المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

‌9 - فقه التوبة من المعاصي

قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].

وقال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)}

[المائدة: 39].

المعاصي جمع معصية، والذنوب جمع ذنب، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأوامر الله ورسوله في ترك، أو فعل.

والذنوب قسمان:

صغائر .. وكبائر.

فالكبائر: ما توعد الله عليه بلعنة، أو غضب، أو طرد كالكفر والشرك، وقتل النفس المعصومة، والزنا والربا، والسرقة وقول الزور ونحو ذلك.

والصغيرة: ما دون ذلك من الذنوب.

وبعض الكبائر: قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر.

وجميع الصغائر: قد تكون كبيرة بحسب نية فاعلها، وتكرارها، وسروره بها، وقد يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وعدم الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى مراتبها.

وأصل الذنوب تنبعث من أربع صفات في القلب:

صفات ربوبية: كالكبر والعجب، وحب المدح والثناء، والعز والغنى وطلب البقاء والاستعلاء.

وصفات شيطانية: كالحسد والبغي، والحيل والنفاق، والمكر والكيد، والأمر بالفساد والمنكر، والغش والخداع، والدعوة إلى البدع والضلال، ونحو ذلك.

وصفات بهيمية: كالحرص والشهوة والشره، ومن ذلك يتشعب الزنا والسرقة،

ص: 3046

وأكل الأموال بالباطل، وجمع الحطام لأجل الشهوات.

وصفات سبعية: ومنها يتشعب الغضب والانتقام، والتهجم على الناس بالضرب، والشتم، والقتل، وأكل الأموال.

والذنوب والمعاصي نوعان:

أحدها: ذنوب بين العبد وربه كترك الصلاة والصوم، والواجبات الخاصة به من فعل محذور، وترك مأمور ونحو ذلك.

الثاني: ذنوب بين العبد والخلق كمنع الزكاة، وقتل النفس المعصومة، وغصب الأموال، وشتم الأعراض، وكل متناول من حق الغير.

وجميع الذنوب والمعاصي التي اقترفها الإنسان تحتاج إلى توبة، والتوبة لازمة لكل أحد وإلا هلك كما قال سبحانه:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}

[الحجرات: 11].

ومن أضل غيره ثم تاب فإن الله يقبل توبته، ويمحو وزره، ووزر من أضله، لكن عليه أن يدعو إلى الهدى كما دعا إلى الضلالة، فإن الحسنات يذهبن السيئات كما قال سبحانه:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114].

وعلامة التوبة: الإقلاع عن الذنب، ورقة القلب، وغزارة الدمع، وأن يشعر بمرارة تلك الذنوب في قلبه بدلاً من حلاوتها.

فيستبدل بالميل كراهة، وبالرغبة نفرة، وبالمعصية طاعة.

وشرط صحتها:

فيما يتعلق بالماضي أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ، ويفتش عما مضى من عمره، وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها .. فيكمله.

وينظر إلى المعاصي ما الذي قارفه منها .. فيتوب منه.

وأما المعاصي فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره، وعن بطنه وفرجه، وعن لسانه ويده ورجله، وسائر جوارحه.

ص: 3047

ثم ينظر في جميع أيامه ولياليه، ويفصل ويعرض ديوان معاصيه أمام نفسه، حتى يطلع على جميعها، صغائرها وكبائرها.

ثم ينظر فيها:

فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى كالتقصير في العبادات ونحوها مما لا يتعلق بمظالم العباد، فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها، وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر والعدد، ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها.

فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114].

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: «تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالََ: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).

وأما مظالم العباد ففيها أيضاً معصية وجناية على حق الله تعالى، فإن الله عز وجل نهى عن ظلم العباد، فما يتعلق بحق الله تعالى منه تداركه بالندم والتوبة، وترك مثله في المستقبل، والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها.

فيقابل مثلاً إيذاء الناس بالإحسان إليهم، ويكفر غصب أموالهم إن لم يجدهم بالصدقة بها عنهم، ويكفر عن غيبتهم بالثناء عليهم ونحو ذلك.

وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوؤهم أو يبيعهم في الغيبة، فيطلب كل من تعرض له بلسانه، أو آذى قلبه بفعل من أفعاله، ويستحلهم واحداً واحداً.

