الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كمرحلة تالية لتقدمهم. ووقعت هجمات فاطمية هامة على مصر سنوات 301 - 302 هـ/ 913 - 915 م و 307 - 309/ 919 - 921 م، مما استوجب إرسال قوات من العراق لدعم والى البلاد.
وكان التطور الثانى الهام هو زيادة الهجرة من العراق. إد شهد القرن الرابع الهجرى/ العاشر الميلادى كوارث اقتصادية ومشاكل سياسية وقد شعر الكثيرون بأن الأحوال الهادئة فى مصر تتيح فرصا أكثر لهم. ومن المحتمل أن وصول هؤلاء القوم كان عاملا هامًا فى زيادة اعتناق الإسلام فى هذه الفترة، كذلك كان عاملًا هامًا فى نمو الصناعة فى مصر فى القرن الرابع الهجرى/ العاشر الميلادى.
واحتوت هجرات أخرى على كثير من اليهود. ولا يبدو أن مجتمع مصر الإسلامى الأول كان به مجتمع يهودى ذو أهمية كبرى، لكن ذلك الأمر تغير بهجرة عدد كبير من يهود بابل العراقية إلى مصر، مثل عائلة "يعقوب بن كلس" الوزير المستقبلى للفاطميين، وكان ذلك وقت ازدهار عهدهم الذى وجدنا وصفًا كاملًا له فى وثائق الجنيزة.
وفى سنة 323 هـ/ 935 م انتقلت السلطة فى مصر إلى يد رجل عسكرى آخر من أصل إيرانى شرقى، وهو محمد بن طغج الإخشيد ومن كل الوجوه تشابه حكم الإخشيد مع حكم ابن طولون، ولكن الإخشيد كان أقل طموحا من ابن طولون.
وعند غزو الفاطميين لمصر، كان أهلها المسلمون لا يزالون غير قادرين على النهوض بها كقوة كبرى. وبرغم ازدياد عدد سكان مصر آنذاك إلا أن الغالبية لم تكن منهم. واختفت طبقة وجوه القوم القديمة ليحل مكانهم عناصر أخرى. لكن مصر قد صار لها الحق آنذاك فى تبوّء مكانها الصحيح بين القوى الإسلامية.
الفترة الفاطمية 969/ هـ 1171 م:
كان الوضع السياسى والاقتصادى فى مصر عقب وفاة كافور مضطربًا للغاية لدرجة أن أعيان البلاد فى الفسطاط قرروا الاعتراف بسيادة خليفة المغرب الفاطمى عليهم، رغم
عقيدته الإسماعيلية. دون مقاومة تذكر، احتل جوهر الصقلى، قائد الفاطميين دلتا النيل فى ربيع 358 هـ/ 969 م؛ وفى شعبان 358 هـ/ يوليو 969 م، احتل الفسطاط.
وإلى شمال شرقى الفسطاط، أسس جوهر مدينة عسكرية، سُميت بالمنصورية، ثم سمَّاها المعز بالقاهرة. وأسس جوهر جامع الأزهر، ليكون مركزًا للمذهب الإسماعيلى الشيعى، بينما ظلت الفسطاط، وجامع عمرو العتيق قلعة للمذهب السُنى.
وكان غالبية سكان مصر آنذاك لا يزالون مسيحيين ويتحدثون باللغة القبطية، واحتل الكتاب الأقباط أهم مناصب الدولة الادارية، وبخاصة فى عهد الخليفة العزيز باللَّه (365 - 386 هـ/ 975 - 996 م). وجرت محاولة من قبل الخليفة الحاكم بأمر اللَّه لإحلال كتاب مسلمين مكان الكُتاب المسيحيين ولكنها باءت بالفشل، وحاول الحاكم بأمر اللَّه إجراء تمييز لليهود والنصارى فى الملبس والمسكن والركوب، كذلك نُسب إليه هدم بعض الكنائس والأديرة المسيحية وبعض معابد اليهود.
هذا ولم يحاول الفاطميون على الإطلاق فرض مذهبهم الإسماعيلى على المصريين، لكنهم دعوا لهذا المذهب بطريقة منتظمة فى كل أقاليم الإمبراطورية. وإلى جانب كل قاضٍ كان هناك داعٍ إسماعيلى. على أن نجاح الدعوة الإسماعيلية بدا سريع الزوال، واختفى المذهب الإسماعيلى سريعًا بعد سقوط دولة الفاطميين.
وقوبل ادعاء الخليفة الفاطمى السيادة العالمية بحقيقة الوضع السياسى العالمى، إذ كانت قوة الفاطميين من الضعف بمكان لدحر خلافة بغداد العباسية، فى الوقت الذى فقدت سيطرتها على شمال أفريقيا وصقلية.
وبرغم ذلك، فإن مصر تحت حكم كل من العزيز والحاكم والظاهر (411 - 427 هـ/ 1021 - 1036 م) والمستنصر (727 - 487 هـ/ 1036 - 1094 م) لعبت دورها كقوة رئيسية هامة نجحت فى التغلب على الدولة
البيزنطية فى البر وفى البحر، فى جنوب إيطاليا وكذلك فى شمال سوريا. وقاوم الفاطميون المحاولات المتكررة من جانب البيزنطيين لاستعادة سيطرتهم على سوريا (من 354 هـ/ 965 م فصاعدًا) وفى سنة 429 هـ/ 1038 م عُقدت معاهدة سلام لمدة ثلاثين عامًا وجُددت سنة 440 هـ/ 1048 م.
وبرغم أن المغرب قد نجح، بداية من سنة 443 هـ/ 1051 م فصاعدًا، فى الخروج عن سيادة الفاطميين تحت حكم بنى زيرى، إلا أن مصر أحكمت سيطرتها على البحر الأحمر، وظلت المدن المقدسة تحت حماية الفاطميين منذ بداية حكمهم، وتعهدت بإرسال الحبوب إليها بصفة منتظمة.
ومن سنة 439 هـ/ 1047 م فصاعدًا، حكم الفاطميون اليمن بمساعدة الصليحيين، سلالة الدعاة الإسماعيليين، الذين تحكموا فى طريق التجارة بين المحيط الهندى والبحر المتوسط عن طريق البحر الأحمر. وعلى هذا النحو أصبحت مصر مركز التجارة العالمية.
