الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - فقه عداوة المنافقين
…
[المنافقون: 4].
وقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 11 - 12].
المنافقون هم أعداء الدين حقاً، فصدوا عن سبيل الله بأنفسهم، وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم، فقد أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، وأقسموا على ذلك، وأوهموا صدقهم:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)}
…
[المنافقون: 2].
وهؤلاء المنافقون إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم من روائها ونضارتها، ومن حسن منطقهم تستلذ لسماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة، والهدى الصالح شيء، بل هم كأنهم خشب مسندة لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض كما قال سبحانه:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}
…
[المنافقون: 4].
فلجبنهم وخوفهم وضعف قلوبهم وريبهم يخافون من أي صيحة؟.
فهؤلاء هم العدو في الحقيقة؛ لأن العدو البارز أهون من العدو الذي لا يشعر به الإنسان، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي فيأخذ الأسرار وهو العدو المبين.
وما أعظم فساد المنافقين، فإنهم يكفرون بآيات الله، ويصدون عن سبيل الله، ويخادعون الله وأولياءه، ويوالون المحاربين لله ورسوله، ويفسدون في الأرض، ويزعمون أنهم مصلحون:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 12].
والمنافقون والمنافقات في كل زمان، وفي كل مكان، تختلف أقوالهم وأفعالهم، ولكنها ترجع إلى طبع واحد، وتنبع من معين واحد، فهم من طينة واحدة، وطبيعة واحدة:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: 67].
قلوبهم مشتملة على سوء الطوية .. ولؤم السريرة .. والغمز والدس .. والضعف عن المواجهة .. والجبن عند المصارحة.
أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر .. والنهي عن المعروف .. والبخل بالمال إلا أن يبذلوه رئاء الناس .. نسوا الله .. فلا يحسبون إلا حساب الناس وحساب المصلحة .. فنسيهم الله فلا وزن لهم، ولا اعتبار في الدنيا والآخرة، فهم فاسقون خارجون عن ملة الإسلام، فما هو جزاؤهم؟.
والصلاة على الميت المنافق، والقيام على قبره تكريم، والمؤمنون يجب أن لا يبذلوا هذا التكريم لهذه الفئة الضالة الماكرة كما قال الله سبحانه لنبيه (:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84].
فهذا التكريم لا يستحقه من يتخلف عن الصف في ساحة الجهاد، لتبقى للتكريم قيمته، ولتظل قيمة الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل الله، وبما يصبرون على البذل، ويثبتون على الجهد، ويخلصون أنفسهم وأموالهم لله، لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة.
وكما لا يُقبل هؤلاء المنافقون للعودة في صفوف الجهاد، كذلك لا يستحقون أي تكريم؟ {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 83 - 84].
وعلى المؤمنين أن لا يقيموا كذلك وزناً لأموال المنافقين وأولادهم؛ لأن الإعجاب بهما نوع من التكريم المعنوي لهم، وهم لا يستحقونه لا في الظاهر ولا في الباطن، إنما هو الاحتقار والإهمال لهم ولما يملكون من أموال وبنين:{وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)} [التوبة: 85].
وقد قرر الله الأحكام النهائية بين المسلمين والمشركين .. ثم بين المسلمين وأهل الكتاب .. ثم بين المسلمين والمنافقين.
فالمنافقون فسقوا عن دين الله، والله لا يرضى عن القوم الفاسقين، إنهم رجس خبيث يلوث الأرواح، ودنس قذر يؤذي المشاعر، وهم كالجثة المنتنة وسط الأحياء تؤذي وتعدي:{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)} [التوبة: 95].
فلهذا استحقوا بكفرهم وفسقهم، وجرمهم وكيدهم الدرك الأسفل من النار كما قال سبحانه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].
وليس للمنافقين عمل بين المسلمين إلا نشر الباطل، ومحاربة الحق، والتشكيك في الإسلام، وهم متحركون بباطلهم، ولا بدَّ لهم من مكان يجتمعون فيه لِيُّحْكموا خطط الدس والتشكيك في الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، والكيد لهم، والإضرار بهم، والتعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين:{وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران: 119 - 120].