ومن مات منهم أو غاب فقد فات أمره، فيتدارك ذلك بتكثير الحسنات، والدعاء له، والتضرع إلى ربه، ليكف عقوبتها عنه بما شاء.

وأما العزم المرتبط بالمستقبل، فهو أن يعقد مع الله عقداً مؤكداً، ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب وأمثالها.

(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2004) وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1630).

وأخرجه ابن ماجه برقم (4246)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3424).

ص: 3048

وشفاء التوبة لا يحصل للعبد إلا بالدواء، ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، ولا يبطل الشيء إلا بضده.

وسبب الإصرار على الذنوب هو الغفلة والشهوة، ولا يضاد الغفلة إلا العلم، ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة.

ولا يحمل الإنسان على ترك المعاصي والذنوب إلا قوة الإيمان التي يحب بسببها الطاعات والحسنات، ويبغض المعاصي والسيئات، ومعرفة الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين، والآيات والأحاديث في مدح التائبين، وذم العاصين، ومعرفة أحوال الأنبياء والصالحين، وما جرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم، مثل أحوال آدم صلى الله عليه وسلم وخروجه من الجنة بسبب معصيته كما قال سبحانه:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122].

ويعرف أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جنايته.

والذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)}

[النساء: 123].

ويذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب كالجلد على شرب الخمر، والرجم والجلد على الزنا، وقطع اليد في السرقة، والقصاص على القاتل عمداً وكذا الكبر والنفاق والحسد والغيبة، وغير ذلك مما لا يمكن حصره.

والتوبة إلى الله من الذنب مركبة من ثلاثة أمور:

علم .. وحال .. وفعل.

أما العلم فهو معرفة ضرر الذنوب، وكونها حجاباً بين العبد وبين كل محبوب، ومعرفة عظمة من عصيته.

فإذا عرف العبد ذلك بيقين غالب على قلبه، ثار من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب.

ص: 3049

فإن كان حصل فواته تأسف على الفعل المفوت، وأعقب الندم.

فإذا غلب هذا الألم على القلب، انبعث من القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال والماضي والمستقبل:

أما تعلقه بالحال فبترك الذنب الذي كان ملابساً له.

وأما في المستقبل فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر.

وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر والقضاء، والإكثار من الاستغفار.

والناس قسمان: تائب .. وظالم كما قال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11].

والتوبة معناها الرجوع، فالتائب هو الراجع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة .. ومما نهى الله عنه إلى ما أمر الله به.

فمن رجع عن المعاصي خوفاً من عذاب الله فهو تائب .. ومن رجع عنها حياءً من الله فهو منيب .. ومن رجع عنها تعظيماً لجلال الله سبحانه فهو أواب، كما وصف الله خليله صلى الله عليه وسلم بقوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)} [هود: 75].

فعلينا أن نطهر ظواهرنا وبواطننا من الذنوب والمعاصي، فإن ذنوبنا من أكبر عيوبنا، وهي أوساخ تدنس قلوبنا وجوارحنا.

فنبدأ بتطهير قلوبنا من الشك والشرك والشبهات .. ثم التطهر من المحرمات كما قال سبحانه: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} [الأنعام: 120].

ثم التطهر من المكروهات، ثم من المشتبهات، ثم من فضول المباحات، ثم من كل شاغل يشغل عن رب الأرض والسموات.

والعبد في الذنب ينظر إلى أربعة أمور:

الأول: نظر إلى الأمر والنهي، فهو لم يخلق إلا لعبادة الله وطاعته.

الثاني: نظر إلى الحكم والقضاء، فالله له الخلق والأمر وحده، يفعل ما

ص: 3050

يشاء بحكمته.

الثالث: نظر إلى محل الجناية، وهي النفس الأمارة بالسوء، فيعرف أنها جاهلة ظالمة، وعنها يصدر كل عمل قبيح، فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها عن الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها من الظلم.

الرابع: نظره إلى الآمر له بالمعصية، المزين له فعلها، وهو الشيطان الموكل به، فيفيده ذلك ملاحظته، واتخاذه عدواً، وكمال الاحتراز منه، وعدم طاعته.

