الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سيف بن ذى يزن
سليل بيت من ملوك حمير، وكان لسيف شأن فى تاريخ العرب بمشاركته فى طرد الأحباش من جنوبى بلاد العرب بعد أن ظلوا غالبين عليه منذ عهد أبى نواس، وتقول رواية الأهلين هناك إنه استعان على رفع نير الأحباش الأجانب ببلاط الروم ثم ببلاط كسرى ملك فارس. على أن كسرى لم يشأ أن يغامر فى هذا المشروع البعيد التحقيق فاكتفى بتزويد سيف بطائفة من المجرمين الخارجين من السجون تحت إمرة قائد يدعى وهرز؛ وهزم سيف بمعاونتهم ومعاونة بنى وطنه الذين هبوا للخلاص من نير الأجنبى، القائد الحبشى مسروقًا، فأقامه كسرى أميرًا على قومه. ونخرج من هذه الرواية ومن طائفة من القصائد العربية، بحقيقة تاريخية هى أن سيف ابن ذى يزن غلب على الأحباش بمساعدة الملك الفارسى كسرى أنوشروان، وأطاح بحكمهم على اليمن وبسط سلطانه على أرض أجداده، ويمكن أن نرجع انتصاره هذا على الأحباش إلى سنة 570 م أو نحوها، وينسب هذا الانتصار خطأ إلى ابن سيف:"معد يكرب".
ونحن نعلم من عدة مصادر أن التاريخ العربى لليمن قد درسه المسلمون هو وقصة سيف منذ مطلع الإسلام وما بعده، ومن ثم فليس بعجيب أن يحتل سيف مكانا فى المؤلفات العربية بفضل نضاله الموفق مع الأحباش الذين استفحل خطرهم. وقد شغلت الحرب بين العرب المسلمين والزنوج الأحباش الكفار فراغا كبيرًا فى قصة سيف بن ذى يزن. ويمدنا ملك الأحباش الذى كاد يجرى كفاحه مع سيف فى جميع صفحات هذه القصة، بمفتاح نستهدى به فى تبين تاريخ نشأة السيرة التى نحن بصددها، فهو يسمى سيف أرعد ويطابق بذلك اسم الملك الحبشى "سيف أرعد"، الذى نعرفه من التاريخ والذى حكم الحبشة من 1344 - 1372، ومن هذه الإشارة نخرج بواقعة على جانب كبير من الحقيقة، وهى أن نسخ السيرة الموجودة بين أيدينا ترجع إلى القرن
الخامس عشر الميلادى تقريبًا، ومهما يكن من أمرها فإنها لا ترجع إلى ما قبل نهاية القرن الرابع عشر. وتتفق المعلومات التى لدينا، سواء كانت إيجابية أو سلبية، مع هذا من حيث إنها لا تكاد تذكر شيئًا مستقلا بذاته وإنما تكون لها قيمة وهى مجتمعة. ومن بين هذه المعلومات عدد يتضح بجلاء أنه منقول من ألف ليلة وليلة. ولا يستتبع هذا بطبيعة الحال أن نقول إن القصة برمتها نشأت فى ذلك العهد، ذلك أن منشأ السيرة هو مصر، بل القاهرة إن شئت الدقة. وهذا واضح من أسماء الأشخاص والأماكن الكثيرة التى تشير جميعًا إلى مواضع معظمها فى مصر، بل إن بعضها يدل على معرفة سابقة دقيقة بخطط مصر، ولا ينقض هذه الحقيقة ورود قليل من الأسماء المأخوذة من دمشق وأرباضها فى السيرة.
أما من حيث مادة السيرة فإن مصر هى أيضًا المكان الأمثل لنشأتها، ولعل ما نستشفه بين سطورها من اعتقاد فى الخرافات وإيمان بالعجائب يدل كذلك على أن القصة إفريقية النشأة.
وتتمشى مادة السيرة مع الحقيقة التى تقول إن القصة قد ألفها ورواها الشعب أو إنها على الأقل قد رويت له. . ومن هنا نستطيع أن نتبين فى يسر السر فى أن النزعة الإسلامية العامة السليمة تسير جنبًا إلى جنب مع عدد من موروث المعتقدات غير الدينية لدى البعض ولا يمكن أن نجعلها تساير الأصول الإسلامية إلا بصعوبة وفى الظاهر فحسب. ذلك أن الدين الإسلامى الناشئ [آنئذ] لم يتغلغل بسرعة ورسوخ فى نفوس الجماهير بقدر ما تغلغل فى نفوس الطبقات المتعلمة التى كان زادها العقلى يعتمد فى جوهره على العلم والأدب اللذين أذاعهما الإسلام على نطاق واسع. أما العامة فلم يكن لديهم من معتقداتهم وعاداتهم بديل قوى يدفع عنهم تلك الأفكار. وقد استغرقت الحرب بين العرب المسلمين وبين الأحباش والزنوج الوثنيين جزءًا كبيرًا من السيرة كما سبق أن ذكرنا. ومن المفروض أن الناس جميعًا يعرفون أن بطل هذه الحرب سيف بن ذى يزن، قد عاش فى زمن الجاهلية، وأحالته السيرة نزّاعا للقتال، يدين بالإسلام.
