الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووضع على جانبيه تمثالا أخويه اللذين صحباه إلى بوزنطة. ووفد عنتر على رومة قبيل وفاته، ذلك أن ملك رومة بلقام بن مرقش كان ينوء بالهجوم الذى سننه عليه بهمند، وقتل عنتر بهمند وحرر رومة، وشن عنتر حملة للثأر من السودانيين وأخذ ينتقل من مملكة إلى أخرى موغلا فى إفريقية حتى بلغ بلاد النجاشى، وتبين له فيها أن النجاشى هو جد أمه زبيبة. وأشد من هذا إغراقًا فى تهاويل الخيال الغزوات التى شنها على هند سند، وعلى الملك النصرانى الليلمان فى أرض بيضا، وأرض العفاريت. وكان مصرع عنتر على يد وزر بن جابر الملقب بالأسد الرهيص، وقد هزمه عنتر وأسره مرارًا، وكان فى كل مرة يطلق سراحه، وأحس وزر بالهوان لما أظهره نحوه من نبل، ولم يكف عن معاودة الهجوم عليه؛ وأفقده عنتر بصره آخر الأمر، ولكن وزرا تعلم، بالرغم من عماه، أن يرمى الطيور والغزلان بقوسه وسهمه متتبعًا صوتها بأذنه. وأصاب عنتر سهم من سهامه المسمومة، ولكن وزرا مات قبل عنتر متوهما أنه أخطأ فى إصابته. وظل عنتر وهو يحتضر، بل وهو ميت حقًا، ممتطيا ظهر جواده الفحل الأبجر يدفع عن قومه غارة العدو. ولم يعقب عنتر ولدًا من عبلة، ولكنه أعقب من زوجاته اللائى تزوجهن سرًا ومن عشيقاته عدة أولاد، منهم ولدان نصرانيان، بل صليبيان حقًا، هما الغضنفر قلب الأسد، ابنه من أخت ملك رومة التى تزوجها عنتر وهو فى رومة وتركها فى القسطنطينية؛ والجوفران (أى Geoffroi، Godfrey) ابنه من أميرة فرنجية. وقد انتقم أولاد عنتر لمقتل أبيهم المنطوى على البطولة وتحسروا عليه، ثم عاد الغضنفر والجوفران إلى أوربة، ودخلت عبس فى الإسلام.
تحليل السيرة:
وفيما يلى العناصر الرئيسية التى شاركت فى نمو السيرة:
(1)
الجاهلية (2) الإسلام (3) التاريخ الفارسى والملحمة الفارسية (4) الحروب الصليبية.
(1)
وتدين السيرة للجاهلية بروح الفروسية البدوية التى تتسم بها؛ ومعظم الشخصيات الواردة فيها التى لها فى كثير من الأحوال سمات
تاريخية؛ والثارات بين القبيلتين العربيتين الشقيقتين عبس وفزارة؛ وكذلك ما يتصل بالتسابق بين داحس والغبراء، وبأعظم ما جاء فى أخبار العرب، مثل زواج الملك زهير بتماضر؛ وموته؛ وموت مالك بن زهير؛ وخبر الحارث ولبنى؛ وخبر جيدا وخالد؛ ونوادر حاتم الطائى؛ وشخصية ربيعة ابن مقدم الرائعة وما إلى ذلك.
(2)
- وتدين السيرة للإسلام بالمقدمة التى تضمنت تفسيرًا مستفيضًا لقصة إبراهيم؛ والروايات المتواترة فى مطلع الإسلام وعلى، والخاتمة التى تعد فترة انتقال بين الجاهلية والإسلام؛ ونزعة الكتاب التى تجعل عنتر يمهد حقًا للإسلام؛ وقد صيغت حملات عنتر المظفرة فى أرجاء جزيرة العرب، وفارس، والشام، وشمالى إفريقية، وأسبانيا على غرار فتوح الإسلام؛ وفى السيرة بعض تفصيلات تصبغها بصبغة شيعية خفيفة.