وعلى المسلم أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي، ويهجر ما نهى الله عنه من الأقوال والأعمال، والمعاصي والسيئات.

والهجرة ثلاثة أقسام:

هجرة المكان .. وهجرة العمل .. وهجرة العامل.

فهجرة المكان: هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام رغبة فيما عند الله.

وهجرة العمل: هو أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفواحش والفسوق، وسائر الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» متفق عليه (1).

وهجرة العامل: معناها هجر الرجل المجاهر بالمعصية، الذي لا يبالي بها، كمن عُرف بالغش في البيع والشراء، فيُهجر لعله يتوب ويعود إلى الصواب.

والتوبة أحب الأشياء إلى الله، ولذلك ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه، وهو آدم صلى الله عليه وسلم وذريته.

فالتوبة هي غاية كمال الآدمي، فكمال الآدمي في هذه الدنيا بالتوبة النصوح، وفي الآخرة بالنجاة من النار، ودخول الجنة.

والله عز وجل يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده، ولفرحه بها يقضي على عبده بالذنب، فإن كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة، وإن كان ممن غلبت

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (10) واللفظ له، ومسلم برقم (40).

ص: 3051

عليه شقاوته، أقام عليه حجة عدله، وعاقبه بذنبه كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» متفق عليه (1).

والله جل جلاله له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، ولكل اسم من أسمائه أثر من الآثار في الخلق والأمر.

فالخالق يقتضي مخلوقاً .. والرازق يقتضي مرزوقاً .. والغفار يقتضي مغفوراً له .. والتواب يقتضي مذنباً يتوب عليه .. والحليم يقتضي سفيهاً يحلم عليه .. وهكذا.

وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها.

فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح.

وعلامة سعادة العبد أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها، وبالتوبة منها، والله يتولى حفظه ونصرته والدفع عنه.

وما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب منه.

ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي، فِي أمْرِي وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ

(1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (6308)، ومسلم برقم (2747) واللفظ له.

ص: 3052

ذَلِكَ عِنْدِي» متفق عليه (1).

والتوبة من الذنوب واجبة على كل مسلم ومسلمة كما قال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31].

ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً فإن الله يتوب عليه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وكل من كان غير آثم فهو غير معاقب لا في القبر ولا في الآخرة.

وأما في الدنيا فالتوبة لا تكون مسقطة للعقوبات الواجبة لحق الله تعالى من حد سرقة أو زنا أو شرب مسكر بعد ثبوتها.

وكذا ما وجب لحق آدمي من قصاص أو مال أو حد قذف، أو تعزير.

كما لا تسقط بها الكفارات وسائر الواجبات التي أثم بسبب تركها من صلاة أو صيام أو زكاة أو غيرها فلا بدَّ من الإتيان بها؛ لأنها حقوق لا ذنوب، وإنما الذنب في تأخيرها، فيسقط بالتوبة إثم المخالفة بالتأخير، لا نفس الحق المؤخر من صلاة وزكاة ونحوها.

وكل إنسان على خطر عظيم، فهو مع كونه ظلوماً جهولاً، كفوراً قتوراً، ضعيفاً عجولاً، تصيبه آفات أخرى كالعجز والكسل، والغفلة والنسيان، والإسراف والتبذير، والحرص والشره.

فعليه أن يستدرك ما فرط فيه بالعلم والعمل .. وما سلف منه من الإساءة بالإحسان .. وأن يتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم .. ويخلص إيمانه وأعماله من خبث الجناية، فالجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب القلب والبدن والعمل.

فلا يمكن للعبد من دخول الجنة إلا بعد هذا التمحيص، ولهذا تقول الملائكة لأهل الجنة:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73].

وتمحيص العبد من الذنوب في الدنيا بأربعة أشياء:

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6398)، ومسلم برقم (2719) واللفظ له.

ص: 3053

بالتوبة النصوح .. والاستغفار .. والحسنات الماحية .. والمصائب المكفرة.

فإن محصته هذه الأربعة كان من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، ومن الذين تتنزل عليهم الملائكة عند الموت كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].

وإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه وتخليصه محص في البرزخ بثلاثة أشياء:

أحدها: صلاة المؤمنين الجنازة عليه، واستغفارهم له، وشفاعتهم فيه.