وقد تكوَّن الدخل الأساسى للدولة الفاطمية، إلى جانب الخراج، من رسوم الجمارك المحصلة على التوابل وعلى سائر أصناف الكماليات المستوردة من الهند والشرق الأقصى. إضافة إلى أن مصر كانت قد تحكمت فى جلب ذهب السودان وأنها قامت بتصدير المواد الخام التى ازداد الطلب عليها فى أوروبا، مثل الشب، والمنسوجات الصوفية الفاخرة (التى تنتج فى الصعيد) والمنسوجات الكتانية (من دمياط وتنيس)، والحرير والديباج وأنواع الأوانى الزجاجية الفاخرة التى توجد حاليًا كميات كبيرة منها فى المتاحف وذخائر الكنائس الأوربية، وكان الرحالة الفارسى ناصرى خسرو شاهد عيان لفخامة مصر، عندما زار القاهرة سنة 439 هـ/ 1047 م وترك لنا وصفا للمدينة وهى فى كامل ازدهارها. وأدى مركز مصر السائد فى التجارة العالمية إلى توافد التجار الأوربيين عليها. وفى بداية سنة 828 م اشترى البنادقة (أو بالأحرى سرقوا) مخلفات القديس مرقص المحفوظة فى الإسكندرية. ومنذ مطلع القرن السادس
الهجرى/ الثانى عشر الميلادى، تواجد الجنويون فى الاسكندرية، وورد ذكر فندق البيازنة فى الإسكندرية لأول مرة زمن الخليفة الظافر (544 - 549 هـ/ 1149 - 1154 م) وفى سنة 537 هـ/ 1143 م عقد الخليفة الحافظ معاهدة تجارية مع ملك صقلية النورماندى، روجر الثانى.
وبدأ استقرار مصر يتقلقل وازدهارها يتداعى، منذ عام 444 هـ/ 1052 م فصاعدًا وثانية من عام 457 هـ/ 1065 م فصاعدًا، بسبب نقص الفيضان الذى سبب تناقصًا فى الطعام ثم المجاعة التى تلاها اكتساح البلاد بوباء الطاعون. فنهبت قصور الخليفة، وأصاب الناس الهلع وكثر عدد الموتى. ولم ينقذ الفاطميين سوى مجئ بدر الجمالى، الأرمنى المسيحى، الذى استدعاه الخليفة المستنصر من عكا إلى القاهرة شتاء 466 هـ/ 1073 - 1074 م، والذى استطاع إعادة النظام إلى البلاد والتغلب على "الشدة المستنصرية". وبدر الجمالى هو الذى أمَّن القاهرة ببنائه فى سنة 480 هـ/ 1087 م التحصينات الجديدة ذات الثلاثة الأبواب (التى لا تزال قائمة) من باب زويلة إلى الجنوب وباب النصر وباب الفتوح إلى الشمال. ومن سنة 464 هـ إلى سنة 515 هـ/ 1074 - 1121 م، حكم بدر الجمالى (ت 487 هـ/ 1094 م) وابنه وخليفته الأفضل بسلطة فعلية مطلقة، وقد جمع كل منهما بين وظيفة الوزير المدنية ووظيفة أمير الجيوش العسكرية. وقام بدر وابنه بجلب أعداد كبيرة من الأرمن المسيحيين إلى مصر. وأعطى حكم بدر وابنه فرصة فترة استقرار داخلى وازدهار اقتصادى للبلاد.
وحرم الغزو السلجوقى لسوريا، من 642 هـ/ 1069 - 1070 م فصاعدًا، وتأسيس الإمارات الصليبية على الساحل السورى وفلسطين (1098 - 1099 م)، مصر من ممتلكاتها فى سوريا وحائط دفاعها الطبيعى. وفى سنة 526 هـ/ 1132 م حدث انقسام دينى فى اليمن أدى إلى عودة الصليحيين إليها، ومن سنة 462 هـ/ 1081 م فصاعدًا (وأخيرًا فى سنة 473 هـ/ 1081 م) خضعت مكة
لنفوذ السلاجقة واعترفت بسيادة الخلافة العباسية. وتقلصت الدولة الفاطمية آنذاك إلى حدودها الطبيعية فى مصر وعانت تقلصًا سريعًا فى قوتها. وباغتيال الأفضل تدهور الوضع فى البلاد وصارت مصر مطمعًا لجيرانها المسلمين والمسيحيين. وعقد الإمبراطور البيزنطى مانويل مع ملك بيت المقدس المسيحى اتفاقًا يقضى بتعاونهما على احتلال مصر، وهو مشروع لم يتم تحقيقه؛ وفى ثلاث مناسبات تدخل أمارليك، ملك بيت المقدس، فى مصر بجيش صليبى ليمنع اغتصاب أمير حلب نور الدين محمود للبلاد (1162، 1164، 1167 م)؛ ولكن عندما ظهر الملك الصليبى فى مصر للمرة الرابعة، بهدف احتلال البلاد، صارت للسوريين اليد العليا؛ وفى سنة 564 هـ/ 1169 م دخل القائد شيركوه القاهرة على رأس جيش سورى ونصب نفسه وزيرًا للخليفة الفاطمى العاضد. وبعد موت شيركوه، الذى وقع يوم 22 جمادى الآخرة 564 هـ/ 23 مارس 1169 م، خلفه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب فى الوزارة، وهو الذى خلع الخليفة الفاطمى العاضد، آخر خلفاء الفاطميين، من الخلافة، وكان يبلغ من العمر آنذاك تسع سنوات، وجعل الخطبة باسم الخليفة العباسى المستضئ. وتوقف الأذان بالطريقة الإسماعيلية، وأوقفت مجالس الحكمة، وعادت البلاد إلى المذهب السُنى.
4 -
الفترة الأيوبية 1171 - 1250 م:
كانت دمشق، تحت حكم صلاح الدين، العاصمة الأولى لدولة الأيوبيين وهجرت قاهرة الفاطميين، وحين زار السلطان الأيوبى القاهرة، أقام فى القلعة التى بُنيت بعد سنة 579 هـ/ 1183 - 1184 م. وبعد موت صلاح الدين (589 هـ/ 1193 م)، حكم فرع العائلة الأيوبى مصر. وظلت بقية الممالك الأيوبية المختلفة فى إقليم الجزيرة وسوريا ومصر مرتبطة مع بعضها، بروابط عائلية، وشكلت الإمبراطورية الأيوبية ما يشبه الاتحاد الكونفيدرالى العائلى. ولقد كان نظام الإقطاع العسكرى المطبق فى سوريا منذ حكم السلاجقة هو التجديد
الجوهرى الوحيد الذى أخذ به صلاح الدين. وفى سنة 572 هـ/ 1176 م أمر السلطان بعمل (روْك) جديد، وهو مسح للأراضى، وكان الهدف منه قياس مساحة كل الأراضى فى مصر، ليعئيئ قيمتها بصدد الخراج ولتوزيعها على ضباطه وجنوده (كإقطاع)، كبديل لرواتبهم. ولقد ألُغى نظام (القبالة) الفاطمى، وهى (المقابل) الذى كان الفلاح يدفعه ضريبة عن أرضه بدلا من الخراج. ووُضع روْك صلاح الدين موضع التنفيذ سنة 577 هـ/ 1181 م. ووفقًا لحسابات (متجددات) وزيره القاضى الفاضل فإن قيمة الأرض التى تحولت من أرض خراج إلى أرض إقطاع ارتفعت قيمتها ذلك العام إلى 3.670.500 دينار.