(3)
ونجد الأثر الفارسى فى السيرة ماثلا فى معرفة التاريخ الفارسى والملحمة الفارسية، وفى مواطن اللغة الفارسية، وفى فكرة الملكية بالحق الإلهى، وفى العلم بالحياة فى البلاط الفارسى ومراسمه (العرش، والتيجان، والآداب الشاهانية) والصيد الشاهانى (البزاة والفهود) وبريد حمام الزاجل؛ وعمال الدولة والرتب عند الفرس (وزير، وموبذان، وموبذ، ومرزبان، وبهلوان، وعيون الشاه وآذانه؛ بل السهارجة "السقاة")
(4)
من أثر النصرانية والحروب الصليبية؛ تعلم السيرة بأمر النصارى فى الشآم التابع للساسانيين وفى بوزنطة وبين الفرنجة. ويظهر الفرنجة على اعتبار أنهم صليبيون (بل إن السيرة لتذكر الصليب بوصفه قلادة تلبس على الصدر)؛ وتذكر السيرة القتال فى سبيل شيلوه وبيت المقدس ويحاصر الجوفران (Godfrey) دمشق ويسّير الجنود على أنطاكية. وتذكر السيرة أيضًا الصليب، ومسوح الكهان والرهبان، وزنار (1) الطريقة (وهو فيها أهم شعار للنصرانية بعد الصليب)،
(1) نطاق أو حزام كانت تلبسه النصارى والمجوس. [القاموس. م. ع]
والصولجان، والناقوس، والبخور، والماء المقدس، والصلاة على الميت، والمسح، والقربان المقدس، والأيام المقدسة، وعيد ميلاد المسيح، وعيد العنصرة؛ وتعلم أن رجال الدين عند الفرنجة هم أصحاب المكان الأرفع فى نظر الكنيسة والدولة، وأن زواج أبناء العمومة لا يقره الشرع، والظاهر أنها تعلم أيضًا عن عقوبة الحرمان من الكنيسة، وتصف مزارا أسبانيا ويوما يحج فيه، وأن النصارى يقسمون بعيسى، ومريم، والأناجيل، ويوحنا المعمدان (مارحنا المعمدان، ويخنا) ولوقا، وتوما (مارتوما) وسيمون، وأن الإمبراطور رجوم يحكم فى بوزنطة، ويدعى ابنه هرقل، وأن بلقام بن مرقش هو ملك رومة؛ وأن حكام شمالى إفريقية النصارى يتسمون بأسماء تنتهى بالحرف س الشائع فى اللغتين اليونانية واللاتينية مثل مرتوس، وكردوس، وهرمس، وابن العُرنوس، وكندرياس بن كرماس، وسندريس، وتيودورس؛ وأن ملك أسبانيا يدعى شنتياجو Santiago. أما أسماء ملوك الفرنجة وأمرائهم فالثابت منها هو بهمند فحسب. وأسماء إخوته هى: موبرت، وسوبرت، وكوبرت، وأن اسم الأمير "شوبرت البحر" يدل على المقطع الأخير الذى ربما كان أشيع ما تنتهى به أسماء الأشخاص فى الفرنسية القديمة. ويسمى ابن عنتر من الأميرة الفرنجية الجوفران، وتتمثل فيه الصيغ الفرنسية القديمة (Geffroi Jofroi، Jefroi) لاسم جودفرى صاحب بويون، ولا تعرف قصة عتتر شيئًا عن أوربا، ولكنها تعرف الكثير عن الأوربيين، ومن ثم فلاشك فى أن كاتبها قد تعرف عليهم خارج أوربا. فى أيام الحروب الصليبية بطبيعة الحال. وقد ذبح عنتر بهمند. والجوفران هو ابن عنتر الذى قدم آسية صليبيًا من الصليبيين، وعلم هناك بحقيقة بنوته، فانتقم لأبيه ثم عاد إلى أوربا. والظاهر أن اسم تفور Tafur نفسه، ملك الشحاذين فى جيش بطرس صاحب أرمينية، قد أبقت عليه السيرة، ذلك أن "ضافور" هو الذى استولى على عرش الشام من الأمير الصبى عمرو من الأمير الصبى عمرو عرش الشام، ثم أطاح عنتر بضافور. أما العطف الواعى على المسيحية والنظرة السمحة إليها، فإن الصورة التى نستشفها من
سيرة عنتر فى ذلك تسمو كثيرًا على الصورة التى تتكشف لنا عن النظرة التى تنظر بها الملحمة المأثورة عن مسيحية القرون الوسطى إلى الإسلام.