والذى يخلصنا من هذا التناقض هو القول الذى يسلم به الناس بعامة من إمكان التزود بلمحة عن المستقبل بفضل الكرامات والسحر وما إلى ذلك وبفضل الشيوخ من أهل التقى والورع. وهكذا يصبح سيف، كأبيه ذى يزن من قبله، مؤمنًا بحقيقة الإسلام قبل مجئ محمد عليه الصلاة والسلام، ويجذبه الدين الجديد إليه. ثم يحل الإسلام محل العداوة القائمة على الاختلاف فى الجنس، وذلك فى نضال سيف الذى انصب فى جوهره على الأحباش والكفار، وراح سيف ينشر هذا الدين بعد السيف فى تجوله الكثير وغاراته العديدة فى بلاد الإنس والجن مستعينًا فى كثير من الأحيان بعضد من الأرواح. ولما كان محمد عليه الصلاة والسلام لم يظهر بعد، فقد حل محله فى الدعوة إبراهيم خليل اللَّه. ومن ثم لم تعد الغارات تشن تحقيقا لأطماع سيف والعرب، وإنما كانت تشن للدعوة إلى وحدانية اللَّه واتخاذه إبراهيم خليلا. وما إن يستجيب هؤلاء الأعداء إلى هذا المطلب بترديد الشهادة حتى يقبلوا فى الجماعة الإسلامية. وكذلك نجد أثر القول بتفوق الجنس السامى على الجنس الحامى، باقيًا بطبيعة الحال لم تذهب ربحه. لقد كان عرب الجنوب بخاصة، ويتمثل فيهم الأجداد المزعومون للمسلمين المتأخرين فى مصر، هم الذين اضطلعوا بذلك العمل الشريف وهو تمهيد الطريق لخاتم الأنبياء وخيرهم، أما الأحباش والزنوج فقد ظلوا على وثنيتهم فكانوا بذلك غير أهل للإسلام، أو اعتنقوا الإسلام فكان لهم فى هذه الحركة الدينية شأن سلبى أكثر منه إيجابى. ومما هو جدير بالتنويه أيضًا أنه لم يرد فى السيرة كلها أقل إشارة إلى أخذ الأحباش بالنصرانية، فقد نسب إليهم عبادة زحل، على حين ردّت سائر الديانات غير الإسلامية إلى عبادة النار والأصنام والحكام المتألهين، والحيوانات المختلفة (الكبش، والنعامة، والأبقار، والحشرات، والدجاجة). ولعل كثيرًا من هذه الأفكار قد نشأت فى خيال القصّاص الجامح الذى لا يعرف حدا. ولم يستغرق انتشار الإسلام مادة السيرة كلها، ذلك أن التاريخ الدنيوى قد استهوى العامة
أيضًا كما استهوتها القصص التى حفلت بالحوادث إلى أقصى حد ممكن، ولذلك نجد فى السيرة قصصا عن نشأة المدن المشهورة، والأماكن والعمائر، ومجئ نهر النيل إلى مصر وغير ذلك. ونجد فيها أيضًا وصفا للرحلات والمغامرات الكثيرة التى قام بها سيف بن ذى يزن وأولاده وفرسانه والأرواح المسخرة له، وقصص حبه وحب غيره التى تتبدى دائمًا فى صورة جديدة، ووصفا للعمائر الرائعة، والأقاليم، والأشخاص الذين تروى أنباؤهم للسامعين وما إلى ذلك من أمور كثيرة. ويجمح الخيال الذى يستعان به فى إثارة عجيب الجمهور فى نهاية السيرة ويصبح مغرقا لا حد له، ذلك أن القُصاص يحسون فى آخر الأمر أن العجائب التى رووها لم تعد تؤثر فى نفوس السامعين وأن الواجب يقتضيهم أن يزيدوها عجبا على عجيب. ومن الأشياء التى تدخل فى باب السحر الخالص الفكرة التى تردد من أن زواج سيف من زوجته الأولى شامة سوف يؤدى إلى هلاك الأحباش والزنوج، والمحاولة التى بذلت من ثم لمنع هذا الزواج من أن يتم بأية وسيلة. ولا سبيل إلى حصر الكنوز السحرية المذكورة فى سياق القصة، وهى كنوز تتيح لمن يصل إليها سلطانًا عجيبا على الأرواح ذات الصول والحول.
وثمة سحرة من ذوى الخطر هم العقبة الكبرى فى سبيل انتشار الإسلام. [حسبما تزعم القصة] صحيح أن سلطانهم مسلم به، إلا أنهم أضعف من نظرائهم فى الجانب الإسلامى، فإذا عجزوا تدخل الخضر معين المسلمين وقت الشدة، وتبنى قضية أولئك الذين يلوذون به وغلب على أولئك السحرة المقتدرين؛ وهنالك يسلمون ولكنهم لا يكفون عن نشاطهم، بل يضعون مهارتهم وعلمهم جميعًا فى خدمة الدين الجديد. والاعتقاد فى الأرواح له شأن متزايد الخطر فى السيرة، فنحن نجد فيها حشودًا لا تنتهى من الجن على اختلاف طبقاتهم يحاربون الإسلام يقاتلون فى سبيله، وهم أوثق صلة بالناس من أضرابهم الذين ذكروا بعد رسالة النبى [صلى الله عليه وسلم] كما أنهم يؤلفون فريقًا كبيرًا من أتباع سيف إن لم