وأبقى الأيوبيون على تقسيم مصر الإدارى الفاطمى؛ وأورد ابن مماتى فى كتابه (قوانين الدواوين) قائمة مكتملة بمقاطعات وقرى البلاد، وفى سنة 585 هـ/ 1189 م وضع القاضى الفاضل قائمة لدخل مقاطعات مصر، بلغت القيمة الكلية له 4.643.019 دينار، ولما كان دخل الخراج قد خرج آنذاك من تحت يد بيت المال، فقد اضطرت الحكومة المركزية أن تحتفظ لنفسها بجانب من أرض الإقطاع أعتبرت ملكًا للحاكم. وأورد القاضى الفاضل دخل هذه الأراضى الخاصة فى السنتين الأخيرتين من حكم صلاح الدين (587 - 589 هـ/ 1191 - 1193 م) فوجد أن قيمتها تقريبًا ما بين 354.444 و 354.450 دينار.
وتكون سلاح الفرسان الذى قام صلاح الدين بتعبئته من مرتزقة أحرار، كانوا فى غالبيتهم من أصل كردى مثل السلطان نفسه. وبدأ السلطان الملك الصالح فى شراء بعض الأطفال الأتراك وأسكنهم فى جزيرة الروضة ليدُربوا تدريبا عسكريًا وليقوموا بالخدمة كحرس سلطانى. وكان هؤلاء هم المماليك الذين نجحوا فى سنة 650 هـ/ 1252 م فى وضع نهاية حكم بيت سلاطين الأيوبيين.
ومثلما فعل الفاطميون، فإن الأيوبيين نظموا التجارة بين المحيط الهندى والبحر المتوسط. على أن ظهور
الصليبيين فى فلسطين والأردن هدد طريق البحر الأحمر البحرى كما هدد طرق الحج. وأدى ذلك إلى ازدهار ثغر عيذاب على ساحل البحر الأحمر (مقابل جدة)، الذى يتصل بمصر عبر طريق صحراوى ينتهى فى وادى النيل، أولًا عند أسوان وأخيرًا عند قوص. وفى سنة 578 هـ/ 1183 م سار الرحالة الأندلسى "ابن جبير" فى طريق حجه فى هذا الطريق وقام بوصفه فى كتاب رحلته. وازدادت العلاقات التجارية بين مصر والغرب فى العصر الأيوبى. وأعطى صلاح الدين تصريحًا لدوق البندقية سباسيتانوزانى (1172 - 78 م) الحق فى إقامة فندق للبنادقة فى الاسكندرية؛ وفى سنة 1177 م، وعقد معاهدة تجارية مع جمهورية جنوه بأن يكون لها تمثيل قنصلى فى الاسكندرية؛ وفى سنة 1207 م أبرم الملك العادل معاهدة مع مدينة بيزا. ولكن فى السنوات ما بين 615 - 618 هـ/ 1218 - 1221 م قامت الجمهوريات الايطالية الثلاث بمساعدة الصليبيين فى دمياط الذين كانوا يستهدفون غزو مصر وفرض سيطرة مباشرة على التجارة ما بين البحر المتوسط والبحر الأحمر؛ ولكن فشل المغامرة وضع نهاية لهذه المشروعات.
5 -
الفترة المملوكية 1250 - 1517 م:
قام القاضى والمؤرخ المصرى أبو حامد القُدسى (ت 888 هـ/ 1484 م) بتلخيص وضع مصر الذى وصلت إليه وتطورت خلال قرنين من حكم المماليك مقارنة بالعالم المعاصر لها آنذاك بوصفه بأنها بيضة (أى قلب) الإسلام ومقعد الأمامة، وفى هذا التقرير المختصر لخص الكاتب ثلاثة تطورات هامة فى تاريخ البلاد تتصل جميعها بقيام حكم دولة المماليك فى مصر فى منتصف القرن السابع الهجرى/ الثالث عشر الميلادى. وأصبحت مصر مع انضمام الشام لها، قوة مسيطرة ناهية فى الشرق الأدنى ودان لها الحجاز مدة قرنين ونصف من الزمان، كذلك حافظت على حدودها فى الغرب مع برقة وفى الجنوب مع النوبة.
وغدت مصر نفسها حصنًا لثقافة المذهب السُنى والمحافظة الدينية وشهد العهد المملوكى انتقال مقر الخلافة من
بغداد إلى القاهرة مما حفظ للخلافة مكانها وأعطى الشرعية لحكم المماليك الذين اعتبروا حماة الرعية فى مصر وسوريا والمدافعين عنهم ضد أعداء الدين وخاصة ضد المغول. كذلك فإن كفاءة المماليك العسكرية سمحت لهم باقتلاع بقايا الوجود الصليبى من بلاد الشام. وعزز هذا الإنجاز العظيم دعواهم بأنهم ورثة الزنكيين والأيوبيين الذين أذكوا روح الجهاد ضد الغزو الصليبى للمنطقة.
وكان السلطان الملك الصالح أيوب قد جلب إلى مصر رقيق القبجاق من الأراضى شمال وشرق البحر الأسود بأعداد كبيرة، وأسكنهم فى جزيرة الروضة الحصينة على النيل، حيث أسس قلعته الجديدة هناك، وبذلك كوَّن لنفسه فرقة مسلحة موالية لشخصه وليس للبيت الأيوبى ككل، هذا البيت الذى انقسم على نفسه بعد وفاة صلاح الدين.
ونجح المماليك فى سنة 648 هـ/ 1250 م فى تولى زمام أمور السلطة السياسية فى مصر. وعجلت حادثة واحدة بهذا الإجراء، وهى انتصارهم فى المنصورة على قوات الصليبيين بقيادة القديس لويس التاسع فى ربيع 648 هـ/ 1250 م. ووقع هذا النصر فى الفترة التى تُوفى فيها الملك الصالح، وانتظار ابنه وولى عهده المعظم توران شاه ليتولى الحكم بعد قدومه من حصن كيفا على نهر دجلة. وتولت الحكم فى مصر شجرة الدر زوجة الملك الصالح، بعد قتل المماليك لتوران شاه، ثم تنازلت شجرة الدر عن الحكم لزوجها الأتابك أيبك التركمانى، أحد قواد الصالح أيوب.
ويعتبر معظم المؤرخين لمصر الإسلامية أن حكم أيبك هو حكم أول سلاطين المماليك للبلاد.