وقد أنشأ المنافقون أول معقل لهم في المدينة جوار مسجد قباء وهو مسجد الضرار لتنفيذ كيدهم ومكرهم، فكشف الله هذا المكان الذي سموه باسم الدين، ليخدعوا المغفلين، وليضربوا من خلاله الإسلام والمسلمين كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}
…
[التوبة: 107].
وقد نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراقه وهدمه، فأُحرق وهُدم، وبطل كيد المنافقين، وقال الله لرسوله (:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 108].
والعمل وإن كان ظاهره الصلاح فإن مداره على النية الخالصة لله، فالمساجد التي أسست على التقوى خير من المساجد التي بنيت على النفاق والإضرار بالمسلمين:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)} [التوبة: 109].
وهذا المسجد الذي بناه المنافقون .. واتخذوه ليكون مكيدة للإسلام والمسلمين .. والإضرار بالمسلمين .. والكفر بالله .. وستر المتآمرين على المؤمنين .. والكافرين لهم في الظلام .. والتعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين .. وباسم الدين .. هذا المسجد ما يزال يُتخذ في كل زمان ومكان في صور شتى، تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين:
تُتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام، وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه وخنقه، وتُتخذ كذلك في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتترس وراءها، وهي ترمي هذا الدين وتذبحه بالخفاء بالسكين.
وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات، وكتب وبحوث، تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين على الإسلام، الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق فتخدرهم تلك، وتطمئنهم أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق، فالمساجد مفتوحة، والشعائر قائمة، ولو كانت الأسواق ملعونة، والأخلاق منحوتة.
وتتخذ في صور شتى كثيرة، وتكشف خمارها، وتكشر عن أنيابها كلما سنحت لها فرصة:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}
…
[الصف: 8].
وقد انتشرت مساجد الضرار الكثيرة في بلاد المسلمين، وفي بلاد الكفار، ولا يزال الإسلام يحارب من خلالها، وقد جلبت على المسلمين كل شر وفتنة وبلاء، وعم بلاؤها المدن والقرى، والرجال والنساء.
ولخطر مساجد الضرار الكثيرة، فالواجب على علماء الأمة ودعاتها كشفها، وانزال اللافتات الخادعة عنها، وبيان حقيقتها للناس، وما تخفيه وراءها، ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي اتخذه المنافقون لضرب الإسلام وأهله، ومركزاً يجتمع فيه دعاة الباطل والضلال للكيد للإسلام وأهله.
فلا بدَّ لتماسك المجتمع المسلم ووحدته من هدم كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مسجد التقوى، ويراد به ما أريد بمسجد الضرار، وأن تكشف كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة.
وبين مسجد التقوى وأعماله .. ومسجد الضرار وأعماله .. فرق كبير.
هذا يؤدي إلى النار، وذلك يؤدي إلى الجنة.
فمسجد التقوى مبني بأمر الله، موصل إلى رضوانه .. ومسجد الضرار مبني بأمر الشيطان، موصل إلى النار:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)} [التوبة: 109].
والمنافقون يعتمدون على إتقانهم مهارة النفاق، وعلى خفاء أمرهم في الغالب، وعلى ستر عداوتهم وحسدهم في الغالب، ولكن الله لهم بالمرصاد يكشف أستارهم، ويفضح كيدهم ومكرهم:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)} [محمد: 29 - 30].
والله سبحانه يعلم حقائق النفوس ومعادنها، ويطلع على خفاياها، ويعلم ما يكون من أمرها علمه بما هو كائن فعلاً.
والابتلاء بالسراء والضراء .. وبالنعماء والبأساء .. وبالسعة والضيق .. وبالفرج والكرب .. كل ذلك يكشف ما هو مخبوء من معادن النفوس .. وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31].
هكذا تتم حكمة الله في الابتلاء.
