الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشام فى عهد العباسيين والفاطميين:
وبسقوط الدولة الأموية فقدت الشام مقامها الممتاز، ولم تعد مركز إمبراطورية متراهية الأطراف، وألفت نفسها قد نزلت إلى مرتبة الولاية فحسب، وأصبح ينظر اليها بعين الحسد لصلتها بنظام الحكم القديم، ونقلت قصبة الخلافة عبر الفرات ووجد الشآميون أنفسهم، وهم يناضلون فى ظل سلطان لم تخمد عداوته فى قلوبهم قط، قد جردوا باطراد من كل ما كان لهم من نصيب فى شئون الحكم، ذلك أنهم من ثم قد رزحوا تحت سلطان الفاطميين ومن تلاهم من الحكام؛ وإنما كان الخلفاء العباسيون يتدخلون فى أمور الشام لإشعارها بضآلة مركزها متوسلين إلى ذلك بفرض الضرائب الفادحة عليها. وضاق نصارى لبنان بمغالاة عمال الخلافة فى اغتصاب أموالهم فحاولوا ما بين سنتى 759 - 7690 م أن يستردوا حريتهم فخاب مسعاهم. وقد اجتاز الخلفاء المنصور والمهدى وهارون والمأمون الشام فى حجهم أو حربهم مع الروم. وأصبح الموقف أشد من أن يحتمل إبان الفتن التى سبقت اعتلاء المأمون عرش الخلافة (813 - 833 م) فهاجر كثير منهم إلى قبرص.
ولم يتعظ القيسية واليمينية بالازراء التى نزلت بموطنهم الشام وما حل بهم من فقدان استقلالهم الذاتى، فلم ينسوا خلافاتهم المؤسفة التى انتهت بإضعاف الشآميين وأدت إلى خيبة مساعيهم فى رفع نير العباسيين عن كاهلهم. وقد رفع على بن عبد اللَّه السفيانى سليل معاوية العلم الأبيض الذى كان قد أصبح رمزا لحرية الشام، على أنه اضطر إلى ضم القيسية إلى صفوفه (809 - 813 م) اكتسابا لعون بنى كلب. ونشبت فتنة أخرى باءت كسابقتها بالخيبة ذلك أن عربيا يدعى أبا حرب اليمنى النسب قام وادعى أنه السفيانى على أن استخفاف القيسية بالأمر للمرة الثانية أدى إلى هزيمة فى عهد الخليفة المعتصم (838 - 847). واستسلم الخليفة المتوكل (847 - 866 م) المتقلب لهواه ففكر فى نقل قصبة الخلافة والعيش فى دمشق.
ووقع تمرد بين حرسه فاضطر إلى العودة إلى الجزيرة، وكان عهده أيام محنة ابتلى بها الشآميون. ومنذ عهده بدأت معظم التشريعات المتشددة التى زعموا أنها تنسب إلى عمر بن الخطاب: كلبس غير المسلمين لباسا خاصًا وحرمانهم من اعطاء صهوة الجياد وغير ذلك.
وفى هذا العهد لم يبق فى الشام أى مسيحى من أصل عربى وكان بنو تنوخ قد قاوموا أيام الأمويين كل مساعى الحكومة للتقرب منهم على أن الخليفة المهدى (775 - 785 م) حملهم على الخروج من دينهم.
ويرجع إلى الخلفاء العباسيين الأوليين الفضل فى إقامة المحطات العسكرية الشآمية المعروفة بالعواصم والثغور وهى سلسلة من الحصون شيدت لوقف تقدم الغزاة الروم. وفى سنة 906 م اعتقل رجل مثير للخواطر ادعى أنه السفيانى. وكانت محاولته آخر محاولة بذلت لإعادة الأمويين إلى الحكم. وقد خابت هذه الحركة نتيجة لجمود الشآميين المنحلين. وغزا الشام مملوك تركى هو أحمد بن طولون وكان قد آل إليه حكم مصر، متذرعا بحجة حمايتها من الروم، ثم أعلن استقلاله بالأمر فيها ولم تعمر الدولة التى أقامها إلا سنين معدودة (875 - 905 م) شأنها شان الدولة الإخشيدية التى كررت التجربة التى قام بها الطولونيون واجتاح القرامطة الشام فيما بين هذين العهدين وتركوا وراءهم التعاليم الإسماعيلية. ويمكن أن نقول ان الشام ضاعت سياسيا من يد العباسيين منذ العهد الطولونى، ولم يحس أحد بسلطانهم هناك إلا فترات قليلة قصيرة استردوا فيها مقاليد الحكم.
وأرادت القبائل البدوية بدورها أن تنال نصيبها من أسلاب إمبراطورية منحلة، فألفى بنو حمدان، وهم عشيرة من عشائر تغلب، أنفسهم موكلين بغزو الشام من جديد باسم الإخشْيديين وردّ تقدم الروم وأقاموا أنفسهم سادة على جنوبى الشام دون أن يخرجوا على الخلافة العباسية. وكان أشهر هؤلاء الأمراء الحمدانيين سيف الدولة الذى ظهر فى بلاطه بحلب بمظهر الراعى المتنور بلفنون والآداب (949 - 967
م) وسقطت دولة الحمدانيين (1003/ 1004 م) بعد أن تخلل عهدهم فترة قصيرة انتفض فيها العباسيون فى دمشق (975 - 977 م) ثم وقعت الشام فى يد أسرة علوية ظلت تحكمها أكثر من قرن (977 - 1098 م) وكانت هذه الأسرة إن شئت الدقة إسماعيلية هى دولة الفاطميين.
