الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - آفة الكبر
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)} [الأعراف: 40، 41].
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].
الله تبارك وتعالى وحده هو الكبير الذي له الكبرياء في السموات والأرض، وله الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله الجلال والجمال والكمال، وله الملك كله، وله العزة كلها:{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 36، 37].
ومن استكبر من الخلق فليس له ذلك؛ لأن الكبرياء لله وحده لا شريك له، والعبد مخلوق ضعيف عاجز فقير، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً إلا ما مَلَّكه الله إياه.
والكبر بطر الحق، وغَمْطُ الناس بازدرائهم واحتقارهم.
وآفة الكبر في الناس على ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون الكبر مستقراً في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيراً منهم إلا أنه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة إلا أنه قد قطع أغصانها بإخفائه الكبر.
الثانية: أن يظهر ذلك بأفعاله من الترفع في المجالس، والتقدم على الأقران، فتراه يصعر خده للناس ويحتقرهم.
الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه كالدعاوى والمفاخرة وتزكية النفس، والتكبر بالنسب، والمال، والعلم، والجمال، والقوة، وكثرة الأتباع، ونحو ذلك من الحالات.
فالتكبر بالمال أكثر ما يجري بين الملوك والتجار .. والتكبر بالجمال أكثر ما يجري بين النساء .. والتكبر بالعلم أكثر ما يجري بين المرائين .. والتكبر بالنسب أكثر ما يجري بين الناقصين الجاهلين .. والتكبر بكثرة الأتباع أكثر ما يجري بين الملوك بكثرة الجنود .. وبين العلماء بكثرة الطلاب والمستفيدين.
ومن صفات المتكبر:
استكباره عن الحق .. واحتقار الناس .. وحبه قيام الناس له .. وجلوسه في صدور المجالس .. ومشيه متبختراً .. وأنه لا يمشي غالباً إلا ومعه أحد يمشي خلفه .. ولا يزور أحداً تكبراً على الناس .. ويستنكف جلوس أحد إلى جانبه، ولا يتعاطى في بيته شغلاً .. ونحو ذلك.
والكبر من المهلكات، ويعالج بأمرين:
الأول: استئصال شجرته من القلب، ووسيلة ذلك أن يعرف الإنسان ربه ويعرف نفسه.
الثاني: من تكبر بالنسب فليعلم أن هذا تعزز بكمال غيره .. ومن اعتراه الكبر بالجمال فلينظر إلى باطنه وأقذاره نظر العقلاء .. ومن اعتراه الكبر بالقوة فليعلم أنه لو آلمه عِرْق عاد أعجز من كل عاجز .. ومن تكبر بسبب المال فليعلم أن اليهود أغنى منه وهم شر خلق الله، وقد غضب الله عليهم ولعنهم .. ومن تكبر بسبب العلم فليعلم أن حجة الله على العالم أكثر من الجاهل.
وأول ذنب عصى الله به أبوا الثقلين: الكبر والحرص.
فالكبر ذنب إبليس اللعين، فآل أمره إلى ما آل إليه، وذنب آدم صلى الله عليه وسلم الحرص والشهوة، فكان عاقبته التوبة والهداية.
فأهل الكبر والإصرار والاحتجاج بالأقدار مع شيخهم وقائدهم إلى النار إبليس، وأهل الشهوة المستغفرون التائبون المعترفون بالذنوب مع أبيهم آدم في الجنة.
والتكبر شر من الشرك، فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد
مع الله غيره، ولذلك جعل الله النار دار المتكبرين كما قال سبحانه:{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)} [الزمر: 72].
والذين طبع الله على قلوبهم هم أهل الكبر والتجبر كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر: 35].
والكبر قليله وكثيره في النار، وهو موجب للحرمان من الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» أخرجه مسلم (1).
ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغَّره وحقَّره، ومن تكبر عن الانقياد للحق فإنما تكبر على الله، فإن الله هو الحق، وكلامه حق، ودينه حق، فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله، فإنما رد على الله وتكبر عليه:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].
والفرق بين المهابة والكبر:
أن المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وألبس رداء الهيبة، كما قال سبحانه:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}
…
[النحل: 49، 50].
وأما الكبر فأثر من آثار العجب والبغي، من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، يستأثر صاحبه بالأشياء ولا يؤثر أحداً، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه.
والإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان بالله، والشعور بالخالق القاهر فوق عباده، تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان أو قوة أو جمال.
(1) أخرجه مسلم برقم (91).
ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله، لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هوناً لا تيهاً ولا مرحاً، وهذا هو الأدب مع الله ومع الناس.
وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب، والكبر الفارغ، والخيلاء الكاذبة إلا فارغ صغير القلب، صغير الاهتمامات، يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه، فتواضع لله:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}
…
[الإسراء: 37].
والكبر ينقسم إلى قسمين:
كبر باطن .. وكبر ظاهر.
فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح، واسم الكبر بالخلق الباطن أحق، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق.
وخلق الكبر موجب للأعمال، ولذلك إذا ظهر على الجوارح قيل تكبر، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر.
والكبر يظهر بثلاثة أشياء:
متكبر .. ومتكبر عليه .. ومتكبر به.
فالمتكبر بما يملك من مال أو سلطان أو علم ونحوها يتكبر على غيره، فيرى لنفسه مرتبة، ولغيره مرتبة دونه، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، وبهذه الثلاثة يحصل له خلق الكبر.
والأعمال السيئة الصادرة عن خلق الكبر كثيرة من احتقار الناس وازدرائهم والترفع عنهم، والاستهانة بهم، وآفاته أكثر من أن تحصى.
وآفات الكبر عظيمة، وبه يهلك خواص الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والعلماء والزهاد فضلاً عن عوام الخلق.
وكيف لا تعظم آفته وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر» قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُّحِبُّ أنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ
حَسَنَاً، قال:«إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم (1).
وإنما صار الكبر حجاباً دون الجنة؛ لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلها، فالمتكبر لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وفيه شيء من الكبر، ولا يقدر على التواضع والنصح لهم وفيه الكبر.
والكبر درجات، وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم، وقبول الحق، والانقياد له، ويقال لهؤلاء يوم القيامة:{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)} [النحل: 29].
والتكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام:
الأول: التكبر على الله: وهو أفحش أنواع الكبر، ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان، وهو يصدر من كل من ادعى الربوبية كفرعون وغيره، وقد توعد الله هؤلاء بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].
الثاني: التكبر على رسل الله: من حيث تعزز النفس، وترفعها عن الانقياد لبشر مثل سائر الناس، وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره، فيمتنع عن الانقياد، وهو ظان أنه محق فيه، وتارة يمتنع مع المعرفة، ولكن لا تطاوعه نفسه للانقياد للحق والتواضع للرسل.
كما قال الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} [الفرقان: 21].
الثالث: التكبر على الخلق: وذلك بأن يستعظم نفسه ويحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم، وتدعوه إلى الترفع عليهم، فيزدريهم ويستصغرهم، ويأنف من
(1) أخرجه مسلم برقم (91).
مساواتهم.
وهذا وإن كان دون الأول والثاني، لكنه عظيم من وجهين:
أحدهما: أن الكبر والعز والعظمة والعلا لا يليق إلا بالملك القادر، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر؟.
فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله كما قال سبحانه: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» أخرجه أبو داود وابن ماجه (1).
وإذا كان الكبر على عباد الله لا يليق إلا بالله، فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه، فالذي يسترذل خواص الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم، ويستأثر بما حق الملك وحده أن يستأثر به منهم فهو منازع لله في بعض أمره.
الثاني: أن ذلك يدعو العبد إلى مخالفة الله في أوامره؛ لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله، وتشمر لجحده، كما تكبر إبليس على آدم فقال أنا خير منه، فحمله هذا الكبر على الامتناع عن السجود الذي أمره الله تعالى به.
وكان مبدؤه الكبر على آدم والحسد له، فجره ذلك إلى التكبر على أمر الله تعالى، فكان ذلك سبب هلاكه أبد الآباد كما قال سبحانه:{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [ص: 77، 78].
(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (4090)، صحيح سنن أبي داود رقم (3446).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4175)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3366).
ولذلك شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بآفتين في قوله: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم (1).
فكل من رد الحق وهو يعرفه، وأنف أن يخضع لله ويتواضع له بطاعته واتباع رسله فقد تكبر عن الحق فيما بينه وبين الله تعالى ورسله.
وكل من رأى أنه خير من أخيه، واحتقره وازدراه، ونظر إليه بعين الاستصغار، ورد ما قاله من الحق فقد تكبر فيما بينه وبين الخلق.