وفى العقد الأول لحكم المماليك لمصر، جرت محاولات من جانب حاكم حلب الملك الناصر يوسف الثانى، لغزو مصر. وتعرض قائد البحرية الفارسى أقطاى للقتل على يد سيف الدين قُطز بإيعاز من أيبك. ويُعتبر بيبرس البندقدارى الذى عُرف فيما بعد بالظاهر بيبرس المؤسس الحقيقى لدولة
المماليك، وتسببت الحرب مع المغول فى عقد المصالحة بين قواد المماليك. وسمح قطز لبيبرس وزملائه، الذين كانوا قد هربوا إلى سوريا، بالمشاركة فى قتال المغول وفى معركة عين جالوت الشهيرة (25 رمضان 658 هـ/ 3 سبتمبر 1260 م) التى وقعت فى فلسطين، حقق جيش المماليك الموحَّد بقيادة قطز وبيبرس الانتصار على قوات كتبغا، قائد هولاكو. ونتيجة لهذه المعركة تم تحرير دمشق وحيل بين المغول وغزوهم لمصر تمامًا.
ولم يجن قطز ثمار نصره، إذ قام بيبرس بقتله أخذًا بالثأر للقائد أقطاى. ودخل بيبرس القاهرة وهو يضع على رأسه إكليل الغار سلطانًا على مصر. وحكم بيبرس فى الفترة ما بين سنوات 658 - 676 هـ/ 1260 - 1277 م. ونجح بيبرس فى إحياء الخلافة العباسية ونقل مقرها إلى مصر، حيث ظلت هنالك قائمة حتى الفتح العثمانى لمصر سنة 923 هـ/ 1517 م.
وفى عهد بيبرس توسعت حدود مصر بالتدريج غربًا وجنوبًا. فحين
أبحر الملك الصليبى لويس التاسع، بعد هزيمته فى مصر، إلى تونس 668 - 669 هـ/ 1270 م طلب حاكم تونس الحفصى المساعدة من المماليك، ولقد اتُخذت إجراءات مبدئية نحو إقامة خطط دفاعية للجيش المصرى الذى أرسله المماليك إلى الغرب. وفى مملكة النوبة وقعت مشاكل أسرية أعطت لبيبرس الفرصة للتدخل وإخضاع أراضى الشلال الثانى للنيل للوضع الإقطاعى، ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا نقرأ فى المصادر أن مملكة المماليك امتدت من الفرات إلى دنقلة.
واستمرت سياسة بيبرس الناجحة بعد وفاته سنة 676 هـ/ 1277 م، دون أى تغيير مميز. وساعد السلطان قلاوون (678 - 689 هـ/ 1279 - 1290 م)، الذى ورث أبناؤه السلطنة عنه، على دمج نظام المماليك السياسى مع نظامهم العسكرى.
ومن أهم أعمال هذا السلطان، أنه كان أول من جلب المماليك الجركس إلى مصر سنة 708 - 709 هـ/ 1309 - 1310 م ليؤدوا دورهم القيادى فى
الجيش والدولة. واستولى قلاوون وابنه الأشرف الخليل (689 - 693 هـ/ 1290 - 1293 م) على آخر قلاع الصليبيين، طرابلس وعكا. كذلك تقدمت مواجهته لحدود مملكة إرمينيا المتقلصة وللإمبراطورية الايليخانية على الفرات، خلافًا لذلك، وأدى قلاوون واحبابة كحاكم مسلم ملتزم غاية فى الالتزام. وأنشا البيمارستان المنصورى، فى وسط القاهرة فى موقع قصر من قصور الفاطميين. وخلف الملك الناصرى محمد أخاه الأشرف خليل على عرش السلطنة، وتولى الناصر السلطنة ثلاث مرات، كان آخرها فى الفترة ما بين 709 - 741 هـ/ 1310 - 1341 م. وفى سنة 723 هـ/ 1323 م، وقعت معاهدة سلام بين المماليك وبوسعيد الايليخان المغولى. وقام الناصر محمد بفرض السيادة المصرية على حكام بنى رسول فى اليمن، كما تثبتت المغارز المملوكية فى المواقع الاستراتيجية فى شبه الجزيرة العربية. وقام السلطان الناصر محمد بإلغاء وظيفة نائب السلطان مما يشير إلى سلطته المطلقة فى حكم البلاد.
وفى تتابع سريع، تناوب عرش السلطنة ثمانية من أبناء الملك الناصر واثنان من أحفاده واثنان من أبناء أحفاده فى الفترة ما بين سنوات 741 - 792 هـ/ 1341 - 1392 م. وحكم غالبيتهم دون أن يبلغوا سن الرشد، وكان معظمهم مجرد دمى فى أيدى القواد الأقوياء أمثال: قوصون، وأرجون العلائى، وصرغتمش، ويلبغا ومنتاش. وينفرد بين هؤلاء السلاطين الملك الناصر حسن بالشهرة بسبب مدرسته الشهيرة التى ابتناها أسفل القلعة والتى تُعد من أبرز الآثار المعمارية المملوكية.
وكان النصف الثانى من القرن الثامن الهجرى/ 14 م فترة هدوء نسبى لمصر عمومًا وللدولة المملوكية خصوصًا فى علاقاتها مع القوى الأجنبية. فقد خفف تزايد الاضطراب فى الدولة المغولية الايليخانية وفى ولاياتها التابعة لها الضغط على حدود دولة المماليك.
وجاء التهديد الأكبر لدولة المماليك من ناحية الشرق حين غزا تيمورلنك
بلاد الشام فى سنة 803 هـ/ 1400 م، واستولى على حلب وحماة ودمشق دون مقاومة تذكر. وقام تيمورلنك بتخريب البلاد التى سقطت فى يده وقتل أهلها وتدمير منازلها وترحيل الحرفيين منها إلى عاصمته سمرقند. وكانت هذه الضربات التتارية الجديدة بداية النهاية لدولة المماليك فى الشام ثم فى مصر.
وتزامن مع هذا الهجوم المغولى قيام دولة المماليك البرجية فى مصر على يد برقوق الجركسى سنة 792 هـ/ 1390 م، وهى التى عرفت أيضًا بدولة سلاطين المماليك الجراكسة (الأفخاذ). وكان فرج بن برقوق، أحد أهم سلاطين هذه الدولة، وبوفاته لم يعد عرش السلطنة وراثيًا فى دولة المماليك. وكان النظام المتبع فى ولاية عرش السلطنة أن يتولى ابن السلطان المتوفى لفترة مؤقتة حتى يخرج عليه رجل قوى ينتزع السلطة منه. وقد خلف المؤيد شيخ فرج بن برقوق على عرش السلطنة، وكان رجلًا تقيًا عالمًا ورعًا. وكانت له (خانقاه) خاصة به يخلو بنفسه فيها إلى جوار باب زويلة.
وشهدت مصر فى عهد سلطنة الأشرف برسباى (825 - 841 هـ/ 1422 - 1438 م) فترة هدوء داخلية وازدهار اقتصادى، وتجددت فى عهده السيطرة على غرب الجزيرة العربية وعادت كما كانت قبل ذلك بقرن من الزمان أيام حكم السلطان الناصر محمد بن قلاوون. وصار بندر جدة، فى عهد هذا السلطان، المركز التجارى الرئيسى لسفن تجارة الهند والشرق الأقصى المحملة ببضائع غالية الثمن والمتجهة إلى مصر بدلًا من ميناء عدن. ووضع برسباى هذا الميناء تحت سيطرة السلطان مباشرة، ورصد هنالك حامية عسكرية لحمايتها وحماية تجارة البحر الأحمر ذات الأرباح الوفيرة.
