المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي - موسوعة فقه القلوب - جـ ٤

[محمد بن إبراهيم التويجري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17].

وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: 116].

الناس متفاوتون في أفكارهم وأعمالهم، مختلفون في مقاصدهم ونياتهم، والقلوب جوالة، منها ما يطوف حول العرش، ومنها ما يطوف حول الحش.

فمن استنار بنور الوحي أضاء له في الدنيا والآخرة، فأبصر الطريق إلى الله، وعرف هداه، وسار إلى ربه على هدى رسوله.

فهذا على صراط مستقيم، الله مولاه، وله الجنة يوم يلقاه كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].

ومن استكبر عن الحق أو ضل عنه فهو في الظلمات في الدنيا والآخرة، وأنى يبصر الطريق بلا هدى، فهو يتخبط في الظلمات، ويجمع من المعاصي والسيئات ما يعذب به في جهنم:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].

فهذا سائر إلى النار، وقادم على ما عمل:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].

فالناس متفاوتون أعظم تفاوت في إرادتهم وشهواتهم، وفي أعمالهم ومقاصدهم .. وفي ثوابهم وعقابهم، وذلك بحسب علمهم وجهلهم.

وبحسب إيمانهم وكفرهم.

ص: 2887

ولو شاء الله لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الحق والهدى، فإن مشيئته مطلقة، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولكن حكمته سبحانه اقتضت أن خلقه لا يزالون مختلفين، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما يقوله ويفعله، والضلال في قول غيره إلا من رحم الله، فهداهم الله إلى العلم بالحق والعمل به، والإنفاق عليه، والدعوة إليه، فهؤلاء الناجون، وأولئك الهالكون.

ولذلك خلقهم الله ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدل الله وحكمته .. وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر .. وليقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود: 118،119].

فالناس في معرفة الحق، وفي قبوله ورده متفاوتون، وفي الطاعات والمعاصي التي يفعلونها بإرادتهم مختلفون، وفي شهود المعاصي التي تجري عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوتون أعظم تفاوت، وجماع ذلك في المشاهد الآتية:

الأول: مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة.

فهذا مشهد الجهال الذين لا فرق بينهم وبين الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، فهؤلاء نفوسهم حيوانية، لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة.

فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها.

فمنهم من نفسه كلبية، لو صادف جيفة تُشبع ألف كلب لوقع عليها، ونبح كل

ص: 2888

مخلوق يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة، همه شبع بطنه من أي طعام حصل له طيب أو خبيث، حلال أو حرام، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12].

ومنهم من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد في كده، أبكم الحيوان، وأقله بصيرة.

ومنهم من نفسه سبعية، همه العدوان على الناس، وقهرهم بما وصلت إليه قدرته.

ومنهم من نفسه فأرية، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره.

ومنهم من نفسه على نفوس ذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه، فيدخل الرجل القبر، ويدخل الجمل القدر، فهذه النفوس الخبيثة سواء رأت أو علمت إذا تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب، وصادفت المعين على غرة وغفلة لدغته كالحية وأهلكته، نعوذ بالله من شرها:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 4،5].

ومن الناس من طبعه طبع خنزير، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قَمَّه، وهكذا كثيراً من الناس يسمع ويرى المحاسن من أخيه فلا ينشرها، ويرى المساوئ فيجعلها فاكهته.

ومن الناس من هو على طبيعة الطاووس، ليس له هم إلا التطوس والتزين بالريش لا غير، أما زينة قلبه بالإيمان، وجوارحه بالأعمال، ولسانه بذكر الله فهو غافل عنه، غره الشيطان فتزين للمخلوق، ولم يتزين لخالقه.

ومنهم من هو على طبيعة الذرة، أجمع الخلق مالاً، وأقلهم أعمالاً.

ومنهم من هو على طبيعة الجمل، أحقد الحيوان، وأغلظه كيداً.

ومنهم من هو على طبيعة الدب، أبكم خبيث.