وأما ما يتكبر به الناس، فإنه لا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال.
وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي.
فالديني هو العلم والعمل.
والدنيوي هو الرئاسة، والنسب، والجمال، والمال، والقوة.
فهذه سبعة أسباب.
فأما العلم فما أسرع الكبر إلى العلماء إذا قل عملهم، فلا يلبث العالم أن يتعزز بعلمه، فيستعظم نفسه، ويستحقر الناس، وينظر إليهم نَظَرَه إلى البهائم، ويستجهلهم، ويتوقع منهم أن يخدموه، ويستخدمهم وكأنهم عبيده وأجراؤه.
ويرى نفسه عند الله أفضل منهم، فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم، وهل هذا إلا عين الجهل والسفه في صورة العلم.
والعلم الحقيقي: هو الذي يعرف به الإنسان نفسه وربه، ويزيده خضوعاً وخشوعاً وتواضعاً لربه، ويرى أن الناس خير منه، لعظم حجة الله عليه بالعلم، وتقصيره عن القيام بشكر نعمة العلم.
فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ
(1) أخرجه مسلم برقم (147).
اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215].
وأما العبادة والعمل: فليس يخلو عن رذيلة الكبر أحد، فكثير من الزهاد والعباد يرون الناس هالكين، ويرون أنفسهم ناجين، ويرون غيرهم أولى بزيارتهم لهم، ويرون أن على غيرهم توقيرهم وذكرهم لهم بالورع والتقوى، والتوسيع لهم في المجالس، وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ، وقضاء حوائجهم.
فما أجدر العالم والعابد إذا أحبه الناس لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل، وما أجدره إذا ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى أدناهم في الإهمال.
وأسباب الكبر وبواعثه المهيجة له أربعة:
العجب .. والحقد .. والحسد .. والرياء.
فالكبر خلق باطن، وما يظهر على الجوارح من الأخلاق والأفعال التي تدل على الكبر فهي ثمرة ونتيجة للكبر الباطني الذي هو عبارة عن استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير.
وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر، فإنه إذا أعجب بنفسه وبعلمه وبعمله أو بشيء من الأسباب استعظم واستكبر.
أما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة:
سبب في المتكبر وهو العجب.
وسبب في المتكبر عليه وهو الحقد والحسد.
وسبب في غيرهما وهو الرياء.
فالعجب يورث الكبر الباطن، والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأقوال والأعمال والأحوال، والحقد يحمل على التكبر من غير عُجب، كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو فوقه، ولكنه غضب عليه لسبب، فأورثه الغضب حقداً عليه، فهو لذلك لا يتواضع له بل يتكبر عليه، ويرد الحق إن جاء من جهته، ويأنف منه إن نصحه.
والحسد يوجب بغض المحسود، ويرد الحق إن جاء من جهته، ويمنع من قبول
النصيحة وتعلم العلم، فكم من جاهل يشتاق إلى العلم فبقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده حسداً وبغياً عليه؟.
فهو يتكبر عليه ويعرض عنه مع علمه بأنه يستحق التواضع بفضل علمه، ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين، وإن كان في باطنه ليس يرى نفسه فوقه.
وأما الرياء فهو كذلك يدعو إلى أخلاق المتكبرين، حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه، ويمتنع من قبول الحق منه، ولا يتواضع له خوفاً من أن يقول الناس إنه أفضل منه، فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد.
وعلامات التكبر:
تكون في شمائل الرجل كصعر وجهه، ونظره شزراً، وإطراقه رأسه ونحو ذلك، وتكون في أقواله في صوته ونغمته.
ويظهر في مشيته وتبختره، وقيامه وجلوسه، وحركاته وسكناته، كما قال سبحانه:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 18 - 19].
فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله، ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض.
والكبر من الكبائر المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته فرض عين، ولكنه لا يزول بالتمني، بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له، ويتم ذلك بأمرين:
الأول: استئصال أصله، وقلع شجرته من مغرسها في القلب.
الثاني: دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره.
فاستئصال أصله يتم بأمرين: علمي وعملي، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما:
أما العلمي: فهو أن يعرف الإنسان نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في
إزالة الكبر، فالإنسان مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة.
وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله العلي العظيم.
