الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - فقه التخلص من المعاصي
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68].
وقال تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74].
العارف بالله من يعظم ربه أمام الناس ليعظموه، ويكبره أمامهم ليكبروه، فإذا عظموه عظموا كلامه، وعظموا أوامره، فأطاعوه وتجنبوا معاصيه.
وكذلك يحبب الله لخلقه بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، فالقلوب مفطورة على حب من أحسن إليها، فإذا ذكرت آلاء الله وإنعامه تعلقت بحبه، وهان عليها ترك الذنوب، وترك الإصرار عليها، ونشطت وتلذذت بطاعته.
فالعارف لا يأمر الناس بترك الدنيا، فإنهم لا يقدرون على تركها لأول وهلة، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم؛ لأن ترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، فلا يؤمر بالفضيلة من لم يقم بالفريضة.
وترك الدنيا التي تشغل العبد عن الله صعب على النفوس، فإن الفطام عن الثدي الذي ما عقل الإنسان نفسه إلا وهو يرتضع منه شديد.
وليس المراد ترك أسباب الكسب، فإن الدنيا دار الأسباب الدنيوية والأخروية، وإنما المراد التقلل منها، والأخذ منها بقدر الحاجة، وإنفاق ما سوى ذلك في مرضاة الله.
فمن قوي على مرارة الفطام فذلك خير، وإلا فليرتضع بقدر حتى يأذن الله له بمعرفة الباقي من الفاني فيؤثره.
ويهون على العبد ترك الذنوب والمعاصي إذا علم أن في تركها مرضاة الرب .. ومحبة الرب .. ومحبة الخلق .. وصلاح المعاش .. وراحة البدن .. وقوة القلب ..
وانشراح الصدر .. ونعيم القلب .. وحصول المروءة .. وصون العرض .. وقلة الهمّ والغمّ والحزن .. وعز النفس عن احتمال الذل .. وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعاصي.
ويسهل على الإنسان ترك المعاصي إذا عرف عظمة ربه وجلاله، وغزارة نعمه عليه وعلى غيره، ولاحظ عفوه وإحسانه، فلا يليق بمن هذه عظمته، وهذه نعمه أن يعصيه، بل الواجب طاعته، وشكر نعمه، والتسبيح بحمده سراً وجهراً ليلاً ونهاراً.
ويسهل عليه كذلك ترك الذنوب والمعاصي إذا علم أن في تركها تيسير الرزق عليه .. ووصوله إليه من حيث لا يحتسب وحصول البركة فيه .. وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي .. وتسهيل الطاعات عليه .. وكثرة الدعاء له .. والحلاوة التي يكتسبها في وجهه .. والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس .. وانتصارهم له إذا أوذي أو ظلم .. وسرعة إجابة دعائه .. وزوال الوحشة التي بينه وبين الله .. وقرب الملائكة منه .. وبعد الشياطين عنه .. وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه .. ورغبتهم في صحبته .. وعدم خوفه من الموت .. وصغر الدنيا في قلبه .. وكبر الآخرة عنده .. وذوق حلاوة الطاعات .. ووجدان حلاوة الإيمان في قلبه .. ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له.
هذه بعض آثار ومنافع ترك المعاصي في الدنيا.
أما في الآخرة فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة .. وانتقل من سجن الدنيا إلى روضة من رياض الجنة .. ينعم فيها في قبره إلى أن تقوم الساعة.
فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحر والعرق .. وهو في ظل عرش الرحمن، فإذا انصرفوا بعد الحساب من بين يدي الله، أخذت به الملائكة ذات اليمين إلى جنات النعيم مع أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، حيث النعيم المقيم، يتجول بين القصور، ويتلذذ بالنساء والحور، ويتنعم بالأكل من ألوان الأطعمة
والفواكه، ويشرب من أنهار اللبن والماء والعسل والخمر .. وغير ذلك من النعيم الذي لم يخطر بباله:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
وفوق ذلك كله تمتع برؤية ربه، وفوزه برضوانه كما قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72].
