الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى هذا العصر يعنى معتزلى. ولكن يبدو أنه عند هذا الوقت كانت المدرسة البغدادية قد اختفت، ولم يبق من المعتزلة إلا بعض أنصار أبى هاشم وأبى الحسين البصرى. وفقط عند اجتياح المغول للبلدان العربية اختفى المذهب تمامًا.
ومن جهة أخرى، فإن المسائل التى أثارها أصحاب المذهب لم تنحصر فيهم. فطوائف كثيرة من المسلمين وغير المسلمين قد تبنوها وخلدوها ومن وجهة النظر هذه يمكن القول بأن المذهب لازال موجودًا لليوم.
ففى داخل الإسلام هناك الشيعة الزيدية ثم من بعدها الأمامية. أما خارجه فقد تأثر بفكرهم بعض أحبار اليهود المقيمين فى الدولة الإسلامية. ويمكن القول إن الفكر المعتزلى يعاد اكتشافه فى القرن العشرين، بعد قرون من الخمود، حيث تبذل جهود لإعادة بلورته، خاصة فى مصر. فأحمد أمين (1936 م) يفرد لهم فى مؤلفه "ضحى الإسلام"، فصلا كاملا يبين فيه فضلهم فى الدفاع عن الإسلام، ويقول إن اختفاءهم كان من أكبر نكبات الإسلام. وأنهم ارتكبوا ذنبًا فى حق أنفسهم. كما يدافع عنهم زهدى حسن جار اللَّه (مصر 1947 م) دفاعا مجيدا فى مؤلفه "المعتزلة" فهو يرى أن التخلص منهم، هو انتصار للظلاميين، وسبب من أسباب الانحطاط العربى. ويعتبرهم الكثير من المفكرين المعاصرين، ربما بدرجة مبالغ فيها، أنصار حرية الرأى والتعبير.
الأفكار المذهبية:
لن نتناول فى هذا البحث سوى الأفكار التى تميز بها المعتزلة بشكل قاطع، والتى تميز مذهبهم، وتبرر الانتساب لهم، والتى كانت نتيجتها الخصومة بينهم وبين مخالفيهم. ولذا فلن نتعرض لآرائهم عن الكون، والمذهب الذرى والتمييز بين المادة والحوادث، والتى هى شائعة بين المتكلمين جميعا من أهل السنة والمعتزلة كما لن نتناول مسألة الإمامة، فآراؤهم فيها متفقة مع السنة.
رأى أبو الهذيل تأسيس المذهب على أساس من الأصول الخمسة:
1 -
التوحيد. 2 - العدل الإلهى. 3 - الوعد
والوعيد، والذى بمقتضاه يعتقد فى خلود المسلم فى النار إذا لم يتب عن ذنوبه قبل موته. 4 - المنزلة بين المنزلتين، كما سبق بيانه. 5 - الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وبمعنى آخر أن يشارك المسلم فى الشئون العامة لتكريس سلطان الشريعة، ومقاومة الانحراف.
وبعد قرنين من الزمان يمكن القول بأن هذه الأصول الخمسة ظلت سارية. حيث شكلت الأساس لأفضل بيان للفكر المعتزلى ولكن ذلك لا يؤخذ على إطلاقه. فالمبدا الخامس مثلا لم يعرف عن المعتزلة الاجتهاد فيه (عدا ربما العصر الأول). كما أنه لا يوجد تناسب بين أهمية المبدأين الثالث والرابع، والأول والثانى. فالمبدأين الأول والثانى لهما من الأهمية لدرجة أن أصحاب المذهب ينعتون أحيانًا باسم "أهل العدل والتوحيد"، وهو لقب يسعدون به. بل أن المبدأين الثالث والرابع من الممكن اشتقاقهما من الأول والثانى. كما أن مبدأ التوحيد والعدل غير كافيين وعلى ذلك فسوف يسير بحثنا على أسس أخرى غير هذه الأصول الخمسة.