الثاني: تمحيصه بفتنة القبر، وروعة الفتًّان، والعصرة والانتهار.

الثالث: ما يهدي إليه إخوانه المسلمون من هدايا الأعمال من الصدقة عنه، والدعاء له، والصيام عنه، والحج عنه، وجعل ثواب ذلك له.

فإن لم تف هذه الثلاثة بتمحيصه محص بين يدي ربه في الموقف بأربعة أشياء:

أهوال القيامة .. وشدة الموقف .. وشفاعة الشفعاء .. وعفو الله عز وجل.

فإن لم تف هذه الأربعة بتمحيصه، فلا بدَّ له من دخول الكير رحمة في حقه، ليتخلص ويتمحص ويتطهر في النار، ويكون مكثه فيها على حسب كثرة الخبث وقلته، وشدته وضعفه وتراكمه.

فإذا خرج خبثه، وصفا ذهبه، وصار طيباً خالصاً، أخرج من النار وأدخل الجنة:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 71، 72].

وأما الاستغفار فهو نوعان:

مفرد .. ومقرون بالتوبة.

فالمفرد كقوله سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12].

ص: 3054

والمقرون بالتوبة كقوله سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)} [هود: 3].

فالاستغفار يتضمن التوبة .. والتوبة تتضمن الاستغفار .. وكل منهما يتضمن الآخر عند الإطلاق.

وأما عند الاقتران: فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى .. والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه العبد في المستقبل من سيئات أعماله.

فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، والله سبحانه لم يجعل شيئاً يحبط جميع الحسنات إلا الكفر كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].

وكذلك لم يجعل الله شيئاً يحبط جميع السيئات إلا التوبة كما قال سبحانه: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].

وإذا خرج العبد عما خلق له من الطاعة والعبودية فقد خرج إلى أحب الأشياء إليه، وعن الغاية التي خلقت من أجلها الخليقة، وصار كأنه خلق عبثاً لغير شيء.

فإذا رجع إلى ما خلق له وأوجد من أجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره، ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها، وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل.

فاشتدت محبة الله له، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأوجبت هذه المحبة فرحاً عظيماً كأعظم ما يقدر من الفرح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأرْضِ فَلاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأيِسَ مِنْهَا، فَأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ

ص: 3055

مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ! أنْتَ عَبْدِي وَأنَا رَبُّكَ أخْطَأ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» متفق عليه (1).

والتوحيد يكفر الذنوب، فلو لقي العبد المسلم ربه بقراب الأرض خطايا للقيه بقرابها مغفرة.

فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موحد، إن قوي التوحيد على محو آثارها بالكلية، وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا نقوا من ذنوبهم.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام، فَبَشَّرَنِي أنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» قُلْتُ: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ» متفق عليه (2).

وأما الكفار والمشركون فإن كفرهم وشركهم يحبط حسناتهم، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة، ولا يغفر لهم شيء من ذنوبهم كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116].

وقال سبحانه في أعمال الكفار والمشركين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].

فالذنوب والمعاصي تزول آثارها بالتوبة النصوح، والتوحيد الخالص، والحسنات الماحية، والاستغفار، والمصائب المكفرة لها وشفاعة الشافعين في الموحدين، ورحمة أرحم الراحمين.

والتوبة لها مبدأ ومنتهى:

فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي نصبه لعباده موصلاً إلى رضوانه، وأمرهم بسلوكه بقوله سبحانه:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153].

ونهاية التوبة: الرجوع إلى الله في المعاد، وسلوك صراطه الذي نصبه موصلاً

(1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (6308)، ومسلم برقم (2747) واللفظ له.

(2)

متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (1237)، ومسلم برقم (94) واللفظ له.

ص: 3056

إلى جنته.

فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة، رجع إليه في المعاد بالثواب كما قال سبحانه:{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان: 71].

وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة من الله عليه بعدها، فتوبته بين توبتين من ربه، فإنه سبحانه تاب عليه أولاً إذناً وتوفيقاً، فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانياً فقبلها منه وأثابه عليها.

فالله تواب، والعبد تواب، وتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الإباق.

وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق .. وقبول وإمداد.