ومع هذا فإن المؤمن يرجو أن لا يتعرض لبلاء الله وامتحانه، ويتطلع إلى عافيته ورحمته، فإن أصابه بلاء بعد هذا صبر له، وهو مدرك لما وراءه من حكمة، مستسلم لمشيئة ربه، متطلع إلى رحمته وعافيته بعد الابتلاء.
والقرآن يصور القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)} [الحشر: 11].
والله الخبير بقلوب العباد يقرر غير ما يقررون، ويؤكد غير ما يؤكدون:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)} [الحشر: 11 - 12].
والمنافقون لجهلهم بالله، وقلة فقههم، يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله، ولو خافوا الله ما خافوا أحداً من خلقه: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)} [الحشر: 13].
والمنافقون أجبن الناس وأخوفهم، ولرهبتهم من المؤمنين قال الله تعالى عنهم:{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} [الحشر: 14].
فهم متفرقون .. متنازعون .. مختلفون .. بأسهم بينهم شديد .. بخلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم .. وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء تواصل الزمان والمكان والجنس والعشيرة والوطن.
والمظاهر قد تخدع، فنرى تضامن أهل الكتاب فيما بينهم، كما نرى تجمع المنافقين أحياناً في معسكر واحد، ولكن هذا كله مظهر خارجي خادع:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} [الحشر: 14].
وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخادع، وينكشف الحال عن نزاع داخل المعسكر الواحد.
وما صَدَق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم على الله حقاً إلا وانكشف العدو أمامهم عن هذه الاختلافات، وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل ينفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد، والشقاق والكيد والدس في القلوب المتنافرة.
وما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب من المسلمين إلا عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين.
والله سبحانه يعرض أحوال هؤلاء المنافقين ليهوِّن من شأنهم أمام المؤمنين، ويرفع من نفوس المؤمنين هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم.
ومتى أخذ المؤمنون بكتاب ربهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله، وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد، صف الإيمان الذي لا تقف له قوة في الأرض.
والمنافقون فيهم خبث الطبع، وخسة المشاعر: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى
مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)}
…
[المنافقون: 7].
إنها خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها في كل زمان ومكان على حرب العقيدة، ومناهضة الدين.
ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة، كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين.
إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب في مكة، لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلموه للمشركين.
وهي خطة المنافقين وهم يقاطعون مَنْ عند رسول الله، لينفضنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه تحت وطأة الضيق والجوع.
وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعاة إلى الله في بلاد المسلمين بالحصار والتجويع، ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق.
وهكذا يتوافى ويتوافق على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان من قديم الزمان إلى هذا الزمان، ناسين أن الله غني:{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} [المنافقون: 7].
ومن خزائن السموات والأرض .. يرتزق هؤلاء الذين يريدون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم.
فما أجهلهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين؟.
فالله جل جلاله يثبت المؤمنين، ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة، والوسيلة الخسيسة، التي يلجأ إليها أعداء الله في حربهم للمسلمين، ويطمئنهم أن خزائن الله في السموات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع، فكل سيصل إليه رزقه.
والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه، فقد شاء العزيز الرحيم أن لا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ
رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65].
وقد علم الله سبحانه أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يرزقون أنفسهم قليلاً ولا كثيراً لو قطع عنهم الأرزاق، وهو أكرم أن يكل عباده ولو كانوا أعداءه إلى ما يعجزون عنه البتة:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} [فاطر: 45].
فالتجويع خطة لا يفكر فيها، ولا يدعو إليها، ولا يقوم بها، إلا أخس الأخساء، وألأم اللؤماء.
ولعظيم خطر المنافقين على المسلمين كشف الله في القرآن صفاتهم، وبين عوراتهم، وفضحهم حتى لا يخفى أمرهم على أحد.
فبين سبحانه أنهم هم السفهاء .. المفسدون في الأرض .. المخادعون لله ورسوله والمؤمنين .. المستهزئون .. المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى .. وأنهم صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون .. وأنهم مرضى القلوب .. وأنهم أهل الحيرة والكسل عند العبادة .. وأهل التردد والتذبذب بين المؤمنين والكفار.
