابه له فى هذه الصورة، حتى يتأسوا فى سيرته يسير الملوك وينظروا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إليه نظرهم إلى أمير قائد محارب انتصروا تحت لوائه الخ.
(د) متى قاتل محمد، صلى الله عليه وسلم ومتى صار قائدا، حتى تكون صورته عند جل أتباعه هى صورة قائد انتصروا تحت رايته؟ ! إن محمدا عاش داعيا بضعا وعشرين سنة لم يجرد سيفا فى أكثر هذه المدة وأغلبها، أى خلال خمس عشرة سنة من هذه المدة، حش نجحت دعوته وتكون المجتمع الإسلامى وتميز فى المدينة، وأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. . فهل بضع السنوات التى دفعت محمد [صلى الله عليه وسلم] أو مجتمعه الجديد إلى دفع الظلم عن مجتمعهم هى التى رسمت وحدها صورة محمد صلى الله عليه وسلم فى نفوس جل أتباعه.
(هـ) هل كان محمد صلى الله عليه وسلم يأخذ بين أتباعه صورة القائد المتفرد، أو أنه كان ينزل على مشورة خبرائهم ويغير موقفه الحربى الذى اتخذه لأن الخبراء يرون ذلك، ويسلمون له بصحة ما يوحى به إليه لا بصحة ما يرتئيه هو فى الميدان؛ ولما سألوه هل منزلك هذا فى بدر أنزلكه اللَّه أو هى الحرب، وقال لهم: هى الحرب، بينوا له الوضع الحربى السليم، فغير منزله! وإذا كانت سنوات الحرب هى أواخر حياة محمد، وهى نحو ثلث حياته فى الدعوة والرسالة. فهل تكون هى التى ترسم صورته عند جل أتباعه أميرا قائدا انتصروا تحت لوائه أروع نصر وأعظمه!
(و) وهل حقا كانت فترة الحرب فى حياة محمد صلى الله عليه وسلم فترة انتصارات رائعة وعظيمة! أو تخللتها الهزائم فى أحد. . وحنين، لأن غزواته عليه السلام إنما كانت فى حقيقتها حرب دفاع ومقاومة للظلم، كما تصرح الآية القرآنية {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} نعم كانت حرب مقاومة للغالبية التى تتكتل لسحق الجماعة الناشئة فى المدينة، قبل أن يصلب عودها، فكانت -كما هو الواقع الملموس- صراعا بين قلة إسلامية تناضل عن كيانها أمام كثرة تتحزب ضدها، ويتعاون فيها مشركو العرب بمكة، مع اليهود المحيطين بمسلمى المدينة الذين عانوا فى هذه المقاومة الحيوية شدائد كثيرة. لم يتهيأ لهم فيها دائما أروع آيات النصر وأعظمها بل زلزلوا فيها زلزالا شديدًا فى غزوة الأحزاب مثلًا. . وأنجدتهم دائما قوة الإيمان، وصلابة اليقين؛ فليس من صحة التقدير فى شئ ما يقوله كاتب المادة عن الأمير المحارب الشبيه بأمراء الجاهلية!
وهذا الذى ألمس من دخل التفكير، واهتزاز التقدير، هو الذى يجعلنى دائما أكرر فى هذا التعليق التعوذ من همزات الشياطين، حتى لا تزل قدم ولا يجمح قلم.
* * *
وفى الصورة التى حاول الكاتب رسمها لمحمد صلى الله عليه وسلم الأمير المحارب خطر قوى الإيحاء، حاول أن يتم به تلك الصورة الشوهاء؛ وذلك الخطر هو ما يرسمه بقوله:"والمصطلح "سير" يجئ فى جل الإشارات التى لدينا عن المؤلفات العربية الأولى الخاصة بترجمة حياة النبى [صلى الله عليه وسلم] مقترنا دائما بكمة المغازى؛ واقتران هاتين الكلمتين يضئ لنا السبيل فى التعرف على أصل السيرة".
أنه كما ترى يقرر اقتران السير بالمغازى ويرى ذلك الاقتران هو المصباح الذى يفهم على ضوئه تلك السيرة، ويتعرف على أصلها.