أ- معرفة اللَّه والصفات الإلهية:
1 -
إن الخاصية الرئيسية فى هذا الصدد، هو انكار الصفات الأزلية للَّه. فهم ككل المتكلمين يصفون اللَّه بأنه "قادر"، و"عليم" خالق ورازق وغير ذلك من الصفات بالمعنى الاسمى فكلمة "صفة" هنا لا تعنى أكثر من "وصف"، أو حتى "اسم". ولكن السؤال الذى يثور هنا هو على أى أساس تنسب هذه الأوصاف للَّه؟ فبالنسبة لما يكون بسبب أفعاله، أى "صفات الفعل"، مثل خالق ورازق ومحسن وهكذا، فلا صعوبة فى الأمر. أما حين يتعلق الأمر بما يسمى "صفات الذات أو النفس"، أى الصفات الأزلية التى يتصف بها بحكم ألوهيته، مثل عالم وقادر وحى فإن الأمر إذ ذاك يختلف. ذلك أن الاعتراف بأزلية هذه الصفات يعنى، من وجهة نظرهم، تعدد من يوصف بالأزلية، وهذا يعنى المماثلة مع اللَّه فى هذه الصفة، وهذا يتناقض بشدة مع مبدأ التوحيد، فإن اللَّه سبحانه هو الخالق وحده، فلا يشاركه فى ذلك غيره.
والسنة على عكسهم يقبلون هذا المنطق دون غضاضة. ويردون على المعتزلة الذين يحتجون بالمماثلة بأن أزلية هذه الصفات لا تعنى المماثلة مع اللَّه، بالضبط كما أنها لا تعنى المماللة بين بعضها البعض. أما المعتزلة فى تعليلهم بنسبة مثل هذه الصفات للَّه، فهو أنه، مثلا، ليس عالما نتيجة علم يلحق به، وبالتالى يتصف ذلك العلم بالأزلية، وهو ما يحاولون تجنبه، ولكن ذلك العلم ليس سوى ذاته هو. [يقول أبو الحسين الخياط المعتزلى فى كتابه "الانتصار" إن اللَّه لو كان عالما بعلم، فإن هذا العلم إما أن يكون قديمًا أو محدثًا ولا يمكن أن يكون قديمًا لأن هذا يوجب وجود اثنين أقدمين، وهو تعدد، وهو قول فاسد. ولا يمكن كذلك أن يكون محدثًا، لأنه لو كان كذلك فإنه يكون قد أحدثه اللَّه، إما فى نفسه، أو فى غيره، أو فى غير محل. فإن كان أحدثه نفسه أصبح محلا للحوادث، وما كان محلا للحوادث فهو حادث، وهذا محال. وإن كان أحدثه فى غيره كان ذلك الغير عالما بما يجعل منه أن يكون دونه. ولا يعقل أن يكون أحداثه فى لا محل، لأن العلم عرض لا يقوم إلا فى جسم، فلا يبقى إلا حال واحد، وهو أن اللَّه عالم بذاته] *
2 -
ومن بين المسائل التى أثارتها مشكلة تعدد الصفات الأزلية مع الذات الإلهية، مسألة كلمة اللَّه وإرادته. وهى المسألة التى دفعتهم للقول بخلق القرآن. فهو بالنسبة لهم، يعتبر "عرضا" بالمعنى الاصطلاحى الذى يستخدمونه لهذه الكلمة، أى حادث من ضمن الحوادث، مكون من "حروف منظمة، وأصوات مقطعة". وقد خلقه اللَّه فى "محل" مجسد.
3 -
وبالإضافة للتوحيد المطلق، يركز المعتزلة على السمو المطلق، وهم بذلك يقصدون أن اللَّه ليس بجسم، ولا يوصف بالتالى بما توصف به الأجسام، كالحلول فى مكان، والحركة، والتشكل، إلخ ويترتب على ذلك نتيجتان هامتان: من جهة لا يجوز أن يمثل بأى شكل إنسانى، وما ذكر فى القرآن من كون أن له يدًا أو عينًا فكلها ألفاظ مجازية،
* (المترجم)، عن كتاب موسوعة الفرق الإسلامية، تأليف الدكتور عبد المنعم الحفنى، دار الرشاد.