ومنهم من هو على طبيعة القرد، يفسد كل ما تصل إليه يده.

ص: 2889

ومنهم من هو على طبيعة الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوساً، وأكرمها طبعاً.

ومنهم من هو على طبيعة الديك، يؤذن بالخير في كل مكان، ويؤثر غيره بما تحبه نفسه.

ومنهم من هو على طبيعة الثعلب، يروغ في معاملاته كما يروغ الثعلب.؟

ومنهم من هو على طبيعة الغنم، حيث السكينة والتواضع.

ومنهم من هو على طبيعة البقر، مهتم بنفسه، غافل عن غيره، وعن مصيره.

وهكذا .. وكل من ألف ضرباً من هذه الحيوانات، اكتسب من طبعه وخلقه، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى وأظهر.

الثاني: مشهد الحكم القدري.

وهؤلاء يعصون الله، ويشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم، وأن الفاعل غيرهم، والمحرك سواه، فلا ينسبون إلى أنفسهم فعلاً، ولا يرون لها إساءة، ويزعمون أن هذا هو التحقيق والتوحيد، وربما زادوا على ذلك، فيرى أحدهم نفسه مطيعاً من وجه، وإن كان عاصياً من وجه آخر لموافقته المشيئة والقدر.

فيقول: كما أن موافقة الأمر طاعة، فكذلك موافقة المشيئة طاعة، وأنا مطيع لإرادة الله ومشيئته، وإن كنت عاصياً لأمره.

وهؤلاء أعداء الله حقاً، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه، وشر خلق الله، وأصحاب المشهد الأول خير منهم.

وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذي شهده المشركون عباد الأصنام، ووقفوا عنده:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل: 35].

ص: 2890

وهو كذلك مشهد إبليس الذي انتهى إليه حين قال ربه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 39،40].

الثالث: مشهد الطبيعة البشرية.

وعند هؤلاء أن الإنسان العاقل متى كان له وازع من نفسه لم يحتج إلى أمر غيره ونهيه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50].

الرابع: مشهد الفعل الكسببي القائم بالعبد فقط.

فلا يشهد إلا صدوره عنه، وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئة الرب له، ولا جريان حكمه القدري به، ولا عزة الرب في قضائه ونفوذ أمره في خلقه.

فهذا المشهد وإن كان صحيحاً نافعاً له، حيث يرى الذنب والعيب من نفسه وأنه مستحق للعقوبة والنكال، وأن الله سبحانه إن عاقبه فهو العادل فيه، وأنه هو الظالم لنفسه، وهذا كله حق لا ريب فيه، لكن صاحبه ضعيف مغلوب على نفسه غير معان عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول.

فإنه لم يشهد عزة ربه في قضائه وقدره، ونفوذ أمره الكوني ومشيئته، وأنه لو شاء لعصمه وحفظه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه الله، ولا محفوظ إلا من حفظه.

ولم يشهد أنه هو محل جريان أقضيته وأقداره سبحانه، مسوق إليها في سلسلة إرادته وشهوته، وأن تلك السلسلة طرفها بيد غيره، فهو سبحانه القادر على سوقه فيها إلى ما فيه صلاحه وفلاحه، وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه.

فهو لغيبته عن هذا المشهد، وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه لا يعطي التوحيد حقه، ولا الاستغاثة بربه، ولا الافتقار إليه حقه.

فهو سبحانه خالق كل شيء، ورب كل شيء، لا ملجأ منه إلا إليه ..

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ،

ص: 2891

وَأعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (1).

الخامس: مشهد الحكمة.

وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة، وهؤلاء يشهدون أن الله لم يخلق شيئاً عبثاً ولا سدى، وأن له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه، من خير وشر، وطاعة ومعصية.

وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئة الله وقدره، وأن لله في ظهور المعاصي والجرائم حكم وأسرار، يترتب عليها ما هو أحب إليه وآثر عنده من قوته بتقدير عدم المعصية.