وتوبة العبد: هي رجوعه مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً.

وسمى العبد تائباً لرجوعه إلى أمر الله من نهيه، وإلى طاعته من معصيته.

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117].

والتوبة إلى الله واجبة من كل ذنب.

فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها خمسة شروط:

أحدها: أن تكون خالصة لله تعالى.

الثاني: أن تكون التوبة في وقتها.

الثالث: أن يقلع عن المعصية.

الرابع: أن يندم على فعلها.

الخامس: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً.

فإن فقد أحد الخمسة لم تصح توبته.

وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها ستة، هذه الخمسة، والسادس أن يبرأ

ص: 3057

من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه، أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها.

والتوبة واجبة على كل مسلم ومسلمة من جميع الذنوب كما قال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور: 31].

فإن تاب من بعض الذنوب دون بعض صحت توبته من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي.

والتوبة النصوح تتضمن ثلاثة أشياء:

أحدها: التوبة من جميع الذنوب والمعاصي.

الثاني: إجماع العزم على التوبة بحيث لا يكون عنده تردد فيها.

الثالث: إخلاص التوبة لله.

فالأول يتعلق بما يتوب منه، والثاني يتعلق بذات التائب، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)} [التحريم: 8].

والأنبياء والرسل أعظم الخلق معرفة بالله، وأشدهم اجتهاداً في العبادة؛ لما أعطاهم الله من فضله، وحباهم به من نعمه، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير، لكمال معرفتهم به، وبما يجب له سبحانه، فهم أكثر الناس استغفاراً، وأحسنهم عملاً، وأكثرهم توبة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أتُوبُ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّة» أخرجه مسلم (1).

(1) أخرجه مسلم برقم (2702).

ص: 3058

والتوبة التي تكرَّم الله بقبولها من عبده هي ما كان قبل معاينة الموت والعذاب المهلك كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} [النساء: 17].

وأما بعد حضور الموت فلا يقبل من الكفار رجوع، ولا من العاصين توبة، كما قال سبحانه:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} النساء: 18].

فالتوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار قبل معاينة الهلاك.

وهذه الأمة خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى عنه.

وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله، وجهادهم على ذلك، وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم.

فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)}

[آل عمران: 110].

ومن قصر في تكميل نفسه .. أو قصر في تكميل غيره .. أو قصر فيهما معاً، فلا بدَّ له من التوبة:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)} [الحجرات: 11].

والنقص والتقصير من لوازم البشر، والغفلة والنسيان من طبيعة البشر، فالتقصير والنقص حاصل في كل عمل قطعاً.

تقصير في الاستقامة على الحق .. وتقصير في الدعوة إلى الحق.

ص: 3059

فليس للعبد إلا الاستغفار المستمر على ما سلف من الذنوب والمعاصي، ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكثرة الاستغفار في ختام دعوته كما قال سبحانه:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].

والنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق، وأكرمهم على الله، وأعرفهم به، والمقدم على الخلق كلهم في جميع أنواع الطاعات، وكان أصحابه رضي الله عنهم يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم:«رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه أحمد والترمذي (1).

فكيف بحالنا نحن المقصرين المفرطين؟

كم نحتاج إلى الاستغفار والتوبة من الذنوب والمعاصي كل يوم، بل كل لحظة؟.

ألا ما أجهل البشر بربهم حين يقصرون في طاعته، ويقترفون معصيته، وينتهكون محارمه، ويخالفون أوامره:{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74].

فما أجهل الإنسان بربه، وما أظلمه لنفسه حين يتأخر عن طاعة ربه، ويقدم على معصيته، مع تواتر إحسان ربه إليه على مدى الأنفاس.

فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم .. وأزاح علله .. وبعث إليه رسله .. وأنزل عليه كتبه .. وساق إليه رزقه .. ومكنه من التزود إلى جنته .. وأعطاه السمع والبصر والفؤاد .. وعرَّفه الخير والشر .. وحبب إليه الطاعات .. وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وأعانه الله بجند من الملائكة يحرسونه، ويحاربون عدوه، ويريدون منه أن لا يميل إليه، ولا يصالحه، وهم يكفونه مؤنته، ويأبى إلا مظاهرته عليهم، وموالاته دونهم: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ

(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (4726)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (556).