وفى تسامح نقول له: إنه كدأبه يقرر من أمر المؤلفات العربية الخاصة بالسيرة ما يقرره من هذا الاقتران بين السير والمغازى، دون أن يذكر دليلا أو شاهدا على هذه الدعوى إلا ذكره مرجعا هو نولدكه فى تاريخ القرآن.
والمنصف يتردد كثيرًا فى التسليم له بهذا الاقتران الذى يريد جعله مفتاح سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لأننا نجد فى مجموعات حديثية قديمة، وهامة، عدم اقتران السير بالمغازى، فمالك فى الموطأ مثلا، وهو من أقدم المجموعات الحديثية التى وصلتنا يعنون بغير هذا كله حين يذكر كتاب الجهاد -جـ 2، ص 2، ط صبيح- والبخارى فى صحيحه حين يجمع أخبار غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم يجعل العنوان هو "كتاب المغازى" فقط دون لفظ السير -جـ 3، ص 2، ط الحسينية- ويضع كلمة السير مع الجهاد فى تحديثه عن فضل الجهاد فيكون العنوان هو كتاب الجهاد والسير -جـ 2 ص 90.
ثم نسمع كلام الفقهاء حين يدرسون أحكام الجهاد فيعنونون لذلك "بكتاب السير" ويبينون السير بمثل قولهم: إن أصل السيرة حالة السير، إلا أنها غلبت فى =
الإسلامية ولا هى بالفكرة التى جاءت عفو الخاطر. وإذا كان من الطبيعى أن تجتذب فعال منشئ الدين الجديد وأقواله على الفور اهتمام معاصريه وتلصق بذاكرتهم ويزداد هذا الأثر فى نفوس المؤمنين به من أهل الجيل الثانى، وقد انصرف هذا الاهتمام إلى تثبيت سنن العبادة والشريعة المقررة جريًا على تقاليد النبى صلى الله عليه وسلم واقتداء به، كما انصرف إلى تخليد ذكر المغازى على غرار ما كان يفعل العرب فى الجاهلية، تلك المغازى التى اشترك فيها المسلمون تحت راية قائدهم الذى كان جل أتباعه ينظرون إليه نظرتهم إلى أمير (2) * استطاع بفضل حكمته وشجاعته المؤيدين بروح من اللَّه، أن يحرز من آيات النصر أروعها وأعظمها أثرًا فى النفوس، وقد كان الحافز الأول إلى هذا الاهتمام هو الذى دفع القوم، كما نعلم، إلى إقامة السنة فى تلك الصورة المأثورة من الحديث المروى، وهذه الصورة وإن بدت على هيئة مجموعة من المعلومات تتعلق بحياته صلى الله عليه وسلم، فإنها فى الحق تختلف عن ذلك اختلافًا كبيرًا من حيث غرضها وطبيعتها. وكان الحافز الثانى بدوره هو السبب فى اهتمامهم بالقصص التى تتصل بحياة النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينة وتحفل إلى حد كبير بالمغازى. فليست هذه المغازى إلا استمرارًا أو تطورا لأيام
= الشرع على أمور المغازى. كالمناسك على أمور الحج -الزيلعى: شرح الكنز جـ 3: 24، ط بولاق- تسمع هذا فتقدر معنى السير حين تتصل بالمغازى أو تكون معنى غالبا فيها، وإن أصل ذلك ما فيها من معنى السير- وأن مثل هذه الصلة بين السير والمغازى ليست مما يسهل فيه القول بتقرير هذا الاقتران، والتوصل منه إلى معنى خاص فى صورة الرسول [صلى الله عليه وسلم] عند جل أتباعه، لو صحت له دعوى هذا الاقتران. وهو ما لا يسهل التسليم له به، بعد ما رأينا من افتراقهما فى مجموعات السنة القديمة والهامة، وبعد ما قرأنا من عدم اقترانهما أيضًا فى اصطلاح الفقهاء؛ وإن غلبة كلمة السير فى الشرع على أمور المغازى ليست لشئ فى معنى السيرة التى هى ترجمة الحياة. . وأن التعلق. يمثل هذا الاتصال حين يكون بين السير والمغازى لا يضئ من السبيل فى التعرف على أصل السيرة المركب. . وبالتالى لا يحقق شيئًا من الصورة التى يحاول الكاتب رسمها لمحمد [صلى الله عليه وسلم] ومغازيه التى يريد أن يجعلها استمرارا وتطورا لأيام العرب فى الجاهلية. . وأعوذ باللَّه دائما مما عذت به أولا من الهمزات.