فصاحب هذا المشهد يرى حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب، واقتداره عليه، وتهيئة أسبابه له، وأنه لو شاء عصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله.

فهو سبحانه يحب التوابين، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة.

وليعرف العبد عزة ربه في قضائه ونفوذ مشيئته، وجريان حكمه.

وليعرف حاجته إلى حفظ ربه، وأنه إن لم يحفظه فهو هالك.

وليستجلب من عبده استعانته به، والتضرع إليه، والاستعاذة به من شر نفسه وشر عدوه.

وإرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار له، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه، وظن أنه وأنه، فإذا ابتلاه ربه بالذنب تصاغرت نفسه وذلت.

وتعريف عبده بحقيقة نفسه، وأنها الخطاءة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله مَنَّ به عليه لا من نفسه.

(1) أخرجه مسلم برقم (486).

ص: 2892

وليعلم العبد سعة حلمه وكرمه في ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتكه بين عباده، فلم يصف له معهم عيش.

وليعلم أنه لا طريق إلى الجنة إلا بعفو ربه ومغفرته، وتعريفه كرمه في قبول توبته، ومغفرته له على ظلمه وإساءته، وإقامة الحجة عليه، فإن عذبه فَبِعَدْله، وإن أكرمه فبفضله.

ولأجل أن يعامل الناس عند إساءتهم إليه بما يجب أن يعامله الله به.

وأن يخلع سبحانه صولة الطاعة والإحسان من قلب عبده، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة، وأن يعرى عبده من داء العجب بعلمه وعمله، وأن يعريه من لباس الكبر، ويلبسه لباس الذل الذي لا يليق بالعبد سواه.

وأن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.

وأن يعرف العبد مقداره مع معافاته، وفضله سبحانه في توفيقه وعصمته، فمن تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار العافية.

وأن يستخرج من عبده محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه.

والعبد إذا شهد إساءته وظلمه استكثر القليل من نعمة الله عليه، لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسييء مثله، فهو دائماً مستقل لعمله كائناً ما كان.

والذنب يوجب للعبد اليقظة والحذر من مصايد عدوه ومكايده.

وقد تكون في القلب أمراض مزمنة لا يشعر بها فيطلب دواءها، فيمنّ الله عليه، ويقضي عليه بذنب ظاهر فيجد ألم مرضه، فيحتمي ويشرب الدواء النافع فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها.

وبالذنب يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب، ليكمل له نعمته وفرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه، وأقامه في طاعته، فتكون لذته بذلك بعد أن صدر منه ما صدر بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، وأن لطف الرب وبره وإحسانه بعبده ليبلغ أكثر من هذا.

ص: 2893

والمعاصي والذنوب فيها امتحان واختبار للعبد .. هل يصلح لعبودية الله وولايته أم لا؟.

فإذا وقع في الذنب سلب حلاوة الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة.

فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة، فحنت وأنت وتضرعت، واستعانت بربها ليردها إلى ما عودها من بره ولطفه.

وإن ركنت عنها، واستمر إعراضها، ولم تحن إلى مألوفها الأول، ولم تحس بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله عز وجل.

وإذا أذنب العبد أنساه الله رؤية طاعته، وأشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه يستغفر الله منه، ويتوب إليه، ويتضرع بين يديه، ويزول عنه عجبه وكبره الذي قد يقتله ويهلكه.

وشهود العبد معصيته وخطيئته يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلاً، ولا له على أحد حقاً، فإذا شهد عيب نفسه بفاحشة، لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.

وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقاً من الإكرام يتقاضاهم إياها، ويذمهم على ترك القيام بها، فإنه عنده أخس قدراً، وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوقاً يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضل يستحق أن يكرموه لأجله.

فيرى أن من سلم عليه، أو لقيه بوجه منبسط، قد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقه، فاستراح في نفسه، واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيش هذا، وما أقر عينه.

والذنب كذلك يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه في شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.