فهل يزهد في هذا النعيم من له أدنى مسكة من عقل؟.
وهل يحرم نفسه منه بمعصية من يملكه إلا مارج العقل والدين؟.
إنه ليس في الآخرة إلا نعيم أو عذاب .. وإكرام أو إهانة .. وسعادة أو شقاوة .. مع الخلود والتأبيد .. ولكل دار عمل وعمال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].
والعاقل إنما يقدم طاعة الله على طاعة النفس .. ومحبوبات الله على محبوبات النفس .. وطاعة الرحمن على طاعة الشيطان .. والدار الباقية على الدار الفانية .. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}
…
[الجمعة: 4].
والمعاصي والذنوب ضربان:
كبائر .. وصغائر.
فالكبائر تكفرها التوبة النصوح كما قال سبحانه: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} [المائدة: 39].
أما تكفير الصغائر فيقع بشيئين:
…
[هود: 114].
الثاني: اجتناب الكبائر كما قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصَّلاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» أخرجه مسلم (1).
وقد خلق الله الإنسان ضعيفاً من جميع الوجوه:
فهو ضعيف البنية .. ضعيف الإرادة .. ضعيف القوة .. ضعيف العلم .. ضعيف الصبر، فلا بدَّ له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره وإلا هلك، وخلقه على هذه الصفة من الأمور التي يحمد عليها الله سبحانه، وهو بالنسبة إلى الخالق خير وعدل وحكمة.
وبالنسبة إلى العبد ينقسم إلى خير وشر، وطاعة ومعصية، فالإنسان ضعيف، تارة يتبع الشهوات، وتارة ينفذ أوامر الرب، حسب قوة الإيمان وضعفه.
وشهوة الطعام والشراب، وشهوة الفرج من أعظم الشهوات، فلهذا أباح الله لنا جميع الطيبات وحرم علينا الخبائث، وأباح لنا أن ننكح ما طاب لنا من النساء إلى أربع، وأن نتسرى من الإماء بما شئنا.
والعبد له في باب الشهوات ثلاثة أحوال:
حالة جهل بما يحل له ويحرم عليه .. وحالة تقصير وتفريط .. وحالة ضعف وقلة صبر.
فقابل سبحانه جهل العبد بالبيان والهدى، وقابل تقصيره وتفريطه بالتوبة، وضعفه وقلة صبره بالتخفيف كما قال سبحانه:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 26 - 28].
(1) أخرجه مسلم برقم (233).
ويهوَّن على العاصي ترك الذنوب إذا علم أنه سوف يحاسب عليها، وأنه سوف يمكث في النار بحسب قلتها أو كثرتها، وأنه في الدنيا لا يطيق حرارة الشمس ولا شدة البرد، فكيف يطيق عذاب نار جهنم؟.
وعذاب الدنيا الذي يحصل للعصاة بسبب معاصيهم شديد، وعذاب الآخرة أشد وأبقى وأخزى:
وذلك بسبب قوته وشدته .. وبسبب دوامه وعدم انقطاعه .. وبسبب كثرة أنواعه .. وبسبب اليأس من زواله .. وبسبب أنه لا يختلط به شيء من موجبات الراحة كما قال سبحانه عن الكفار والعصاة: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34].
وكل من كملت عظمة الخالق في قلبه عظمت عنده مخالفته.
ومن عرف قدر نفسه، وفقرها الذاتي إلى مولاها، وشدة حاجتها إليه، عظمت عنده الجناية، ومخالفة من هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة.
ومن عرف حقارة الجناية مع عظم قدر من خالفه، عظمت عنده الجناية، فشمر في التخلص منها.
وبحسب تصديق الإنسان بالوعيد، ويقينه به، يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تسبب عقوبته وهلاكه كما قال سبحانه:{ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم: 14].