ودخل الفاطميون مصر، ثم فتحت جيوشهم الشام (969 م) وغزوا فلسطين ودمشق دون أن يلقوا مقاومة تذكر. أما فى الوسط والشمال فيصعب علينا أن نحدد الصورة التى اتخذها الفتح المصرى فقد كان سلطان الفاطميين المباشر يفرض ما دامت جيوشهم تحتل الإقليم، فلما تركوه راح الأمراء المحليون يفعلون ما يحلو لهم دون أن يجاهروا بالخروج على نائب الخليفة فى القاهرة؛ ولم يستطع الحكم الفاطمى الاحتفاظ بكيانه فى الشام إلا بالدأب على صرف وكلائه الذين لم يجد بدًا من توليتهم مقاليد الأمر فيه، عن مناصبهم فأشاع بذلك الاضطراب وعدم الاستقرار فى تصريف الأمور فى هذا الإقليم. واضطر الفاطميون فى فلسطين إلى الارتكان على بنى الجرّاح. وقد انتحل هؤلاء الأمراء الطيئيون لأنفسهم السيادة المطردة على بدو الشام قرنا من الزمان وفى عهد الحاكم (996 - 1020 م) راح بنو الجراح يقيمون خليفة يناظر الخليفة الشرعى ثم يردونه إلى مكة من حيث أتوا به. وفى صور نجح ملآح فى أن ينادى بنفسه أميرًا مستقلا عليها ردحا من الزمن (997 م).
واستغل الإمبراطور نقفور فوكاس (963 - 969 م) هذه الفوضى فغزا شمالى الشام. واستطاع خليفتاه زيمسكيس Tzimisces (969 - 976 م) وبازيل الثانى (976 - 1025 م) أن يفتحا فى يسر وادى نهر العاصى والساحل الفينيقى. ومن كل هذه الفتوح لم يستطع الروم أن يحتفظوا إلا بحكم دوقية أنطاكية نيفا وقرنا من الزمان. وقد ذكرنا آنفا الخليفة الحاكم الذى يربطه بنشأة الدروز علاقة وصلة، وتشاحن هذا الأمير مع المسيحيين فأمر بتدمير كنيسة القيامة بيت المقدس.
وقطعت الشام صلتها بمصر شيئًا فشيئًا، وزاد سلطان البدو الوبيل فى غمرة هذه الاضطرابات السياسية؛ وحوالى عام 1.23 م مكّن بنو مرداس من قيسية بنى كلاب لأنفسهم فى حلب، واحتفظوا بها فيما خلا فترات من الزمن حتى سنة 1079 م.
وما إن حل هذا الوقت حتى كان السلاجقة قد أفسحوا لأنفسهم مكانا فى الشام، وسقطت ولاياته فى قبضتهم واستولوا على دمشق سنة 1075 م، وأقام لأمير سلجوقى يدعى أرتق دولة محلية فى بيت المقدس (1086 - 1087 م) وفى سنة 1084 م فقد الروم أنطاكية آخر ممتلكاتهم فى الشام. وأصبحت الشام آنئذ مقسمة إلى سلطنتين سلجوقيتين، سلطنة حلب وسلطنة دمشق؛ وحكم فى حلب وحمص أمراء سلاجقة يتفاوت حظهم من الاستقلال، واتصلت الحروب بينهم جميعا. وأقام قاض رقيق الحال دولة بنى عمّار فى طرابلس. وظلت المدن الساحلية الواقعة جنوبى هذه المدينة فى يد المصريين. وفى غمرة هذا الاضطراب وذلك الاقتسام الذى حل بأرض هذه البلاد أقبلت جيوش الصليبين.
ولقد كانت العداوة الملحة التى أظهرها العباسيون لأهل الحجا من الشآميين [حسبما قيل]، والفوضى السياسية وحكم المغامرين من الترك والبربر، وكذلك الولاة الجشعون غير المثقفين كل أولئك لم يكن من الظروف المواتية لنمو الأفكار والآراء. واجتمع عدد قليل من الشعراء فى بلاط الحمدانيين والمرداسيين فى حلب. وقد شجعت رعاية سيف الدولة على إعداد "كتاب الأغانى" المعروف. ويستطيع القارئ أن يرجع إلى مواد أبى تمام، وأبى العلاء المعرى، والمتنبى الذى خرج من الكوفة ولو أنه كان شآمى التعليم والنشأة والمقدسى، وهو من أكثر الجغرافيين العرب علو قدر فى نظر الناس بحق. وبدأ أولو الأمر الذين كانوا أقل تسامحا من الأمويين وأشد منهم استفزازا للمشاعر فى تشجيع الناس على الدخول فى الإسلام. وأخذت اللغة العربية تحل فى بطء محل السريانية على لسان الشعوب المحكومة الذين بدأوا يكتبون بها. وأخذت العلوم