وكذلك الذنب يوجب له الإحسان إلى الناس، والاستغفار لإخوانه الخاطئين

ص: 2894

من المؤمنين، فيصير هجيراه: رب اغفر لي ولوالدي، وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.

فكأنه يشهد إخوانه الخاطئين مصابين بمثل ما أصيب به، فيستغفر لهم وإذا شهد نفسه مع ربه مسيئاً مخطئاً مذنباً مع فرط إحسان ربه إليه وبره به، وشدة حاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فإذا كانت هذه حاله مع ربه، فكيف يطمع أن يستقيم له الخلق، ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه تلك المعاملة؟.

وكيف يطمع أن يطيعه ولده ومملوكه وزوجه في كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك؟.

وهذا يوجب أن يغفر لهم ويعفو عنهم ويسامحهم، ويغض عن الاستقصاء في طلب حقه منهم.

فكم في ظهور المعاصي والذنوب من الحكم والأسرار التي يترتب عليها ما هو أحب إلى الله وآثر عنده من عدمها.

فإنه لولا المعصية من أبي البشر آدم بأكله من الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى.

من امتحان خلقه وتكليفهم .. وإرسال رسله .. وإنزال كتبه .. وإظهار آياته وعجائبه .. وتنويعها وتصريفها .. ومعرفة جلاله وجماله .. وإكرام أوليائه .. وإهانة أعدائه .. وظهور عدله وفضله .. وعزته وانتقامه .. وعفوه ومغفرته.

وظهور من يعبده ويحبه .. ومن يقوم بمراضيه ومحبوباته بين أعدائه في الدنيا .. وظهور الطيب من الخبيث من خلقه.

ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب .. وعقوبة وإهانة .. ودار سعادة وفضل .. ودار شقاوة وعدل.

السادس: مشهد التوحيد.

وهو أن يشهد العبد انفراد الرب تعالى بالخلق والأمر، وأن ما شاء الله كان وما

ص: 2895

لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه وعلمه، ولا تسكن إلا بإذنه وعلمه.

ويشهد أن قلوب العباد كلهم بيده، وأنه يقلبها بين أصبعين من أصابعه، ويصرفها كيف شاء، وأنه الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وألهم نفوس الفجار فجورها، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضله وعطاؤه، وهذا عدله وقضاؤه.

لا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه فيشهد العبد هنا انفراد الرب بالخلق كله، ونفوذ مشيئته في ملكه، وتعلق الموجودات بأسرها به، وجريان حكمه على خلقه بما سبق به علمه، وجرى به قلمه.

ويشهد مع ذلك أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وارتباط الجزاء بالأعمال، فشهود توحيد الرب، وانفراده بالخلق، ونفوذ مشيئته، وجريان قضائه وقدره، يفتح للعبد باب التوكل عليه، ودوام الالتجاء إليه، والافتقار إليه، وذلك يدنيه من عتبة العبودية، ويطرحه بالباب فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

وشهوده أمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، يوجب له الحمد والتشمير وبذل الوسع، والقيام بالأمر، والرجوع إلى نفسه باللوم، والاعتراف بالتقصير.

فيكون سيره بين شهود العزة والحكمة، والقدرة الكاملة، والعلم السابق، والمنة العظيمة، وبين شهود التقصير والإساءة منه، ومعرفة عيوب نفسه وأعماله.

فهذا هو العبد الموفق المعان، الذي أقامه ربه مقام العبودية، وضمن له التوفيق، وحسن الثواب.

وهذا هو مشهد الأنبياء والرسل:

فهو مشهد أبيهم آدم صلى الله عليه وسلم حين قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].

ومشهد أول الرسل نوح صلى الله عليه وسلم إذ قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي

ص: 2896

بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47].

ومشهد إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم إذ قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم: 35].

ومشهد موسى صلى الله عليه وسلم إذ قال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155].

ومشهد ذي النون يونس صلى الله عليه وسلم إذ قال عنه ربه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87].