والمعاصي والبدع ضربان: صغائر .. وكبائر.
والكبائر: كل ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن، أو غضب، أو عقوبة، وكل ما لم يقترن بالنهي عنه شيء من ذلك فهو صغيرة.
والمعصية والبدعة لا تكون صغيرة إلا بشروط:
الأول: أن لا يداوم عليها، فإن داوم عليها فهو مصر عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة.
الثاني: أن لا يدعو الناس إليها، فما كان بين العبد وربه ترجى معه التوبة
والمغفرة، فإن دعا إليها فعليها وزرها ووزر من عمل بها.
الثالث: أن لا يفعلها في مجامع الناس كالمساجد والأسواق، وأماكن إقامة السنن، فهذا من أضر الأشياء على الناس، لكثرة من يقتدي به فيما يعمل في تلك الأماكن.
الرابع: أن لا يستصغرها ولا يحتقرها، فالاستهانة بالذنب أعظم من الذنب.
والذنوب كلها بالنسبة إلى الجرأة على الله سبحانه معصية، ومخالفة أمره كبائر، وذلك بالنظر إلى من عصيت أمره، وانتهكت محارمه.
والمعصية تتضمن الاستهانة بالآمر، والاستهانة بأمره، والتوثب على حق الرب عز وجل وذلك كله يحتاج من العبد إلى التوبة والاستغفار:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110].
إن أول ما يفسد من الشجرة الجذور ثم ينتشر الفساد على باقي الشجرة، ثم تتعفن الثمرة، وكذلك الإنسان أول ما يفسد قلبه، ثم تفسد معاملاته ومعاشراته وأخلاقه، ثم تفسد عباداته، ثم يتحول من جند الرحمن إلى جند الشيطان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (1).
وإذا تذكر العبد أن الذي خلقه هو الله .. وأن الذي يرزقه هو الله .. وأن الذي أعطاه العقل والسمع والبصر هو الله .. وأن الذي أسكنه في الأرض هو الله .. وأن الذي هداه هو الله .. إذا ذكر هذا علم أن من هذه صفاته وهذه أفعاله لا يليق به إلا الطاعة التامة، والمحبة التامة .. وأن معصيته لا تليق بالإنسان فكيف بالعاقل، فكيف بالمسلم؟.
وهل يليق بالرب المحسن إلى العبد من جميع الوجوه أن يقابل ذلك بالمعاصي والسيئات التي أول ما تضر نفسه.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599) واللفظ له.
والناس رجلان:
منهم من يجمع الطيبات والحسنات والأعمال الصالحة التي ترضي الرب.
ومنهم من يجمع الخبائث والسيئات والأعمال السيئة التي تسخط الرب.
فإن غاب المذّكِّر رتعت الأمة في الشهوات والسيئات، وإن قام المذّكِّر تحولت الأمة من الشهوات والسيئات إلى الطاعات والحسنات، واكتفت من الشهوات بما أحل الله لها:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)} الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)}
…
[الأعلى: 9 - 13].
ولعافية الجسد لا بد من الأغسال المتكررة، وتناول الأغذية الطيبة، واستفراغ المواد الفاسدة.
ولعافية القلب لا بدَّ من التوبة المتكررة، وفعل الأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال السيئة:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31].
فما أحسن الاستغفار والتوبة من العبد الظالم الغافل الجاهل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110].
والطهر طهران:
طهر بالماء من الأحداث والأنجاس .. وطهر التوبة من الشرك والمعاصي.
وهذا الطهور أصل لطهور الماء، وطهور الماء لا ينفع بدونه، ولهذا قدمه الله كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}
…
[البقرة: 222].
اللهم طهر قلوبنا من النفاق .. وأعمالنا من الرياء .. وألسنتنا من الكذب .. وأعيننا من الخيانة .. وجوارحنا من البدع والمعاصي.