وأنهم أهل الرياء مع قلة ذكر الله .. وكثرة الحلف باسم الله تعالى كذباً وباطلاً.
وأنهم أهل الجبن والبخل .. لا يفقهون ما ينفعهم .. ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر .. وأنهم يكيدون للإسلام والمسلمين .. ويكرهون ظهور أمر الله .. وأنهم يحزنون إذا حصل للمسلمين خير ونصر .. ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاء .. وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين .. ويكرهون الإنفاق في سبيل الله ومرضاته .. وأنهم يعيبون المؤمنين .. ويرمونهم بما ليس فيهم .. فيرمون الأغنياء عند الصدقة بالرياء .. ويلمزون المتصدقين الفقراء ..
وهم عبيد الدنيا .. إن أُعطوا منها رضوا .. وإن لم يُعطوا سخطوا .. يؤذون الله ورسوله .. ويسخرون من المؤمنين.
وأنهم يكرهون الجهاد في سبيل الله .. ويفرحون إذا تخلفوا عن نصرة الدين ..
ويتحايلون على تعطيل فرائض الله .. وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه.
وأنهم أحلف الناس بالله .. قد اتخذوا أيمانهم جنة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم .. وأنهم رجس .. فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم .. وبأنهم فاسقون .. وأنهم مضرة على المؤمنين .. يقصدون التفريق بينهم .. ويوارون من حارب الله ورسوله.
وأنهم يتشبهون بالمؤمنين ويضاهونهم في أعمالهم؛ ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم.
وأنهم أحسن الناس أجساماً .. تعجب الرائي أجسامهم .. والسامع منطقهم .. فإذا جاوزت أجسامهم ومنطقهم رأيت خشباً مسندة .. لا إيمان ولا فقه .. ولا علم ولا صدق.
وإذا عرضت عليهم التوبة والاستغفار أبوها وزعموا أنه لا حاجة بهم إليها .. يأمرون بالمنكر .. وينهون عن المعروف .. ويتولون الكفار، ويَدَعُون المؤمنين.
قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله .. فهم حزب الشيطان الذين يوادون من حاد الله ورسوله .. وأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .. قد بدت البغضاء من أفواههم .. وما تخفي صدورهم أكبر.
إذا حدث أحدهم كذب .. وإذا عاهد غدر .. وإذا خاصم فجر .. وإذا أؤتمن خان .. وإذا وعد أخلف.
يؤخرون الصلاة عن وقتها .. فإذا أدوها نقروها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة.
أشحة على المؤمنين بالخير .. أجبن الناس عند الخوف .. فإذا ذهب الخوف وجاء الامن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد وهم أشد الناس تقلباً .. لا يثبتون على حال .. بينما تراه صالحاً تعجبك حاله إذ انقلب إلى ضد ذلك .. معرضون عن الدين .. معارضون له .. يكتمون الحق .. ويُلَبِّسون على أهله.
يرمون المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله .. وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر بأنهم أهل فتن، مفسدون في الأرض، أهل بدع وضلال.
وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله (رموهم بما ينفر الناس عنهم.
وإن رأوا معهم حقاً ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاء العقول في قالب شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحق ليقبل منهم.
حالهم تروج على أكثر الناس، لعدم بصيرتهم بالنقد.
وليس أضر على الأديان من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قِبلهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى، وسلكوا بهم سبل الردى.
صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم توجب غضب الجبار، ودخول النار، فحذار حذار منهم:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)} [المنافقون: 4].
فهذه النبتة الخبيثة، والحشرة السامة، والبذرة الشاذة، التي تنخر في جسد الأمة الإسلامية، لا بدَّ من اجتثاثها، وقطع عروقها، قبل أن تكبر وتنتشر بذورها وسمومها في أرض الله، وتهلك الحرث والنسل:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)} [التوبة: 73].
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه .. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، واستعمل جوارحنا في عبادتك، وأشغل ألسنتنا بذكرك.