وأخرجه الترمذي برقم (3434)، صحيح سنن الترمذي رقم (2731).

ص: 3060

فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 119].

والله عز وجل عادى هذا الشيطان ولعنه، وأبعده وطرده، وهذا الإنسان يواليه، ويميل إليه، ويطيع أوامره.

فما أعجب حال الإنسان حين يطيع عدوه ويعصي ربه ومولاه.

فأي حرمان فوق هذا؟ .. وأي ضلال بعد هذا؟.

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}

[يس: 60، 61].

وقد أمر الله الإنسان بشكره لا لحاجته إليه، ولكن لينال به المزيد من فضله، فجعل كفر نعمه والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب صرفها عنه:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7].

أمره الله بذكره ليذكِّره بإحسانه إليه، وجعل نسيانه سبباً لنسيان الله له كما قال سبحانه:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19].

أمر الله الإنسان بسؤاله ليعطيه فلم يسأله، بل أعطاه أجلّ العطايا بلا سؤال، فلم يقبل هدى الله.

فمتى يفيق هذا الإنسان ويؤوب إلى ربه؟.

إنه يشكو من يرحمه إلى من لا يرحمه، ويتظلم ممن لا يظلمه.

إنْ أنعم الله عليه بالصحة والعافية، والمال والجاه، استعان بها على معاصيه، وإن سُلب ذلك سخط على ربه وشكاه إلى خلقه، وهو الظالم لنفسه.

لا يصلح له على عافية ولا على ابتلاء، العافية تلقيه إلى مساخطه .. والبلاء يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته، وشكايته إلى خلقه.

وهذه حال أكثر الخلق الذين لم يهتدوا بهدى النبوة، ولم يعرفوا ربهم ودينه وشرعه.

ص: 3061

ألم يعلموا أن الله أرحم الراحمين، الغني عن العالمين:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس: 44].

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}

[النساء: 40].

وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} [الحج: 65].

فمتى يصحو مثل هذا الإنسان؟ .. ومتى يبصر الطريق السوي؟.

لقد دعاه ربه إلى بابه فما وقف عليه ولا طرقه، ثم فتحه له فما عرج عليه، ولا ولجه، وأرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته، فعصى الرسول وسفهه، وسخر منه وقاتله، إن وافق حظه طاعة الرسول أطاعه لنيل حظه لا لرضى مرسله، لم يزل يتمقت إليه بمعاصيه حتى أعرض عنه، وأغلق الباب في وجهه:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} [آل عمران: 86].

فماذا ينتظر هذا من العقاب جزاء ظلمه وكفره ومعاصيه؟.

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68].

ومع هذا كله فالله غفور رحيم، دعا عباده إلى التوبة والاستغفار من جميع الذنوب، ووعدهم على ذلك القبول والمغفرة كما قال سبحانه:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].

فلا يأس من رحمة الله، فالله يقبل توبة كل مذنب كما قال سبحانه:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [الشورى: 25].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ

ص: 3062

خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأََتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» أخرجه الترمذي (1).

ولا يستحق العبد اسم التائب حتى يتخلص من أجناس المحرمات المذكورة في كتاب الله عز وجل، وهي:

الكفر والشرك .. والرياء والنفاق .. والفسوق والعصيان .. والإثم والعدوان .. والفحشاء والمنكر .. والظلم والبغي .. والقول على الله بلا علم .. واتباع غير سبيل المؤمنين .. ونحو ذلك.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6].

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].

وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} [الأنعام: 151].

وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].

وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة: 68].

وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115].

ومن رحمة الله بعباده أن أنزل عليهم هذا القرآن الذي فيه تبيان كل شيء، وصرَّف فيه سبحانه من الوعد والوعيد ما يُرغِّب في كل طاعة، ويزجر عن كل

(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3540)، صحيح سنن الترمذي رقم (2805).

ص: 3063

معصية، لعل العباد يتقون الله فيتركون من الشر والمعاصي ما يضرهم، أو يُّحْدِث لهم الوعيد ذكراً، فيعملون من الطاعات والخير ما ينفعهم كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} [طه: 113].