فباليد يقصد القدرة وبالعين العلم وبالوجه ذاته العلية وهكذا ومن جهة أخرى لا يمكن رؤية اللَّه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} . أما الآية {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فيؤلونها بأن ناظرة أى منتظرة، وبأن الانتظار هو لثواب ربها. وأما ما ورد من أحاديث حول رؤية اللَّه يوم القيامة مثل قوله صلى الله عليه وسلم "سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر" بفرض صحتها المشكوك فيها، فتؤخذ بالمعنى المجازى، بمعنى التعرف عليه سبحانه.
ثانيا: وصف اللَّه بالعدل، ومبدأ أن اللَّه يشاء، ولا يفعل إلا ما هو خير:
إن ما يميز المعتزلة فى هذا الصدد هو تصورهم للعدل الإلهى، فهو معتقد أساسى عندهم، ويتجلى هذا فى أنهم يسمون أنفسهم أهل العدل الذى هو مفترض فى كافة المذاهب بلا استثناء. فبالنسبة للأشعرى، فإن اللَّه عادل فى كل ما يفعله، حتى لو فعل ما هو مناقض لما نتصوره من عدل. فاللَّه سبحانه لا تحده قواعد. أما بالنسبة للمعتزلة (وهنا تطبيق لمبدأ "حمل الغائب على الشاهد" أى حمل المعلوم على المجهول) فإن اللَّه مرتبط بنفس القواعد التى يرتبطا بها الناس، فما يدلنا عليه عقلنا أنه شر، هو كذلك بالنسبة للَّه، وفى هذا المقام يبدو السؤال الذى ليست له إجابه (والذى ليس له محل فى مذهب الأشعرى)، هل يمكن للَّه أن يفعل ما هو شر أو بمعنى أوسع أو ما هو سيئ وردئ فالإجابة بالإيجاب أو النفى تؤدى إلى القول بعدم العدالة أو عدم القدرة.
وبادئ ذى بدء فالقول بالعدل يتنافى مع الجبرية، فليس من العدل أن يقدر اللَّه شيئا على الإنسان ثم يحاسبه، أن الأمر متروك للإنسان ليقرر مستقبله، تبعًا لاختياره إما مؤمنا أو كافرًا، طائعًا أو عاصيًا. صحيح أن القرآن يذكر أن اللَّه يهدى من يشاء. ولكن هذا يفسر بعيدًا عن منطق الجبرية بأن كلمة "يهدى" إما أن تؤخذ بمعنى التعريف بطريق الحق، وفى هذه الحالة يجب أن تكون لكل البشرية بلا تمييز، حتى تتحقق العدالة، فإن كانت للمؤمنين خاصة، فإن ذلك يكون بعد قيامهم بالاختيار الحر لطريق الإيمان،
فتكون إما بمعنى يقول ويحكم بأنهم مهتدون أو (وهو التفسير المفضل عند الجبائى) بمعنى أنه يهديهم يوم القيامة إلى الجنة، وتأخذ فى هذه الحالة معنى الثواب، وفى المقابل تأخذ "يضل" إما معنى يقول ويحكم بأنهم ضالون أو معنى العقاب بمعنى عدم تعريفهم بطريق الجنة. وفى تفسير الختم على القلوب، فيأخذه الجبائى بالمعنى الحرفى، أى أن اللَّه "يسم" هذه القلوب بسمة تميزهم يوم القيامة بأنهم من أهل النار.