وكان تجار الكارم يسيطرون على تجارة العبود هذه بين الشرق والمغرب منذ عهد الفاطميين والأيوبيين، لكن برسباى احتكر هذه التجارة لصالحه
دون تجارة الكارم. وأجبر برسباى التجار الأوربيين على شراء ما يحتاجونه من سلع الشرق من متجر السلطان فى الإسكندرية وبالأسعار التى يحددها. وفى بداية سنة 825 هـ/ 1423 م، أخضع برسباى صناعة السكر المصرى لسيطرة الدولة، مما أضر بمصالح القائمين بأمر هذه الصناعة من أبناء الشعب.
وعقب موت برسباى، تولى جقمق عرش السلطنة، ثم تولاه من بعده اينال (841 - 865 هـ/ 1438 - 1461 م)، ويعدان آخر جيل مماليك برقوق (الخاصكية). وفى عهد حكمهما، عانت البلاد من تدخل قوة الأتراك العثمانيين.
وجاءت نهاية دولة المماليك الجراكسة على يد العثمانيين، وذلك حين تقدم السلطان العثمانى سليم الأول لغزو سوريا سنة 922 هـ/ 1516 م، وقام خاير بك، حاكم حلب، بالدفاع عنها لكنه لقى الهزيمة على يد قوات العثمانيين. وتُوفى السلطان قنصوه الغورى، خلال الحرب مع العثمانيين فى معركة مرج دابق. وتتبع السلطان سليم قوات خاير بك المنهزمة إلى مصر، وفى مصر انتخب طومان باى سلطانًا فى أحلك الظروف. وتصدى طومان باى لقوات العثمانيين لكن قواته لاقت هزيمتين إحداهما فى الريدانية والأخرى عند الجيزة، ووقع طومان باى أسيرًا فى يد العثمانيين الذين قاموا بقتله وتعليق جثته على باب زويلة. وبذلك زالت دولة المماليك وانتهى فصل رائع من فصول تاريخ مصر، وانقضى تاريخ هؤلاء الأبطال الذين خلفوا لنا آثارًا خالدة لا زالت تشهد على عظمتهم وشدة بأسهم حتى اليوم.
6 -
الفترة العثمانية 1517 - 1798 م:
استولى سليم الأول على مصر (29 ذى الحجة 922 هـ/ 23 يناير 1517 م)، وبذلك صارت مصر ولاية عثمانية تُحكم من استانبول. وتولى أمر حكم مصر ولاة عثمانيون يساعدهم مجلس من الأعيان (الديوان). وانقسم المجتمع المصرى، خلال الحكم العثمانى
- المملوكى إلى طبقتين: طبقة حاكمة وطبقة محكومة تضم غالبية الشعب المصرى. وتزاوج بعض رجال الحامية العثمانية (الأوجاك) من المصريات الأمر الذى أدى إلى إنجاب أبناء متمصرين (مصرلية).
ومن المحتمل أن يكون تجار القاهرة وحرفيوها قد جندوا بأعداد كبيرة، خاصة فى فرق الإنكشارية والعزبان، وكانت الدولة فى حاجة لجهودهم العسكرية.
وظهرت طبقة البكوات فى مصر، التى حلت محل كبار أمراء سلاطين المماليك، ولم تستحوذ على إقطاعات ولكنهم كانوا يتقاضون أجورهم كضباط وجمعوا لأنفسهم مؤخرًا ثروات طائلة من وراء نظام الالتزام. وفى القرنين التاليين صار بكوات المماليك أفراد بيت عسكرى قوى، وبخاصة جماعة الذولفقارية، والقاسمية، والقادوغلية. وقاموا بقيادة القوات المحاربة وأصبحوا "سرداريين"، وحكامًا للولايات، وتولوا مناصب: الدفتردارية وإمارة الحج والقائمقامية.
وفى ظل هذا النظام ضعُفت شخصية الوالى العثمانى، الذى عادةً ما يكون غريبًا عن القطر الذى يقوم نيابة عن السلطان. وكان كل همّ الوالى هو جمع الضريبة السنوية (الإرسالية) المفروضة على الولاية وإرسالها إلى خزانة السلطان، وجمع ثروة خاصة له يسدد منها تكاليف حصوله على المنصب الذى يشغله -وكانت تلك مهمة الملتزمين الذين عليهم أن يجمعوا أكبر قدر ممكن من الأموال للوالى من المزارعين. وحدث فى سنة 994 هـ/ 1586 م تمرد عسكرى فى البلاد بسبب اختلاس الوالى العثمانى لأموال الإرسالية وتأخره عن دفع مستحقات الحامية العثمانية. وأدى هذا الحادث إلى سلسلة تمردات أخرى بلغت مداها فى سنة 1013 هـ/ 1605 م بقتل المتمردين للوالى العثمانى. وبرغم اتخاذ السلطات العثمانية عدة تدابير مشددة فى الفترة ما بين سنوات 1016 - 1020 هـ/ 1607 - 1611 م، إلا أن هذه التدابير لم تُعد للوالى
سيطرته على البلاد. ومنذ ذلك التاريخ فصاعدًا أصبح الولاة العثمانيون يعتمدون فى حفاظهم على منصبهم على الإيقاع بين أمراء المماليك بعضهم وبعض. وخلال القرن الثانى عشر الهجرى/ الثامن عشر الميلادى أصبحوا بالفعل سجناء القلعة، يلقون رضاء أمراء المماليك أحيانا ويطردون من القلعة معزولين محتقرين على أيديهم فى بعض الأحيان الأخرى.
وأصبح بكوات المماليك فى منتصف عقود القرن الحادى عشر الهجرى/ السابع عشر الميلادى العنصر البارز فى السياسة المصرية. ففى سنة 1040 هـ/ 1631 م قاموا بعزل والٍ عثمانى تسبب فى مقتل واحد من جماعتهم، كذلك تقلد هؤلاء البكوات منصب القائمقام، وتولوا إمارة الحج. وتقاسم بيت الفقارية وبيت القاسمية باكوية المماليك، وكان الأوائل جراكسة والآخرون بوسنيين. وتقلد رضوان بك زعيم الفقارية إمارة الحج بصفة دائمة مدة ربع قرن من الزمان (1041 - 1066 هـ/ 1631 - 1656 م). وتدهور أمر البيت الفقارى بعد وفاته، ووقع صراع بين هذا البيت وبيت القاسمية انتهى بانتصار القاسمية فيما عُرف "بواقعة السناجق".