ومشهد سيد الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ» أخرجه البخاري (1).

فالعارف يسير إلى ربه بين شهود المنة من الله، ومطالعة عيب النفس والعمل.

فشهود المنَّة يوجب له المحبة لربه سبحانه، وحمده والثناء عليه، ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره، ودوام توبته، وتضرعه لربه.

ثم أصحاب هذا المشهد فيه قسمان:

أحدهما: من يشهد تسليط عدوه عليه، وإفساده إياه، وكبحه إياه بلجام الشهوة، فهو أسير معه، وهو مع ذلك ملتفت إلى ربه ومولاه، عالم بأن نجاته بيده سبحانه، وناصيته بين يديه، وأنه لو شاء طرده عنه، وخلصه من يديه، ولم يعبأ به.

فكلما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الإلتفات إلى وليه وناصره وتضرع إليه، وتذلل بين يديه، وكلما أراد البعد عن بابه تذكر عطفه وبره سبحانه، وتذكر جوده

(1) أخرجه البخاري برقم (6306).

ص: 2897

وإحسانه، وكرمه وغناه، ورأفته ورحمته، وقدرته وعزته، وجلاله وجماله، فانجذبت دواعي قلبه هاربة إليه، مترامية على بابه، منطرحة بين يديه.

وفوق هذا مشهد أجل منه وأعظم، ومثله كمثل عبد أخذه سيده بيده، وقدمه ليضرب عنقه، فأيقن العبد المسيء أنه قاتله، وقد علم العبد بره ولطفه ورحمته، ورأفته وكرمه، فهو يناشده بأوصافه، ويدخل عليه بها، فانقطع تعلقه بشيء سواه.

فهذا العبد معرض عن عدوه الذي كان سبباً في غضب سيده عليه، مقصور النظر إلى سيده، وهو في قبضته منتظر منه ما يقتضيه عطفه وبره وكرمه.

ومثل الأول كمثل عبد أمسكه عدوه وهو يخنقه للموت، وذلك العبد يشهد دنو عدوه له، ويستغيث بسيده، وسيده يغيثه ويرحمه.

السابع: مشهد التوفيق والخذلان:

فالتوفيق: هو أن يكلك الله إلى نفسك، والخذلان: هو أن يخلي بينك وبين نفسك، والعباد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا.

فيطيع ربه ويرضيه، ويذكره ويشكره بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه، ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له.

فهو دائر بين توفيقه وخذلانه، فإن وفقه ربه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو المحمود على هذا وهذا.

لم يمنع سبحانه عبده شيئاً هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه، وأين يجعله؟.

فإذا علم العبد ذلك، علم ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس، وكل لحظة، وكل طرفة عين، وشهد توفيق الله وخذلانه كما يشهد ربوبيته وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف.

ويلقي نفسه بين يديه مستسلماً له سبحانه، خاضعاً ذليلاً له، مستكيناً لا يملك

ص: 2898

لنفسه نفعاً ولا ضراً.

فالتوفيق: إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد بأن يجعله قادراً على فعل ما يرضيه، مريداً له، محباً له، مؤثراً له على غيره، ويبغض إليه ما يسخطه وما يكرهه، وهذا مجرد فعله سبحانه، والعبد محل له كما قال سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7،8].

فهو سبحانه العليم بمن يصلح لهذا الفضل العظيم، ومن لا يصلح له، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله، لا يمنعه أهله، ولا يضعه عند غير أهله.

الثامن: مشهد الأسماء والصفات:

وهو من أجل المشاهد، فإن كل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة، وأسماؤه أوصاف مدح وكمال، وكل صفة لها مقتض وفعل:

فاسمه الحميد والحكيم والمجيد يمنع ترك الإنسان سدى مهملاً معطلاً لا يُؤمر ولا يُنهى، ولا يُثاب ولا يُعاقب.