وليست العدالة تقتضى فقط حرية الاختيار بين الإيمان والكفر بل أيضا ضرورة إعطاء كافة البشر الوسائل المحققة للإيمان. ومن الغريب أن المعتزلى بشر بن عباد، هو الذى قال بأن اللَّه يمكن، لو أراد على عكس رأى المذهب، أن يهدى كل البشر، (ولكنه لا يفعل)، وأنه لديه "اللطف" الذى لو وهبه لمن يعلم أنه لم يكن ليهتدى، فإنه سوف يهتدى. وقد رُفض هذا الرأى بشدة من جانب المذاهب الأخرى وذهب الجبائى الذى قال أيضا باللطف لكنه شوه المعنى بأنه يعنى كافة الوسائل التى منحها اللَّه البشرية للهداية، من عقل ودلائل ورسل. ولكن لا يمكن القول بما يوحى به قول ابن عباد فى رأيه بان المصلحة المحضة، قد يستأثر اللَّه بها البعض ويحرم الآخر فإن اللَّه بمقتضى عدله عليه أن ينعم على الجميع بلا تمييز، لأن القول بغير ذلك بالنسبة للآخر يحمل معنى "إرادة الفساد"، وهو ما يتنزه عنه سبحانه.
ويقتضى العدل أيضا أن الأفراد يكون لهم حرية اختيار الفعل، أى أنهم هم منشئو الأفعال، على عكس قول "المجبرة"[الجبرية] بأن اللَّه هو الذى خلق هذه الأفعال فى العباد. فالثواب والعقاب يقتضيان أن يكونا لمن له المسئولية عن إحداث الفعل فهو صاحب الفعل ومحدثه والقول بغير ذلك يجعل مبدأ "الكسب" قول فاسد.
ولكن اللَّه إذا لم يكن هو الذى يخلق الأفعال فى العباد، فهو الذى يخلق فيهم "القدرة" على الفعل، ولكن ليس كما يذهب من يقول بـ "الكسب"، توضع القدرة فقط حين يوضع الفعل موضع
التنفيذ. فالقدرة عند المعتزلة مرتبطة بحرية الاختيار، والتى أيضا يوجدها اللَّه فى العباد طبقا لمبدأ العدل. فالقدرة تعنى القدرة على الفعل وضده وهى بالتالى يجب أن توجد قبل الفعل، وهذه المسألة محل نزاع بين أهل السنة والمعتزلة، ويبدو أن القرآن ذاته يتضمن من الدلائل ما يؤيد الرأيين.
ومن البديهى ألا يكلفنا اللَّه إلا بما لدينا من القدرة على تنفيذه، وإلا كان الأمر "تكليفًا بما لا يطاق" -ما يناقض العدل وهذه القدرات هى جزء من الطاقة المطلوبة منه لكل المكلفين بالفروض.
وأخيرًا، فإن العدل يقتضى الثواب لمن يستحق، والعقاب لمن يستحقه فى الآخرة. أما بالنسبة لإمكانية العفو، كما جاء فى الآية {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ. . .} (البقرة، 284) فالمغفرة عندهم تكون "بشرط التوبة" والتائب هو أيضا الذى يتوقع الغفران عن طريق شفاعة الرسول. بل إن "قبول التوبة واجب" لمن كان مخلصا فى توبته. ومن جهة أخرى فإن اللَّه لا يوقع العذاب إلا لمن كان مكلفا بالفعل، فلا يتصور منه تعذيب أطفال المشركين بذنب آبائهم. أما ما يقع من عذاب فى الدنيا لمن هو غير مكلف كالأطفال والحيوانات فإن اللَّه سوف يعوضهم فى الآخرة.
هذا هو مفهوم العدل عند المعتزلة بالمعنى المباشر، ولكن المعتزلة أيضا يفهمون العدل بمعنى أوسع، إلا وهو أنه "منزه عن كل قبيح"، بمعنى أنه لا يريد إلا كل ما هو "حسن". ومفهوم الخير والشر لديهم، كمفهوم العدل، يؤخذ بما يقتضيه العقل. فالخير والشر معان مطلقة، يتعرف عليها كل من وهب المنطق. ومن الأهم ألا يقال إن اللَّه محتاج لأن يفعل الشر، لأنه سبحانه "غنى" عن الاحتياج. وعلى ذلك، فاللَّه لا يتجه إلى فعل الشر، من منطلق أن الشر هو أمر قبيح، وليس فى حاجة إلى فعله. صحيح أن نفس المنطق يؤدى إلى أنه لا يفعل الخير أيضا! لعدم احتياجه له، ولكن الجبائى يتحايل على هذه النقطة بأنه الخير يفعل "لذاته" دون احتياج، وذلك لما فيه من حسن.