وقد نوع الله الوعيد في كتابه أنواعاً كثيرة:

تارة بذكر أسمائه الدالة على العدل والانتقام كالعزيز الجبار، والقوي والقهار.

وتارة بذكر المَثُلات والعقوبات التي أحلها بالأمم السابقة، وأمرنا أن نعتبر بها.

وتارة بذكر آثار الذنوب، وما تُكسبه من العيوب.

وتارة بذكر أهوال القيامة، وما فيها من المزعجات والحسرة والندامة.

وتارة بذكر جهنم، وما فيها من أنواع العقاب، وأصناف العذاب.

كل هذا رحمة بالعباد لعلهم يتقون الله، فيمتثلون أوامره، ويحتنبون معاصيه، ويذكرونه ولا ينسونه، ويشكرونه ولا يكفرونه.

والتوبة ثلاثة أنواع:

أحدها: التوبة الصحيحة، وهي أن يقترف العبد ذنباً ويتوب عنه بصدق في الحال.

الثاني: التوبة الأصح، وهي التوبة النصوح، وعلامتها أن يكره العبد المعصية ويستقبحها فلا تخطر له على بال، ولا ترد في خاطره أصلاً.

وهي من أعمال القلب، وهي تعني تنزيه القلب عن الذنوب.

الثالث: التوبة الفاسدة، وهي التوبة باللسان مع بقاء لذة المعصية في الخاطر.

وتوبة الإنابة أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك.

وتوبة الاستجابة أن تستحي من الله لقربه منك.

ومن تاب من الناس توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها وإن لم يستحضر أعيان الذنوب.

وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المعاصي المتعلقة بالفاحشة

ص: 3064

أو مقدماتها، أو بعض الظلم باللسان أو اليد.

وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضرراً عليه مما فعله من بعض الفواحش.

فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقاً، أعظم نفعاً من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة كحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعليم شرعه، والدعوة إليه.

فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية، والناس في الغالب لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك.

فالتوبة واجبة على كل مسلم في كل حال؛ لأنه دائماً يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور، أو ما اعتدى فيه من فعل محظور، فعليه أن يتوب إلى الله دائماً.

والله يحب من عباده أن يتوبوا إليه، وقد أخبر سبحانه أنه يريد أن يتوب على كل من تاب كما قال سبحانه:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 27، 28].

والله رؤوف بالعباد، واسع الرحمة لهم، يقبل التوبة من عباده التائبين من أي ذنب، بل يفرح تعالى بتوبة عبده إذا تاب أعظم فرح يقدر، فمن تاب إليه تاب عليه ولو تكررت منه المعصية مراراً؛ لأنه سبحانه التواب الرحيم.

فليعلم العصاة ذلك ليقبلوا عليه وينيبوا إليه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} [التوبة: 104].

والله تبارك وتعالى يقبل التوبة الصادرة من عباده، وقد دعا سبحانه عباده إلى الإنابة إليه والتوبة من التقصير فانقسموا إلى قسمين:

المستجيبون الذين استجابوا لربهم لِمَا دعاهم إليه لمِمَا معهم من الإيمان والعمل الصالح، فإذا استجابوا له شكر الله لهم.

وأما غير المستجيبين لله وهم المعاندون الذين كفروا به وبرسله، فهؤلاء لهم

ص: 3065

عذاب شديد في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)} [الشورى: 25، 26].

والتوبة هي حقيقة دين الإسلام، وغاية كل مؤمن، وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق، والأمر والتوحيد جزء منها، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها.

ولهذا أمر الله بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].

ودعا جميع الأنبياء أممهم إليها كما قال هود صلى الله عليه وسلم: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)} [هود: 52].

ودعا صالح صلى الله عليه وسلم قومه إليها كما قال سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)} [هود: 61].

ودعا شعيب صلى الله عليه وسلم قومه إليها كما قال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله إِنِّي لأسْتَغْفِرُ الله وَأتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» أخرجه البخاري (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم (2).

وتوبة الإنسان من عمله على قسمين:

1 -

توبة العبد من حسناته، وهي على ثلاثة أضرب:

(1) أخرجه البخاري برقم (6307).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2702).

ص: 3066

أحدها: أن يتوب ويستغفر من تقصيره فيها.