فأما معرفة العبد نفسه فأولاً لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً، ثم خلقه الله من أرذل الأشياء وأقذرها وهو التراب، ثم من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة ثم جعله عظماً، ثم كسى العظام لحماً كما قال سبحانه:{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)} [عبس: 17 - 22].
فما صار الإنسان شيئاً مذكوراً إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت، فكان في بداية خلقه جماداً ميتاً، لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس ولا يتحرك، ولا ينطق ولا يبطش، ولا يدرك ولا يعلم.
فبدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبجهله قبل علمه، وبعماه قبل بصره، وبصممه قبل سمعه، وبضلالته قبل هداه، وبفقره قبل غناه، وبعجزه قبل قدرته.
ثم مَنَّ الله عليه ويسر له السبيل فأحياه بعد أن كان ميتاً .. وأسمعه بعد ما كان أصم .. وبصَّره بعد ما كان فاقداً للبصر .. وقواه بعد الضعف .. وعلَّمه بعد الجهل .. وأغناه بعد الفقر .. وأشبعه بعد الجوع .. وكساه بعد العري .. وهداه بعد الضلال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 1 - 3].
فانظر كيف دبر الله الإنسان وصوره، وإلى السبيل كيف يسره، وإلى طغيان الإنسان ما أكفره؟.
ثم انظر إلى نعمة الله عليه كيف نقله من تلك الذلة والقلة، والخسة والقذارة والعجز والضعف إلى هذه الرفعة والكرامة، فصار موجوداً بعد العدم، وحياً بعد الموت، وناطقاً بعد البكم، وبصيراً بعد العمى، وقوياً بعد الضعف، ومهدياً بعد
الضلال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)} [الملك: 23].
وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه، ويعلم بها عظمته وجلاله، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل جلاله.
ثم بعد ذلك يسلب الله هذا الإنسان روحه وسمعه وبصره، وعلمه وقدرته وماله وحسه وإدراكه وحركته فيعود جماداً كما كان أول مرة، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة، كما كان أول نطفة مذرة، ثم يصير رميماً ورفاتاً يأكله الدود، ثم يصير روثاً في أجواف الديدان، وجيفة يهرب من نتنه الحيوان ويستقذره كل إنسان.
وأحسن أحواله أن يعود تراباً يعمل منه البنيان، وتصنع منه الكيزان، فيصير مفقوداً بعد أن كان موجوداً.
وليته بقي كذلك فما أحسن الحال لو كان تراباً، بل يحييه الله بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه، ويخرج إلى أهوال يوم القيامة فينظر إلى سماء مشققة، وأرض مبدلة، وجبال مسيرة، ونجوم منكدرة، وأحوال مظلمة، وملائكة غلاظ شداد، ونار مسعرة، وجنة عالية، وصحائف منشورة فيها عمله، فينقطع قلبه، ويتمزق فؤاده من هول ما رأى في صحيفته من المخازي والكبائر فيقول:{يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49].
فمن كان هذا بدؤه .. وهذه أحواله .. وهذا آخر أمره .. فمن أين له البطر والكبرياء، والفخر والخيلاء، وهو على التحقيق أخس الأخساء، وأضعف الضعفاء؟.
وما لمن هذه حاله والتكبر والتعظم؟.
بل ما له وللفرح في لحظة واحدة فضلاً عن البطر والأشر والكبر؟.
ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم كما قال سبحانه:
{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7].
ولو فوض الله إليه أمره، وأدام له الوجود باختياره وأكمله، لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى، ولكن الله سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة، والآفات المختلفة، شاء أم أبى، لا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يُسلب سمعه أو بصره أو عقله أو ماله، أو تُختطف روحه، ويُسلب جميع ما يهواه في دنياه، فهو مضطرب مضطر ذليل، عاجز فقير، لا يقدر على شيء من نفسه، ولا شيء من غيره.
فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه؟.
وأنى يليق به الكبر لولا جهله؟
فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر.
وأما العلاج العملي فيكون بالتواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال المذمومة فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقاً، فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعاً.
والكبر بالعلم أعظم الآفات، وأغلب الأدواء، وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة، وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما، بل لا قدر لهما أصلاً إذا كان معهما علم وعمل، فللعلم طغيان كطغيان المال.
ولذا يعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل، لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم.