وترأس السنجق أحمد بك بيت القاسمية، وتوقف بكوات المماليك آنذاك عن الاعتراض على سلطة الوالى العثمانى وتفرغوا للسيطرة على مناصب الدولة الهامة ووظائفها الإدارية والعسكرية، فى الوقت الذى بلغت فيه فرق الانكشارية أقصى مكانة لها فى البلاد.
وبعد 32 عامًا تزعم فيها بيت القاسمية باكوية المماليك، نجح البيت الفقارى فى انتزاع هذه السيادة له وتولى رجاله معظم وظائف الدولة الهامة، واستمر الحال على ذلك حتى سنة 1123 هـ/ 1711 م حين نجح القاسمية فى إحراز النصر على الفقارية واستعادة سيادتهم وسيطرتهم على البلاد، وصارت فى أيديهم الرئاسة الحقيقية رغم وجود نظام الحكم القديم على ما عليه بوجود الوالى والديوان. وبعد سنة 1168 هـ/
1754 م صار البك المملوكى يجمع بين البكوية ومنصب حاكم القاهرة "شيخ البلد". وشكَّل بكوات المماليك جمعية لهم كانت لها السلطة الفعلية فى حكم البلاد دون الديوان العثمانى. وصار رؤساء الصعيد، برئاسة الشيخ همام ابن يوسف الهوارى، أحلافًا للقاسمية. وكانت السلطة العليا فى الصعيد قد صارت للشيخ همام منذ سنة 1153 هـ/ 1741 م فصاعدًا.
ونازع بيت القازوغلية البيت القاسمى على مشيخة البلاد ومناصب الدولة العليا، منذ منتصف القرن 12 هـ/ 18 م، واستحوذوا على السلطة فى البلاد حتى مجئ الحملة الفرنسية إلى مصر. وكان القازوغلية قد دخلوا فيما بينهم فى صراعات عائلية انتهت سنة 1168 هـ/ 1754 م بعد موت زعيمهم إبراهيم بك كخيا إلى ظهور على بك الكبير، الذى حكم مصر حكمًا مطلقا وانفرد بحكمها بعد أن تغلب على قوة همام حاكم الصعيد سنة 1183/ 1769 م. واتجه على بك بأنظاره إلى آفاق التوسع الخارجى ففتح الحجاز سنة 1184 هـ/ 1770 م. وأرسل بعد ذلك قائده المملوكى المخلص محمد أبو الدهب لفتح الشام سنة 1185/ 1771 م. لكن أبا الدهب، بعد أن استولى على دمشق، عاد إلى القاهرة وانقلب على سيده على بك وقام بنفيه إلى الشام فى العام التالى. وحاول على بك أن يستعيد سلطانه لكنه فشل فى ذلك وألقى القبض عليه وتوُفى سنة 1187 هـ/ 1773 م متأثرًا بجراحه. واستمر أبو الدهب فى حكم البلاد، إلا أنه توفى سنة 1189 هـ/ 1775 م أثناء قيامه بحملة ضد ضاهر العمر حاكم فلسطين.
وشهد العقد التالى صراعًا للاستحواذ على السلطة فى مصر بين آخر بكوات القازوغلية إسماعيل بك واثنين آخرين من بكوات المماليك وهما إبراهيم بك ومراد بك. وظل الصراع قائمًا بين الطرفين حتى مجئ الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون
بونابورت واحتلالها لها سنة 1213 هـ/ 1798 م.
7 -
فترة التاريخ الحديث الأولى 1798 - 1882 م
(أ) الاحتلال الفرنسى 1798 - 1801 م:
فى الليلة الأولى من شهر يوليو 1798 م، رسى فيلق حربى فرنسى بقيادة الجنرال نابليون بونابورت فى مياه غرب ميناء الاسكندرية، بهدف احتلال مصر وتهديد طريق الانجليز إلى مستعمراتها فى الهند. وهزمت القوات الفرنسية الجيش المملوكى، الذى كان يقوده مراد بك فى معركة الأهرام (يوم 21 يوليو)، وانتهى بذلك حكم دولة المماليك فى مصر. وأقام الفرنسيون لهم إدارة جديدة لحكم البلاد، فى الوقت الذى بحثوا فيه عن كسب تعاون المصريين معهم من خلال إنشاء ديوان يُشكل من أعيان البلاد فى القاهرة والأقاليم يشاركهم فى الحكم. إلا أن المصريين لم يتقبلوا الاحتلال الفرنسى وثاروا ضده فى القاهرة لأول مرة (يوم 21 أكتوبر 1798 م)، ثم تلا ذلك ثورات أخرى ضدهم فى معظم أرجاء البلاد.
ولم تتح أى فرصة للفرنسيين كى يقوموا بتقوية حكمهم فى البلاد، بسبب تربص الأسطول البريطانى لهم وتحطيم أسطولهم فى مياه أبى قير فى معركة أبى قير البحرية. وبعد فشل حملة أرسلها نابليون إلى سوريا، عاد إلى فرنسا، فى 23 أغسطس 1799 م، تاركًا قيادة الحملة لقائده عبد اللَّه مينو، الذى اعتنق الإسلام وتزوج من زبيدة المصرية الرشيدية. وأصبحت مهمة مينو هى إعادة رجال الحملة سالمين إلى فرنسا، وقد تم بالفعل رحليهم النهائى عن الاسكندرية فى 2 سبتمبر 1801 م. ومن أهم إنجازات الحملة الفرنسية على مصر إنجازها كتاب "وصف مصر"، الذى تناول دراسة مختلف نواحى الحياة فى البلاد، وكشف حجر رشيد الذى حل رموز اللغة الهيروغليفية المصرية القديمة. وليس حقيقة ما يُدعى من أن هذه الحملة قد تسبب فى حدوث كل التطورات الحديثة فى مصر، لكنها فى
الحقيقة هى وضعت البلاد فى المواجهة المباشرة مع الحضارة الغربية، وأنها أدخلت مصر فى فلك لعبة السياسة الأوربية والاستعمار الأوربى.
(ب) الفترة العثمانية الانتقالية؛ محمد على (1805 - 1848 م):
بعد انسحاب الفرنسيين من مصر، حاول العثمانيون من ناحية والمماليك من ناحية أخرى الاستحواذ على الحكم، بينما قررت بريطانيا فرض نفوذها على مصر. وظهرت على السطح فى مصر آنذاك جماعة "علماء" القاهرة الذين أحرزوا مكانة مهمة أثناء الاحتلال الفرنسى وقيادتهم الشعب فى ثوراتهم ضده. والتف العلماء حول محمد على الضابط المقدونى الطموح، الذى وفد على مصر صحبة القوات العثمانية سنة 1801 م. وفى 13 مايو 1805 م، أعلن العلماء بقيادة عمر مكرم نقيب الأشراف وعبد اللَّه الشرقاوى شيخ الجامع الأزهر، عزل الوالى العثمانى خورشيد باشا وتقليد محمد على سلطات الوالى. واضطر الباب العالى أن يرضخ لإرادة الشعب المصرى ورضى عن اختياره لمحمد على واليًا عليهم. وأشرك محمد على العلماء معه فى السلطة بادئ الأمر، لكنه سرعان ما استبد بالحكم وتنكر للشعب الذى اختاره بإرادته، وتخلص محمد على من قيادة الشعب المصرى بإبعاده السيد عمر مكرم سنة 1809 م عن البلاد. ونجح محمد على فى التخلص من نفوذ المماليك فى الصعيد، ثم قام بتدبير مذبحة القلعة الشهيرة فى أول مارس 1811 م التى قضى فيها على معظم أمرائهم. ومنذ ذلك التاريخ أصبح هو السيد الوحيد الحاكم فى مصر مع الاعتراف بتبعيته للباب العالى.