واسمه الملك والحي يوجب أن يكون مدبراً فاعلاً، ويقتضي مملكة وتصرفاً وتدبيراً، وعطاءً ومنعاً، وإحسانا وعدلاً، وثواباً وعقاباً.

واسمه السميع والبصير والرقيب يوجب مسموعاً ومرئياً ومراقباً.

واسمه الخالق والرازق يقتضي مخلوقاً ومرزوقاً .. وهكذا بقية الأسماء.

إذا عُرف هذا فمن أسماء الله الحسنى الغفار والتواب والعفو، ولا بدَّ لهذه الأسماء من متعلقات، ولا بدَّ من جناية تُغفر، وتوبة تُقبل، وجرائم يعفى عنها.

ولا بدَّ لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه.

والله سبحانه يحب ذاته وأسمائه وصفاته، فهو عفو يحب العفو، غفور يحب المغفرة، تواب يحب التوبة، رحيم يحب الرحمة، محسن يحب الإحسان، حليم يحب الحلم.

ص: 2899

وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما ومنها:

مغفرة الزلات .. وإقالة العثرات .. والعفو عن السيئات .. والمسامحة على الجنايات .. هذا مع كمال القدرة على استيفاء الحق ..

فحلمه سبحانه بعد علمه .. وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته .. ولله في كل ما قضاه وقدره حكمة بالغة.

والله تبارك وتعالى يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها.

وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته:

فهو عليم يحب العلم والعلماء .. جواد يحب كل جواد .. بر يحب أهل البر شكور يحب الشاكرين .. حليم يحب أهل الحلم.

ولمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح، خلق من يغفر له، ويتوب عليه، ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له، ليترتب عليه المحبوب له، المرضي له، فسبحان أحكم الحاكمين.

فالتوحيد والإيمان والطاعات أسباب محبوبة لله، موصلة إلى الإحسان والثواب المحبوب له أيضاً.

والشرك والكفر والمعاصي أسباب مسخوطة له، موصلة إلى العدل المحبوب له، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل، واجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما عن الآخر، لما فيهما من كمال الملك والحمد، وتنوع الثناء وكمال القدرة.

التاسع: مشهد زيادة الإيمان.

فالله أرسل رسله ليأمروا العباد بما فيه صلاح الظاهر والباطن، وينهونهم عما فيه فساد ظواهرهم وبواطنهم.

وأخبروهم بما يحبه الله ويرضاه، وبما يثيب عليه من الجنة والرضوان، وأنه يبغض الشرك والمعاصي، ويجازي عليها بالسخط والنار.

ص: 2900

وأنه إذا أطاعه العباد بما أمر به، شكر عليه بالإمداد والزيادة، وأنه إذا عصاه العباد، وخالفوا أمره، أصابهم النقص والفساد، والذل والهوان، وضيق العيش، وسوء الأحوال، فالذنوب مضرة بالقلوب مثل السموم مضرة بالأبدان.

وهذا المشهد من ألطف المشاهد، فإن العبد إذا شهد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه، وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه، وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه، وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أُتي؟، ووقوعه على السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه، ليباشر تغيير حاله، فإذا أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال رأى العز بعد الذل .. والغنى بعد الفقر .. والسرور بعد الحزن .. والأمن بعد الخوف .. وقوة الإيمان بعد ضعفه .. ازداد إيماناً مع إيمانه.

فكل ما نراه في الوجود من شر وفساد، وألم وعقوبة، وجدب ونقص، في أنفسنا وأموالنا، فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه وإن أجراه على يد ظالم.

فالمسلط له أعدل العادلين وأحكم الحاكمين كما قال سبحانه لمن أفسد في الأرض: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} [الإسراء: 4 - 6].

وكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها.

وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمر مشهود في العالم، يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

ص: 2901

وشهود العبد هذا مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل من التوحيد والإيمان، والأوامر والنواهي، والثواب والعقاب.