وتنزيه اللَّه عن الشر يقتضى أيضا وصفه بالحكمة، بمعنى أن أفعاله يجب أن تكون موجهة لغاية معينة، وإلا كانت نوعا من "العبث". والعبث فى حد ذاته من الأفعال الشريرة، بحسب ما يبينه العقل. فاللَّه إذا كان قد خلق العباد، وأمرهم بالتكاليف، فلابد أن له هدفًا من ذلك. فما هى الحكمة فى الخلق، ثم فى التكليف؟ لا يمكن أن يكون ذلك عن احتياج، فاللَّه منزه عنه. كما لا يتصور أنه خلق العباد للعذاب، وإلا كان ذلك محض ظلم. فالأمر المتصور الوحيد فى هذا الخصوص أن اللَّه خلق البشر لأن فى هذا صلاحهم "لينفعهم". وينطبق نفس القول على التكاليف، فهى لإيصالهم إلى السعادة التى يستحقونها جزاء لما تحملوه من مشقة. بل إن البعض من المعتزلة (أبو الهذيل والنظّام والبغداديون) يرون أن هذا الصلاح متحقق فى الدنيا والآخرة معا، ولكل البشر غنيهم وفقيرهم، صحيحهم وسقيمهم وفى كافة الأحوال. ولكن الجبائى لا يتوسع إلى هذا الحد. غير أن الجميع متفقون على تحقيق ذلك فى الآخرة. بل إن الجبائى يذهب إلى أن اللَّه واجب عليه أن يهب الكافر الحياة، ولو علم الأخير ذلك لاعتنق الايمان (وهذه النقطة هى التى دعت الأشعرى للخروج على الجبائى بعد أن كان من أتباعه).
وأخيرا، فلأن اللَّه لا يمكن أن يريد العذاب للبشر، فهو يتصور أنه يريد لهم ما يؤدى إليه من كفر أو خطيئة واللَّه يريد للبشر الخير والعمل الصالح.
ثالثا: تعريف الإيمان وعقوبة مرتكب الكبيرة: الإيمان بالنسبة للمعتزلة ليس فقط الانتماء لعقيدة الإسلام، بل هو أيضا، كما هو عند الكثيرين غيرهم، مرتبط بالعمل. ولذا فهم يسمونه "جماع الطاعات". والخلاف الوحيد هو فى وضع "النوافل"، هل تدخل فى ذلك أم لا ومن ثم كان الخلاف حول وصف مرتكب الكبيرة، فهو ليس بكافر لكونه لم ينكر شيئا من مبادئ الإسلام، كان يقول إن اللَّه ثالث ثلاثة، ومن جهة
أخرى فلفظ الإيمان يستخدم فى القرآن للمديح، وهو ما لا يستحقه مرتكب الكبيرة. وليس معنى ذلك عدم استحقاقه الخلود فى النار، وإن كان عذابه فيها أقل من الكافر. وفى الحقيقة فليس كل المعتزلة عند هذا الرأى، الأمر الذى يخول لنا أن تتكلم عن "مرجئة المعتزلة"، وهم الذين لا يرون أن عذاب العصاة من المسلمين أبدى.
رابعا: العقلانية لدى المعتزلة: من الصحيح تماما وصف المعتزلة بالعقلانية، ولكن ما المقصود بذلك؟
ليس معنى ذلك بداهة أنهم يعتمدون على العقل وحده، دون اللجوء للتنزيل. فهم، كما أوضح أحمد أمين، ليسوا فلاسفة (رغم أن جدلهم يحمل مسحة من الفلسفة)، بل هم رجال علم الكلام فهم، مثل غيرهم من المسلمين، ينزعون إلى التفسير الصحيح للقرآن، وبيان العقيدة الحقة.