وقام محمد على بعدة حملات عسكرية خارج مصر، شنها أولًا باسم السلطان العثمانى، ثم واصل أمرها بهدف توسعة مملكته. فأرسل سنة 1811 م حملة إلى الجزيرة العربية ضد الحركة الوهابية، وهزم قواتها فى الدرعية سنة 1818 م، وفرض السيادة المصرية على شبه الجزيرة العربية حتى بداية الأربعينيات. وفى سنوات 1820 - 1821 م استولت قواته على
السودان حتى خط الاستواء، ثم استولت على موانى سواكن ومصوع، بعد ذلك، سنة 1840 م.
ولمَّا بدأت حرب الاستقلال اليونانية سنة 1821 م، وطلب السلطان العون من واليه المصرى، سارت القوات المصرية لقمع التمرد على السلطان فى كريت وقبرص سنوات 1822 - 1823 م. وفى فبراير 1825 م نزلت هذه القوات فى شبه جزيرة المورة واحتلت غالبيتها آخر ذلك العام. واحتلت القوات المصرية ميسلون، شمال خليج كورنثة سنة 1826 م. وبعد أن حطم الإنجليز والفرنسيون والروس الأسطول العثمانى المصرى فى معركة نافارينو (فى 20 أكتوبر 1827 م)، قرر محمد على إنهاء مشاركته فى هذه الحرب وتخلى عن مساعدته للسلطان العثمانى، فعقد فى 6 أغسطس 1828 م اتفاقًا مع بريطانيا بسحب قواته من المورة، لكن كريت ظلت تحت القيادة المصرية حتى سنة 1840 م.
وميَّز انسحاب محمد على من الحرب اليونانية بداية مرحلة جديدة فى سياسته توجهت بوضوح ضد الإمبراطورية العثمانية. وبدأ محمد على هذه السياسة بغزو بلاد الشام، إذ أرسل لها جيشًا يقوده ابنه إبراهيم الذى نجح فى احتلال عكا ثم دمشق (16 يونيو 1832 م). وأحرز الجيش المصرى فى 30 يوليو انتصارًا عند بيلان فتح الطريق أمامه إلى أطنة فى داخل الأناضول. كذلك انتصر الجيش عند قونية، وفى فبراير 1833 م وصلت قوات إبراهيم إلى كوتاهية، على بعد 200 كم من استانبول، عندئذ تدخلت القوى الأوربية لإنقاذ الإمبراطورية العثمانية. وفى أوائل مايو، تم الاتفاق على انسحاب المصريين من الأناضول، مع حصول محمد على على إيالات صيدا وطرابلس ودمشق وحلب، مع تعيين ابنه إبراهيم على إيالة أطنة.
وخلال السنوات التسع التى قضاها الوجود المصرى فى بلاد الشام، قام المصريون بإدخال بعض التجديدات السياسية والاقتصادية الهامة فى البلاد. ورغم ذلك فقد واجه التواجد المصرى هنالك صعوبات التمرد
والثورات. وفى سنة 1839 م تقدم الجيش العثمانى للقاء المصريين فى بلاد الشام، لكنه هُزم هزيمة كبيرة عند نصيبين، غرب أعالى الفرات (يوم 14 يونيو). وعندما ازداد تهديد محمد على (لرجل أوربا المريض)، تدخلت الدول الأوربية ثانية حتى تمنع تصدع الباب العالى وقيام بديل قوى له فى المنطقة، ولم تقف إلى جانب محمد على سوى فرنسا. ولما رفض محمد على شروط مؤتمر لندن (15 يوليو - 1840 م)، تقدمت القوات الغربية وحطمت قوة محمد على العسكرية وأجبرته على أن يوقع مع بريطانيا معاهدة إنهاء الحرب فى 27 نوفمبر، وقيام قواته بالجلاء نهائيًا عن بلاد الشام فى فبراير 1841 م. ولقد قبل محمد على بعد ذلك اتفاقًا، بعد تحطيم قواته، فى 10 يونيو 1841 م، بترك كل الأراضى التى احتلها ما عدا الأراضى السودانية، والموافقة على تخفيض عدد قواته وأن يدفع ضريبة سنوية للباب العالى. وتعهد بأن تكون ولاية العهد من بعده فى مصر فى أبنائه الذكور حسب السن، بأن يكون أكبر أبناء الأسرة سنا خلفًا له فى الحكم، مثلما هو الحال فى البيت العثمانى.
وحين أصبح محمد على غير قادر على الاستمرار فى الحكم، تولى أمر الحكومة بعده ابنه إبراهيم فى ابريل 1848 م، الذى عين واليًا بمقتضى فرمان السلطان العثمانى فى 2 سبتمبر. لكن إبراهيم توفى قبل والده فى 10 نوفمبر 1848 م، فتولى أحد أحفاد محمد على وهو عباس حلمى الأول الوصاية على العرش. وتوفى محمد على يوم 2 اغسطس 1849 م.
(جـ) عباس الأول (1848 - 1854 م)، سعيد (1854 - 1863 م) وإسماعيل (1863 - 1879 م):
بعد فترة توقف دامت لسنين قليلة، استأنف خلفاء محمد على سياسة التحديث فى البلاد. وتمت هذه السياسة تحت ظروف مختلفة. وفتحت مصر صدرها لكل التأثيرات الأجنبية، ونتج عن ذلك تقدمٌ، لكن هذا التقدم أعقبه خراب اقتصادى ثم احتلال أجنبى. وواصل الخديو عباس سياسة جده محمد على الرامية إلى تخفيض الإنفاق
فى الدولة، لكنه اغتيل فى ظروف غامضة يوم 13 يوليو 1854 م. وخلف عباس فى حكم مصر: محمد سعيد (باشا)، الذى توفى فى 18 يناير 1863 م، ثم إسماعيل (باشا) ابن إبراهيم، وكان كل من سعيد واسماعيل مسئولين عن سياسة انفتاح مصر على الأجانب. كما قام هذان الخديويان بإنجازات هامة منها بناء السكك الحديدية وإنشاء الجسور والموانى وحفر الترع والقنوات والارتقاء بالزراعة والصناعة والعمران.