(*) تعليق هذا الهامش 2 ضمن التعليق السابق (1).
العرب (1) وهما يشتركان فى ذلك الأسلوب العذب المرسل على السجية، وفى الجنوح إلى قطع حبل الرواية وتقسيمها إلى عدد من الحوادث مع وفرة الشواهد الشعرية (انظر Islamica، جـ 2، 1926 م ص 308 - 312) ولا يستطيع المرء أن ينكر على مثل هذا النوع من الكتابة الصفة التاريخية، ولكنه يجب أن يُذكر فى هذا الصدد أننا لا نتناول التاريخ موضوعًا فى إطار من التسلسل التأريخى أو مرتبًا وفقا لخطة موضوعة، وإنما نتناول سلسلة من "المذكرات الحربية" نجد فيها التصوير الصادق (وإن غلبت عليه الذاتية فى كثير من الأحوال) والوصف الواقعى لحادثة مقترنا بوصف لحادثة أخرى،
(1) يقول الكاتب "ليست هذه المغازى إلا استمرارًا وتطورًا لأيام العرب" ويمضى فيصف التشابه بين السيرة وأيام العرب فى الأسلوب والتنسيق. . . والشواهد الشعرية. . الخ. . وهذا القول منه إنما هو تتمة للصورة التى حاول رسمها سابقا. فانصراف الاهتمام إلى تخليد ذكر المغازى - مغازى القائد الأمير المحارب. . الخ على غرار ما كان يفعل العرب فى الجاهلية. . انصراف الاهتمام إلى هذا التخليد هو السبب عنده فى نشأة محصول وافر من قصص تحفل إلى حد كبير بالمغازى. . وليست هذه المغازى إلا استمرارًا وتطورا لأيام العرب. . الخ.
وفى هذا التفكير والأداء أشياء كثيرة تستوقف الناظر فيه: فنشأة المحصول الوافر من القصص المتصلة بحياة النبى [صلى الله عليه وسلم]. . الخ. شئ يستوقف القارئ، ولكنا ندع الكلام عن هذه القصص واتهامها إلى أشباه لها سترد فيما يلى. . ونقف هنا عند جعله هذه المغازى استمرارًا وتطورًا لأيام العرب. . فالكاتب بعد ما صور محمد صلى الله عليه وسلم بأنه فى نظر جل أتباعه أمير محارب لا يختلف عن أمراء الجاهلية -على ما ناقشناه فيه قريبًا- يضيف إلى هذه الصورة أن مغازيه -أو قصص مغازيه- ليست إلا استمرارًا وتطورًا لأيام العرب. . يعنى فى الجاهلية. والحق أننا لا نعرف كيف يجد الكاتب الشجاعة على إلقاء مثل هذا القول. . فهل كانت الحركة الإسلامية فى حياة العرب استمرارًا متصلا لحياتهم فى الجاهلية؟ وهل كانت حركاتهم الحربية فى الإسلام -مهما يكن الرأى فيها- استمرارًا لحروبهم الجاهلية التى كانت لهم فيها تلك الأيام؟ وهل لا يدخل فى حساب الكاتب بشئ ما هذا الضجيج الهائل الذى ادعته الحركة الإسلامية لنفسها من تأليف قلوب العرب بعدما كانوا أعداء، على شفا حفرة من النار، ثم ما نادت به الحركة الإسلامية من عموم دعوتها وتوجيهها إلى من حولها من الأمم والحكام؟ لو لم يكن فى الأمر إلا هذه المزاعم والادعاءات -ونسميها كذلك مسايرة لكل منكر- لكان هذا كافيا لأن يدل على شئ ما أصاب هؤلاء الجاهليين فغير من أمرهم حتى لا يعود من اليسير على حامل قلم أن يعتبر مغازيهم تحت ظل هذه الدعاوى كحرب البسوس بينهم، أو حرب داحس والغبراء فى الجاهلية! إن مثل هذا القول مما يشعر أشد الناس تحاملا على هؤلاء العرب ودعوتهم، وداعيها، بأن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الكرامة العقلية تحول بينه وبين مثل هذا التصوير للحياة والتاريخ وسنن الاجتماع بإنكار أن شيئًا ما، بل شيئًا كبيرًا، قد طرأ على الحياة فى الجزيرة العربية مطلع القرن السابع الميلادى، وكان خليقا بأن يغير من أمرها وأمر أهلها تغييرا لا يجعل حياتهم بعد هذا التاريخ استمرارًا لحياتهم قبله. . على أنا نسرف فى حسن النية، ونقف عند كلمة معطوفة على هذا الاستمرار، فإن الكاتب يقول -استمرارا أو تطورا- فنقول: إنك بكلمة "التطور" تعترف بالتغير. فهل كان التطور المغير لحياة العرب بظهور الإسلام تغيرا هينا يسيرا يجعل حياتهم بعده استمرارا لحياتهم قبله؟ وتكون مغازيهم فى سبيل الدعوة الجديدة استمرارًا وتطورا لتطاحنهم العصبى القبلى، الذى كان بجهالته وحمقه عاملا منفرا للواعين فيهم من هذه الحال البشعة، التى جعلت الدعوة الإسلامية تحولا جوهريا فعالا فى حياتهم. . . ولم يكن من الطبيعى أن يكون ما بعدها استمرارا لما قبلها!