ولا يقدر العالم على دفع الكبر إلا بأمرين:
أحدهما: أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يُّحتمل من الجاهل ما لا يُّحتمل عشره من العالم، فإن من عصى الله عن معرفة وعلم فجنايته أفحش، إذا لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: « .. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأ الْقُرْآنَ، فَأتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ» أخرجه مسلم (1).
فكما أن قدر العالم أعظم من قدر غيره، فكذلك خطره أعظم من خطر غيره، فهذا بذاك، فهذا الخطر يمنع من التكبر، والعالم إذا فكر فيما ضيعه من أوامر ربه بذنوب في باطنه، وجنايات على جوارحه، وعلم ما هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة.
الثاني: أن يعرف العالم أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله بغيضاً، وقد أحب الله منه أن يتواضع، فمن تواضع لله رفعه في الدنيا والآخرة، فلا بد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه، وهذا يزيل التكبر عن قلبه.
وبهذا زال التكبر عن الأنبياء إذ علموا أن من نازع الله تعالى الكبرياء والعظمة قصمه، وقد أمرهم سبحانه أن يُصغِّروا أنفسهم، حتى يَعْظُمَ عند الله محلهم، فهذا مما يبعثه على التواضع لا محالة.
فالواجب على العبد أن لا يتكبر على أحد من خلق الله، فإن رأى جاهلاً قال: هذا عصى الله بجهل، وأنا عصيته بعلم، فهو أعذر مني، وإن نظر إلى كبير قال: هذا أطاع الله قبلي، فكيف أكون مثله؟، وإن نظر إلى صغير قال: إني عصيت الله قبله، فكيف أكون مثله؟.
والله عز وجل خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر والنجوم، وخلق الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله، وخلق كل
(1) أخرجه مسلم برقم (1905).
شيء، وجميع هذه المخلوقات مطيعة لربها، منقادة لأوامره، عابدة له.
والبشر إن استكبروا عن عبادة الله بعد معرفتهم لهذه الآيات الكبرى، والمخلوقات العظمى، فهذا لن يقدم أو يؤخر، فغيرهم من جميع الكائنات يعبد الله غير مستكبر في العالم العلوي، وفي العالم السفلي كما قال سبحانه:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}
…
[النحل: 49، 50].
…
[فصلت: 38].
هؤلاء الملائكة الذين عند ربك، وهم أرفع وأعلى، وهم أكرم وأمثل، لا يستكبرون كما يستكبر أولئك المنحرفون الضالون في الأرض، ولا يغترون بقرب مكانهم من الله، ولا يفترون عن تسبيحه ليلاً ونهاراً كما قال سبحانه:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20].
وماذا يساوي أن يتخلف من أهل الأرض من يتخلف عن عبادة الله؟.
وهذه الأرض التي تقوتهم، والتي منها خرجوا وإليها يعودون، الأرض التي هم على سطحها أنمال تدب.
هذه الأرض تقف خاشعة لله، وهي تتلقى من يديه الحياة، فاهتزت وربت لتشارك العابدين المتحركين:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39].
وكم في الأرض من أَفَّاك؟ .. وكم في الأرض من مستكبر؟.
وماذا ينتظر هؤلاء من العذاب الأليم؟.
…
[الجاثية: 7، 8].
ألا ما أخطر هؤلاء المستكبرون .. وما أعظم جهلهم بالله.
إنهم إذا علموا من آيات الله شيئاً استهزؤوا بها، واتخذوها مادة للسخرية منها،
وممن يؤمنون بها، وممن يريدون أن يرجعوا أمر الناس والحياة إليها:{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)} [الجاثية: 9 - 11].
فما أخسر هؤلاء في الدنيا والآخرة .. وأي خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا؟ .. ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة؟ .. ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين؟.
وكل أحد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق، فالكبرياء لله وحده، وليست لأحد من خلقه في قليل أو كثير.
وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض، وجزاء على الفسوق عن منهج الله كما قال سبحانه:{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} [الأحقاف: 20].
والكفار بمالهم وجاههم يحسبون أنفسهم شيئاً عظيماً عند الله، فهم يكفرون ويستكبرون، ويؤذون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسمعون القرآن، ويتناجون بالكيد والرد على ما يسمعون، ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله؛ لأنهم يزعمون أنهم في ميزان الله شيئاً عظيماً:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35].
فما أعجب حالهم؟ وما أعوج تقديرهم: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)} [المعارج: 36 - 38].
فهل يستحقون بكفرهم وكيدهم أن يدخلوا الجنة؟
{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)} [المعارج: 39].