الأدب الشعبى ونظائر القصة من الآثار الأدبية: يقل الأدب الشعبي فى سيرة عنتر إلى حد عجيب، ولكنها تشمل سمات عدة مشهودة، ففيها كهف للساحرات يأتين فيه بالأعاجيب، وشواهد من لطائف الكنايات، وفيها فأل وطيرة، ومعجزات الحياة. ويمكن أن نعد ما تتفق فيه مع الشعر القصصى الآخر من المسائل العادية التى لاكتها الملاحم كثيرًا؛ ومن ذلك قوة البطل وترعرعه، ومغامراته، وقتل سبع، والمعمرين (وطول العيش شائع فى سيرة عنتر شيوعه فى الشاهنامه) والأحلام، والرؤى، والنساء المسترجلات، والقتال بين الأب وابنه، وموضوع إخلاص العروس المأثور عن ملحمة كودرون Gudrun (1)، وموضوع الرجل الأبله. وفى السيرة أفكار منقولة قليلة مثل يوم سعد النعمان ويوم نحسه، وناقوس العدالة الخاص بكسرى (وهو موضوع مأخوذ من أسطورة الإمبراطور شارل والحية)؛ والطيران إلى السماء فى صندوق تحمله النسور، وروايات إفريقية عدة (وربما كانت مأخوذة من كتب جغرافية عن إفريقية). وثمة أيضًا صلات تربط السيرة بالأساطير الأوربية، فى العلامات العجيبة التى ظهرت عند مولد شارلمان (الواردة فى قصص ترين Turpin المزيف)، على أن ما ذكره تربن المزيف مأخوذ بلا شك من مصدر أقدم من ذلك؛ وكذلك الطيور الصناعية المتخذة من المعدن تغنى بالألحان المختلفة بفضل الأجراس وأنابيب النفخ قد وصفت فى الملاحم الفرنسية والألمانية كما وصفت فى سيرة عنتر. ولكننا نصادف فى هذا المقام عجيبة تاريخية هى المائدة المثلثة المذهبة فى القسطنطينية، وشيئًا على غرار ذلك فى طيسفون أيام الساسانيين، وكذلك فى قصبة التترخانية. وثمة وجوه من الاتفاق تستلفت النظر إلى حد عجيب؛ فالحارث الظالم يضرب صخرة بسيفه
(1) أغنية ملحمية حافلة بالمغامرات يدور الجزء المهم منها حول البطلة كودرون واختطافها ثم تخليصها.
ذى الحيات حتى لا يقع فى يد أعدائه، فتتحطم الصخرة ويخرج السيف سليمًا كما هى الحال بالنسبة لسيف رولاند "درْندَل". ويبصَّر عنتر ابنه الغضبان بأمر الملكية المستندة إلى الحق الإلهى، حين أراد الغضبان أن يقتل كسرى ويخص نفسه بملكه، وذلك هو ما فعله جيرارد ده فيان مع ابن أخيه أيمرى عندما أراد أن يقتل شارلمان. وينطلق جواد عنتر الأبجر فى الصحراء بعد موت عنترة خشية أن يكون مطية لسيد آخر، كما فعل بايار جوادرينودى مونتابان إذ لاذ بغابات الأردّن. ومن المواقف المشهودة التشابه العجيب بين مبارزة رولاند لأوليفر وبين مبارزة عنتر لربيعة بن مقدم. فقد انشطر السيف فى الحالين شطرين فما كان من الخصم النبيل إلا أن ناول غريمه سيفا آخر. ويتصالح الغريمان ويتآخيان. ولكن مثل هذا التوسع فى الصورة الشعرية له أصول فى نظرات الفروسية التى من هذا القبيل، ومن ذلك صلة الفارس بسيفه، وصلته بجواده، وصلته بسيده الأكبر، وصلته بغريمه.