والغريب أن الكاتب قد قال قبل ذلك: إن فكرة جمع قصة حياة النبى صلى الله عليه وسلم فى رواية متتابعة ليست فكرة قديمة فى الجماعة الإسلامية. ومعنى هذا أنه قد مضى وقت بعد الدعوة الإسلامية أيضًا قبل أن توصف تلك المغازى فى السيرة. فكان الدعوة الإسلامية نفسها لم تغير من اتجاهات العرب، ولا الزمن نفسه -وقد مضى منه ما مضى قبل العناية بوضع السيرة- قد غير من اتجاهات أولئك العرب الجاهلية. وإنه لكثير أن يستعصى حال هؤلاء العرب على الزمن، بعد ما استعصى على المحاولة الإصلاحية الإسلامية نفسها، سواء كانت دعوة سماوية -كما يؤمن أصحابها- أو حتى محاولة بشرية كما يدين هذا الكاتب!
على أنا لا نمتنع عن الإمعان فى التغابى ونسميه حسن رأى فنقول لأنفسنا لعل الكاتب يريد أن يقول: إن وصف المغازى هو الذى كان استمرارا وتطورا لوصف أيام العرب. لا نفس المغازى وأحداثها وأهدافها. ولكنا لا نجد الطريق النافذ إلى هذا الفرض المصطنع، لأننا لم نتلق من العصر الجاهلى وصفا نثريا لأيام العرب حتى يجد الكاتب المشابهة بينه وبين وصف المغازى، بنحو ما قاله من اشتراكهما فى الأسلوب العذب المرسل، وفى الجنوح إلى قطع حبل الرواية، وغير ذلك مما يقول فى شرح هذه المشابهة، ويكون مراده أن القول فى المغازى كان استمرارا وتطورا للقول فى أيام العرب. .!
وحتى هذا الربط بين المغازى وأيام العرب فى أسلوب السرد أو القص أو الوضع لا نجده إلا دعوى متكلفة لأن الحافز على العناية بأيام العرب غير الحافز على العناية بالسيرة، وما فيها من المغازى؛ ولأن من الطبيعى أن تكون الدعوة الإسلامية قد قدمت صورة للبطولة، والتمست هدفا من الحرب. مغيرة لصورة البطولة فى الجاهلية وهدف الحرب فى الجاهلية، بحكم ما لا يمكن إنكاره أبدًا من فعل الزمن الذى يقرره الكاتب بقوله إن فكرة وضع السيرة ليست قديمة فى الجماعة الإسلامية، أى أنها وجدت بعد مضى زمن على ظهور الإسلام، وهو ما لا بد أن يغير من نظرة المسلمين للمغازى عن نظرتهم لأيام العرب.
وفى النهاية لا يسهل القول بأن المغازى والسير ليست إلا استمرارًا وتطورا لأيام العرب فى طبيعتها وغايتها؛ ولا حتى يسهل القول بأن المغازى والسير ليست إلا استمرارًا وتطورا لأيام العرب فى أسلوبها وسردها -ونقرأ فى التعليق التالى ما ينقض به الكاتب نفسه كلامه.
أمين الخولى