ولكن المعتزلة عقلانيون بالمعنى الصحيح للكلمة، بمعنى أنهم يرون أن هناك إدراكات تدرك بالعقل فى غيبة النص أو بالأسبقية عليه دون لجوء لتنزيل. فوجود اللَّه تدرك بالعقل، ولذا هم يعتبرون أن الواجب الأول على الإنسان هو معرفة اللَّه عن طريق العقل من حيث هو حى قادر حكيم سميع بصير، وأنه ليس بجسم، مكتف بذاته (غنى)، عادل، لا يريد شيئا سوى ما فيه الخير، وهكذا. وفقط حينما يثبت، بالعقل أيضا، صدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، (وهو ما يثبت بمعجزاته)، عندئذ يؤخذ بالقرآن. والقرآن فى الواقع لابد أن يؤكد كل ما ثبت بالعقل، وأى تعارض ظاهرى بين النص والعقل يجب تأويله، كما ذُكر سابقا. وليس معنى ذلك أن القرآن لا يمدنا بشئ خلاف ما أثبته العقل، فمن القرآن علمنا أن اللَّه فرض فروضا على العباد، وأنه سوف يبعثهم يوم القيامة، ويحاسبهم على أفعالهم، ويتبقى أن تتفق هذه الحقائق مع التفسير العقلى، خاصة فيما يتعلق بالعدل.
ولكن الواقع أن المعتزلة لا يختلفون فى هذه النقطة عن معارضيهم. ومن ثم فيجب أن يطلق وصف العقلانية على كل "المتكلمين" فالمعتزلة فقط قد فتحوا الباب لذلك. (أما كونهم واضعى علم الألوهية كما يزعمون، فأمر محل نظر). فالسنة أيضا يرون أن إدراك اللَّه يكون بالعقل، ولا شئ غيره. ولذلك فالمنطق الذى يقال إن أبى الهذيل قد قال به لإثبات وجود اللَّه، وهو منطق "حدوث الجواهر" يأخذ به الأشاعرة وغيرهم. والسنة أيضا يجتهدون فى تفسير القرآن بما يتفق مع معتقداتهم. وإذا كان المعتزلة يبذلون فى ذلك جهدا أكبر ويبدو أنهم يخرجون كثيرا على حرفية القران، كما فى تفسيرهم للهدى والضلال، فما ذلك إلا لأن القرآن فى حرفيته أكثر اتفاقا مع السنة.
والشئ الآخر فيما يتعلق بالعقلانية هو وضع المعتزلة لتصورات عن العالم والبشرية ليست مستقاة من القرآن، بل من فلسفة الإغريق، ثم من افتراضاتهم بعد ذلك: تصور الأجسام كتجميعات من ذرات، التمييز بين المادة والعرض تفسير الظواهر الطبيعية، تعريف الإنسان، والحركة، وكيفية السمع والإبصار، ماهية النفس والروح والإرادة والمشاعر، إلخ. وهذا هو الجانب الذى يعتبر الأكثر إثارة للفكر الحديث. ولكنه أيضا ليس قصرا على المعتزلة، فالسنة لهم فيه نصيب، وكذلك علماء الكلام. ولكن المعتزلة قد أعطوا هذا الأمر أهمية أكثر مما يعطيه السنة، فليس فى السنة مؤلف مكرس بالكامل لقضية المادة والعرض مثل "التذكرة فى أحكام الجواهر والأعراض" لابن متاويه.
وليس الخلاف هنا بين السنة والمعتزلة كطوائف متجانسة، بل بين من يقبل الخوض فى علم الكلام ومن يرفضه، كالحنابلة والأشاعرة.
أما الجانب الخاص بالمعتزلة فى العقلانية فهو قولهم بأن الإنسان بعقله قادر على التمييز بين الخير والشر. وفى هذا الصدد أيضا لا يفعل القرآن