فهم لا ريب يعلمون مم خلقوا؟.
من ذلك الماء المهين الذي يعرفون، إنها لمسة خفية عميقة تمسح كبرياءهم مسحاً، وتنكس كبرياءهم تنكيساً.
كيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟.
إن هذا خرق لسنة الله في الجزاء العادل، للمؤمن بالنعيم .. وللكافر بالجحيم.
ألا ما أسفه العقول التي تستكبر بكثرة الأموال والأولاد، وتظن أن ذلك سوف ينجيها من العذاب الأليم، وأنهم خيار الناس:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35].
إن الكبر آفة من آفات النفس ينشأ من الاغترار بالجاه أو السلطان أو المال، فينشأ من ذلك الكبر على الحق برده، والكبر على الناس باحتقارهم.
والطغيان كذلك آفة من آفات النفس ينشأ مما سبق، وهو وصف لكل من يتجاوز الحق والهدى.
ومداه أوسع من الطغاة ذوي السلطان والجبروت، حيث يشمل كل متجاوز للهدى، وكل من آثر الحياة الدنيا واختارها على الآخرة، فعمل لها وحدها غير حاسب للآخرة حساباً.
واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره، فإذا أهمل حساب الآخرة، أو آثر عليها الدنيا، اختلت كل الموازين في يده، واختلت كل القيم في تقديره، واختلت كل قواعد السلوك والشعور في حياته، وعُدَّ طاغياً وباغياً ومتجاوزاً للهدى.
فهذا مصيره إلى الجحيم كما قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} [النازعات: 37 - 39].
والله تبارك وتعالى رحيم ودود، ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه وهي إنسانيته التي تميز بها عن سائر الأحياء، وارتفع بها إلى أكرم مكان، وتجلى فيها إكرام الله له فيقول له:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8].
إن هذا النص يلتفت إلى واقع الإنسان الحاضر، فإذا هو غافل لاهٍ سادر، ويلمس قلبه لمسة فيها عتاب رضى، وفيها وعيد خفي، وفيها تذكير بنعمة الله
الأولى عليه، نعمة خلقه في هذه الصورة السوية، على حين يملك ربه أن يركبه في أي صورة شاء، ولكنه سبحانه اختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة وهو لا يشكر ولا يقدر، بل يغتر ويستكبر.
يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك، ما الذي غرك بربك الكريم فجعلك تستكبر عن الإيمان به، وتعرض عن طاعته، وتقصر في حقه، وتتهاون في أمره، ويسوء أدبك في جانبه، وهو ربك الكريم الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره، ومن هذا إنسانيتك التي تميزك عن سائر خلقه.
أغرك علمه وحلمه؟ .. أم غرتك نعمه وآلاؤه؟ .. أم غرك جهلك بربك؟ ..
إنه نداء وخطاب يهز كل ذرة في كيان الإنسان، وربه يعاتبه هذا العتاب الجميل، ويذكره هذا الجميل، بينما هو سادر في التقصير، سيء الأدب في حق مولاه، الذي خلقه فسواه.
إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة الكاملة الشكل والوظيفة أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق، والأدب الجم، والحب لربه الكريم الذي أكرمه بهذه الخلقة تفضلاً منه ورعاية منه.
وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوين الإنسان الجسدي، وفي تكوينه الروحي، وفي تكوينه العقلي.
فسبحان: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} [السجدة: 7، 8].
وإنه ما من خلق حادث مهما كان إلا وفيه نقص يصغره، وما يقال عن خلق من خلق الله كبير، أو أمر من الأمور كبير، أو عمل من الأعمال كبير، حتى يتضاءل بمجرد أن يذكر الله الكبير المتعال.
…
[الجاثية: 36، 37].
ومراد الله من العباد إيمانهم وصلاح قلوبهم، فإذا طلب العبد العلم ليعمل به صلح قلبه وزاده تواضعاً، وإذا طلبه لغير العمل به فسد قلبه وزاده فخراً وكبراً.
والسيئة التي لا تنفع معها حسنة هي الكبر، والسجود يذهب الكبر، والتوحيد يذهب الرياء.
والتواضع في الخلق كلهم حسن .. وفي الأمراء والعلماء والأغنياء أحسن .. والتكبر في الخلق كلهم قبيح .. وفي الفقراء أقبح.