الفروسية فى سيرة عنتر: تعد السيرة بحق قصة من قصص الفروسية. وقد كانت الفضيلة المثلى التى يتحلى بها الرجل فى الجاهلية هى المروءة والفتوة. ونحن نجد فى سيرة عنتر، علاوة على ذلك، الفروسية مقترنة بالفراسة والتفرس، ويقال للرجل الفارس ويعرف عنتر بأبى الفوارس، ويقال له أحيانًا أبو الفرسان، وأعلى الفرسان، وفارس الفرسان، وأفرس الفرسان. وليس كل من يركب الجواد بفارس. ويتميز الفارس بالشجاعة، والإخلاص، وحب الصدق، وحماية الأرامل، واليتامى والمساكين (وكان عنتر يولم لهم ولائم يخصهم بها)، والشهامة، واحترام النساء (وقد بدأ عنتر حياته الحافلة بالبطولة وختمها بحماية النساء؛ فكان يقسم بعبلة، وبعينها، ويغزو باسمها)، والكرم وخاصة مع الشعراء. والفرسان هم أيضًا شعراء، وخاصة شعراء الحجاز، الذين ورد ذكرهم بالمئات فى سيرة عنتر. وتعرف السيرة أيضًا نظم الفروسية. ونحن نصادف فيها الغلمان وأتباع الفرسان، ولا يقتصر ذلك على
سهارجة طيسفون. وقد درب عنتر نفسه عدة آلاف من الأتباع. بل إن السيرة لتصف مباريات الفرسان فى الفروسية على نطاق واسع، فى الحجاز، وفى الحيرة، وفى طيسفون، وأروعها جميعًا فى بوزنطة حيث أصاب رمح عنتر الحلقة 476 مرة. وهذه المباريات تشبه من عدة وجوه المباريات التى كانت تعقد من هذا القبيل فى أوربا، كالقتال بالأسلحة المعلومة، والتسديد على الحلقة، وتزيين الحلبات ووضع راية على الحلقة التى يسدد إليها الرمح، وحضور السيدات والفتيات. وقد بينت أوجه الشبه هذه بطرق مختلفة أشد الاختلاف. فمن قائل، مثل دليكلوز Delechuce، إن عنتر هو المثال الذى نسج على منواله الفارس الأوربى، وإن سيرة عنتر هى الأصل الذى أخذت عنه أوربا كل أفكارها عن الفروسية؛ ومن قائل، مثل رينو Reinaud، إنه لا يرى فى السيرة إلا أفكارا وعادات ونظما تحاكى ما عند الأوربيين (Jour. AS، جـ 1، ص 102 - 105). ويذهب بعض الباحثين إلى أن هذه المسألة هى نقطة الابتداء فى دراسة أصل سيرة عنتر.
أصل السيرة: تبادر سيرة عنتر نفسها بالحديث عن نفسها وعن أصلها، وتقرر أن مصنفها هو الأصمعى، وأن ذلك كان على أيام الخليفة هارون الرشيد وفى بلاطه ببغداد، وأن الأصمعى عاش 670 سنة، قضى منها أربعمائة سنة فى الجاهلية، وكانت له معرفة شخصية بعنتر ومعاصريه؛ وأنه أتم السيرة سنة 473 هـ (1080 م)، وسجل روايات من أفواه عنتر، وحمزة، وأبى طالب، وحاتم الطائى، وامرئ القيس، وهانئ بن مسعود، وحازم المكى، وعبيدة، وعمرو بن وّد، ودريد بن الصّمة، وعامر بن الطفيل؛ والحق أن لدينا قصة منتظمة عن أصل القصة. وما تردده القصة من أسماء مثل: الراوى، والناقل، والمصنف، وصاحب العبارات، والأصمعى وغيره من الأسانيد، له بالنسبة لسيرة عنتر نفس المدلول الذى للدهقانه والكتب البهلوية والأسانيد العريقة فى القدم بالنسبة للفردوسى، والمدلول الذى لأخبار القديس دنيس بالنسبة للملحمة الفرنسية. ويدخل فى باب الخيال ما ترويه سيرة عنتر من أن ثمة روايتين
للقصة، إحداهما خاصة بالحجاز، والأخرى خاصة بالعراق، وقد قصد بابتداع رواية للقصة خاصة بالحجاز أن يلقى فى قلوب الناس أن الأصمعى قد جمع المعلومات التى اعتمد عليها فى كتابة القصة فى الحجاز من أفواه عنتر وأصحابه. وجعل الحجاز موطن القصة اختلاق محض. على أن العراق ربما يكون قد ساهم فى بناء القصة بنصيب كبير. ونذكر فيما يلى دلائل يستهدى بها فى معرفة التاريخ الذى نشأت فيه سيرة عنتر:
(1)
محاورة دارت بين واهب ومسلم ذكر فيها الراهب مغامرات عنتر (Das Religionsgesprach von Jerusalem um 800 A. D. aus dem Arabischen ubersetst. Zeitschr. F.Kirchenges Chichte: von K، Vollers، جـ 29، ص 49).
(2)
حوالى منتصف القرن الثانى عشر وصف اليهودى الذى أسلم السموأل بن يحيى المغربى حياته فقال إنه كان مشغوفًا فى شبابه بالقصص الطويلة مثل قصة عنتر (M.G.W.J، 1898 م، جـ 42، ص 127، 418).