العاشر: مشهد الرحمة:

فإذا وقع العبد في المعصية خرجت من قلبه تلك الغلظة والقسوة والغضب الذي كان عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا عليه غضباً لله، وحرصاً منه على أن لا يعصي ربه، فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين.

فإذا جرت عليه المقادير وأذنب استغاث بالله، والتجأ إليه، ودعاؤه عليهم بالدعاء لهم بالمغفرة.

الحادي عشر: مشهد العجز والضعف.

فالإنسان أعجز شيء عن حفظ نفسه، ولا حول له ولا قوة إلا بربه، تجري عليه أحكام القدر وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله، كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع لا يردهم عنها إلا الراعي، فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاء.

وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجن، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلاً، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين اغتاله وظفر به أحدهم.

وفي هذا المشهد يعرف العبد نفسه حقاً، ويعرف فضل ربه حقاً، فمن عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة، ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف صفاته الممدوحة فيه كالقوة والكلام، والحياة والصدق، عرف أن الذي أعطاه ذلك أولى به منه، فمعطي الكمال أولى بالكمال، فمن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه.

وإذا عرف العبد ذلك عرف أنه ليس بيده شيء، ولا بيد غيره شيء، وأن الأمر كله لله العلي الكبير كما قال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ

ص: 2902

الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

الثاني عشر: مشهد الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله.

فيشهد العبد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته.

فإذا انكسر قلب العبد وخضع لربه رأى أنه لا يستحق قليلاً ولا كثيراً، وأن كل خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه.

واستقل طاعاته لربه، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، ورآها سوء أدب مع ربه الذي أكرمه بوافر نعمه.

فالانكسار والافتقار الذي حصل لقلبه أوجب هذا كله، فما أقرب الخير والجبر من هذا القلب المكسور، وذرة من هذا ونَفَسٍ منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بعلومهم وأعمالهم وأحوالهم.

وأحب القلوب إلى الله قلب تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، ينظر إلى ربه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، ونظر الفقير العاجز إلى الغني القادر.

فلا يرى في جميع أحواله إلا متعلقاً بربه خاضعاً له، يسأله عطفه ورحمته، باكياً بين يديه، يقول: يا رب .. يا رب .. ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مغيث له سواك، ولا مؤوي له سواك.

الثالث عشر: مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه، والابتهاج بذكره، والفرح والسرور به.

فتقر عينه بربه، ويسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه جوارحه، ويستولي ذكره على لسانه، فتصير حركات اللسان والقلب والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي، قد امتلأ قلبه من محبته، ولهج لسانه بذكره، وانقادت جوارحه لطاعته.

ص: 2903

والدخول على الله من أبواب الطاعات كلها عليه زحام، لكن الدخول عليه من باب الذل والافتقار أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم عليه.

فلا طريق أقرب إلى الله من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل.

والله سبحانه لا يأخذ أحداً ولا يعاقبه إلا بذنبه، وإذا شاهد العبد القدر السابق بالذنب علم أن الله سبحانه قدره سبباً مقتضياً لأثره من العقوبة، كما قدر الطاعة سبباً مقتضياً للثواب.

وكلما طالع العبد منن ربه عليه قبل الذنب، وفي حال مواقعته، وبعد مواقعته، ولاحظ بره به، وحلمه عنه، وإحسانه إليه، هاجت من قلبه لواعج محبته، والشوق إلى لقائه، وشدة الحياء منه، فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وتستحي من معصية أمره.

وأهل المعاصي إن نظرنا إليهم بعين القدر نرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، ونشفق عليهم ونرحمهم.

وإن نظرنا إليهم بعين الشرع فإننا يجب أن ننصحهم، ونأمرهم بالمعروف، وننهاهم عن المنكر، حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم.

ولا بدَّ لورثة الأنبياء أن ينظروا بهذا وهذا، وبذلك يقبل الله دعاءهم، ويبارك في جهدهم، وينزل الهداية ببركة جهدهم كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه .. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .. ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق .. واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك .. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

ص: 2904