الثاني: أن يتوب مما كان يظنه حسنات ولم يكن كحال أهل البدع.

الثالث: أن يتوب من إعجابه بعمله، ورؤيته أنه فعله بقوته.

2 -

توبة العبد من فعل السيئات وهي على ضربين:

توبة من ترك مأمور .. أو فعل محظور.

والتوبة لا بد منها لجميع الخلق، فهي مقام لا بد أن يستصحبه العبد من أول ما يعقل إلى آخر عمره.

والتوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء:

الاستغفار باللسان .. والندم بالقلب .. والترك بالجوارح .. وإضمار ألا يعود.

وكان صلى الله عليه وسلم يختم كل عمل صالح بالاستغفار كالصلاة والصوم والحج والجهاد، ويختم المجلس بالاستغفار.

وأمره ربه بالاستغفار في نهاية أحواله وآخر أمره، فقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.

ولما أكمل مراتب العبودية ظاهراً وباطناً أمره ربه بالتسبيح والاستغفار كما قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].

والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله تعالى، وغفر الله له بتوبته كما قال سبحانه:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة: 33، 34].

وجاء النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أصَبْتُ حَدّاً، فَأقِمْ فِيَّ كتاب الله، قَالَ:«ألَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟» . قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّ الله قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أوْ

ص: 3067

قَالَ: حَدَّكَ» متفق عليه (1).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «أنَّ رَجُلاً أصَابَ مِنِ امْرَأةٍ قُبْلَةً، فَأتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأخْبَرَهُ فَأنْزَلَ اللهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}» [هود: 114].

فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ألِي هَذَا؟ قال:«لِجَمِيعِ أمَّتِي كُلِّهِمْ» متفق عليه (2).

فالتوبة إلى الله من الذنوب والتقصير من أفضل مقامات أهل الإيمان، ولا يفارقها العبد أبداً، ولا يزال فيها إلى الممات، فكل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون.

وتوبة الله على عباده نوعان:

توفيق منه للتوبة .. وقبول لها بعد وجودها من العبد.

والتوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه كرماً منه وجوداً لمن عمل المعاصي بجهالة منه بعاقبتها .. وإيجابها لسخط الله وعقابه .. وجهل منه بنظر الله ومراقبته له .. وجهل منه بما تؤول إليه من نقص أو زواله.

فهذا إذا تاب من قريب قبل معاينة الموت أو العذاب فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت أو العذاب قطعاً كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} [النساء: 17].

وأما بعد حضور الموت فلا يقبل من العاصين توبة، ولا من الكفار رجوع، وذلك لأن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها كما قال سبحانه:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: 18].

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6823)، واللفظ له، ومسلم برقم (2764).

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (526)، واللفظ له، ومسلم برقم (2763).

ص: 3068

ووقت التوبة مفتوح للعباد حتى تطلع الشمس من مغربها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» أخرجه مسلم (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ» أخرجه مسلم (2).

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} [آل عمران: 147]. {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)} [آل عمران: 193]. {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} [نوح: 28].

«اللَّهُمَّ! إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» متفق عليه (3).

وقد شرع الله التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال الصالحة:

فشرعها في خاتمة الحج .. وفي آخر قيام الليل في السحر .. وبعد السلام من الصلوات الخمس .. وبعد كمال الوضوء.

فالتوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة.

وقد أمر الله عز وجل رسوله بالاستغفار بعد قيامه بما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً.

فكأن التبليغ لدين الله عبادة قد أكملها وأداها، فشرع له الاستغفار عقيبها كما قال سبحانه:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3].

(1) أخرجه مسلم برقم (2759).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2703).

(3)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (834)، ومسلم برقم (2705)، واللفظ له.

ص: 3069

وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

فمن أذنب سراً فليتب سراً، وليس عليه أن يظهر ذنبه، ويكشف ما ستره الله عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ الله، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ» متفق عليه (1).

ومن أذنب جهراً فليتب جهراً، فمن أظهر بدعة أو فجوراً فلا بد من توبته علناً، ليفرح به المؤمن الصادق، ويقتدي به من كان على مثل بدعته أو فجوره.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6069) واللفظ له، ومسلم برقم (2990).

ص: 3070