وكان حفر قناة السويس، هو أهم المشروعات التى تستدعى الانتباه فى عهد هذين الحاكمين. وكان الخديو سعيد قد أعطى موافقته على حفر قناة تربط ما بين البحرين المتوسط والأحمر للفرنسى فرديناند دى لسبس فى 30 نوفمبر 1854 م. وبُدئ العمل فى حفر هذه القناة فى 25 أبريل 1859 م، وتم الفراغ من حفرها وافتتاحها للملاحة فى 17 نوفمبر 1869 م، فى احتفال كبير حضرته شخصيات بارزة وضيوف ممثلين لدول كثيرة مختلفة.
وتركز التقدم الاقتصادى فى مصر آنذاك فى الزراعة، فتوسعت البلاد فى زراعة القطن، الذى كانت الدولة فى حاجة لانتاجه بعد أن توقف استيراده من الولايات المتحدة الأمريكية بسبب وقوع الحرب الأهلية فيها. وكذلك قامت فى البلاد بعض الصناعات التى كانت تعتمد على المنتجات الزراعية مثل صناعة السكر من القصب وصناعة استخراج الزيت. وفى التعليم، قامت جهود كبيرة بتطويره فحلت المدارس النظامية محل الكتاتيب، وفى سنة 1871 م أُسست كلية دار العلوم بهدف إعداد الدارسين الأزهريين للتدريس فى المدارس، وفى سنوات 1873، 1874 م افتتحت أول مدارس نظامية لتعليم البنات.
ولمَّا كانت موارد دخل البلاد لا تغطى مصروفاتها، لجأ حكام مصر إلى الاستدانة من البنوك الأجنبية، ولم تصل هذه الديون إلى مبالغ كبيرة فى عهد عباس، لكنها بلغت ذلك فى عهد كل من سعيد وإسماعيل. وكان يصحب هذه القروض فوائد كبيرة،
وفى نهاية عهد حكم إسماعيل وصلت ديون مصر إلى 100 مليون جنيه استرلينى. وقام إسماعيل، لسداد فوائد هذه الديون، برهن بعض المنشآت الحكومية العامة، كذلك قام ببيع حصة مصر فى قناة السويس مقابل مبلغ زهيد. ومع تزايد الديون ازداد التدخل الأجنبى فى شئون مصر وازدادت سيطرة القوى الأوربية عليها. واضطر الخديو اسماعيل إلى الموافقة على إنشاء "صندوق الدين" من مندوبى فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والنمسا، وكانت مهمته تسديد ديون رعايا هذه الدول. ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، ازداد عدد الأوروبيين العاملين فى فروع الإدارة المصرية، وصار وزير المالية إنجليزيًا ووزير الأشغال فرنسيًا فى الحكومة التى شكلت فى سبتمبر 1878 م.
وبدأ فى ذلك الوقت تكوين رأى عام قومى، عبر عن نفسه فى صحف مستقلة ظهرت فى البلاد منذ سنة 1876 م، وفى حلقات نقاش، مثل تلك التى أقامها جمال الدين الأفغانى فى القاهرة سنة 1871 م بتشجيع من الحكومة المصرية. وفى أوائل سنة 1879 م قام أكثر من ثلثمائة موظف مدنى وضابط عسكرى وعلماء وأعيان بتوقيع عريضة قومية (لائحة وطنية) أوردوا فيها مطالبهم الوطنية وقدموها للخديو. وفى 7 أبريل قام الخديو إسماعيل بحل الوزارة التى كانت تضم الوزراء الأجانب، وقام فى اليوم التالى بتشكيل حكومة وطنية جديدة. واستتبع ذلك نشاط دبلوماسى فى العواصم الأوربية للتشاور فى الأمر. وفى نهاية الأمر أصدر السلطان العثمانى قرارًا بعزل إسماعيل عن حكم مصر (26 يونيو 1879 م) وتعيين ابنه محمد توفيق مكانه.
(د) القسم الأول من عهد حكم توفيق والثورة العرابية (1879 - 1882 م):
عادت السيطرة الأجنبية على مالية مصر فى عهد حكم الخديوى الجديد، لكن لم يعد هنالك مكان فى الوزارة الجديدة للوزراء الأجانب. وتم اتفاق نهائى بين الدائنين والحكومة على أن يُوحد الديْن ويُصبح مجموعه 98.378.000 جنيها استرلينى، وأن يخصص نصف دخل موارد البلاد
لسداده وسداد فوائده. وحاولت حكومة رياض باشا القيام بالإصلاح المالى والاقتصادى، لكن الفرصة لم تمنح لها لتحقيق هذا الاصلاح.
وصارت البلاد فى حالة فوران، وكان الجيش يغلى، وفى يوم 9 سبتمبر 1881 م، تجمع أمام قصر الخديوى حشد عسكرى كبير بقيادة الضابط أحمد عرابى باشا، وتقدم بعريضة يطلب فيها عزل وزارة رياض باشا، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة شريف باشا، ودعوة البرلمان للانعقاد.
وبدأت بريطانيا وفرنسا، اللتان كانتا ترقبان قيام الحركة الوطنية فى مصر بريبة وشك، فى 8 يناير 1882 م سياسة تدخل سافر، بإعلانهما فى مذكرتين متماثلتين قدمتا للخديو، من أنهما يريدان حمايته والدفاع عن النظام الحاكم القائم. وفى 15 مايو أعلنتا قرب وصول أسطولهما المشترك إلى الإسكندرية. وفى 25 مايو طالبتا إقالة وزارة البارودى ونفى عرابى من البلاد. وأقال الخديو توفيق الوزارة بالفعل لكنه استبقى عرابى وزيرًا للحربية فى الوزارة الجديدة. وحدثت مشاجرة وأحداث عنف يوم 11 يونيو فى الاسكندرية قُتل فيها نحو أربعين أوربيا، رغم ظهور الأسطول الانجليزى الفرنسى فى مياه الاسكندرية. وتصرفت بريطانيا فى الأمر بمفردها، دون إعطاء فرنسا فرصة التدخل، وأمرت حكومة "جلادستون" بضرب الاسكندرية، وتم الضرب بالفعل يومى 11 - 12 يوليو بحجة منع المصريين من القيام بتحصين الميناء.
وقام عرابى بتحدى القوات البريطانية، بعد أن تلقى تأييد، شعبيًا كاملًا من غالبية المصريين، وكان عرابى قد أعلن الجهاد ضد الكفار. وفى أغسطس قام فيلق بريطانى باحتلال قناة السويس، وفى 13 سبتمبر 1882 م وقعت الهزيمة بالجيش المصرى عند التل الكبير، واستسلم عرابى للإنجليز، وحوكم وبعض القواد وعددًا كبيرًا من أتباعه محاكمة عسكرية قضت بإعدام عرابى. لكن الحكومة البريطانية خففت الحكم إلى السجن مدى الحياة (وسمح له سنة 1901 م بالعودة من منفاه إلى مصر).