(3)
الشواهد الواردة فى السيرة نفسها، فإن ظهور بهمند، والجوفران (جودفرى صاحب بويون) -وربما يكون كذلك ظهور ملك الشحاذين تفور- ينقلنا إلى الفترة التالية للحروب الصليبية الأولى، أى فى السنين الأولى من منتصف القرن الثانى عشر الميلادى. ولا جدال إذن فى أن تواريخ عنتر قد بدئ فى تصنيفها فى القرن الثامن استنادًا إلى الشاهد الذى ذكرناه آنفًا عن المحاورة الدينية التى وقعت بين الراهب والمسلم. ويتبين من أقوال السموأل بن يحيى أن كتابًا كبيرًا عن عنتر كان موجودًا بالفعل فى منتصف القرن الثانى عشر؛ وإذا كان هذا الكتاب قد ذكر بهمند والجوفران فإنه يكون قد تم بلا شك فى أوائل هذا القرن. ولعل المداحين كانوا فى هذه الأثناء دائبين على الإضافة إليه وصبغه بصفة خاصة بالصبغة الإسلامية. أما تفسير قصة إبراهيم التى تعد زيادة لا تدخل فى صميم الموضوع، والروايات الخاصة بمحمد عليه الصلاة والسلام وعلّى، فإنها يمكن أن تنسب لأى عصر. ويمكن أن يعاد بناء قصة عنتر الأصلى على أساس لغوى راجح. وفى المجلد
الحادى والثلاثين من القصة يستعرض عنتر المحتضر سيرة حياته الحافلة بالبطولة فى قصيدته الأخيرة، ويسترجع مفاخرًا انتصاراته فى جزيرة العرب، وفى العراق، وفارس، والشام، ولكنه لا يذكر بوزنطة، ولا أسبانيا، ولا فاس، ولا تونس، ولا برقة، ولا مصر، ولا هند سند، ولا السودان، ولا الحبشة. ولم تتعرض قصيدته الأخيرة لأبنائه، ولا تذكر إلا حبًا واحدًا خفق به قلب عنتر. ومن ثم فإن قصة عنتر الأولى هذا يجب أن تسمى "عنتر وعبلة". وقد تأثرت الملحمة المتأخرة باعتبارات تتعلق بالأنساب، فجعلت لعنتر جدودًا من الملوك فى السودان وأحفادًا من الملوك فى جزيرة العرب، وبوزنطة، ورومة وبلاد الفرنجة. ثم وجدت الحروب الصليبية صدى وأثرًا لها فى عنتر. فقد وفد الصليبيون من بلاد الفرنجة. على الشام عن طريق بوزنطة؛ وخرج عنتر فى رحلة أشبه برحلات الصليبيين، ولكن بطريق معكوس، فشخص من الشام إلى بلاد الفرنجة مارًا ببوزنطة، وحقق النصر على المسيحية الأوربية، للمثل والثقافة العربية على الأقل، لأن الإسلام لم يكن قد ظهر بعد. وقد حفلت المنطقة الجغرافية بأسرها للقصة ونطاقها التاريخى بمغامرات عنتر.
والظاهر أن قصة عنتر قد ذكرت أول ما ذكرت فى أوربا سنة 1777 فى Bibliotheque Universelle des Romans (.J .A 1834 م، جـ 13، ص 256)، ودخلت لأول مرة فى نطاق بحوث العلماء الأوربيين سنة 1819 على يد هامروبور كستال Hammer Purgstall ، كما أدخلها دنلوب وليبرخت سنة 1851 فى نطاق الأدب المقارن (Dunlop Geschicte der Prosadichtungen: Liebrecht، جـ 13 - جـ 16). وقد بدأ كولدسيهر دراسة هذه المسألة العلمية التى أثارتها سيرة عنتر، وخاصة فى مؤلفاته الهنغارية. وظلت هذه السيرة أمدًا طويلا موضوعا من موضوعات البحث المحببة فى فرنسا. وعرضت لها المجلة الأسيوية فى كثير من الأحوال بالمناقشة وترجمت بعضها. وكان لامارتين تأخذه نشوة من الإعجاب والحماسة لعنتر (Vie des Grands Voyages en Orient، Premieres Hommes I Meditations Poetiques، Premiere Preface)