الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - العدو الثاني: الشيطان
1 - فقه عداوة الشيطان
قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}
…
[فاطر: 6].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208].
لقد لعن الله الشيطان وطرده بسبب أنه عصى أمر ربه حين أمره بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين، فحقت عليه لعنة الله إلى يوم الدين كما قال سبحانه:{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)} [الحجر: 34، 35].
ووعد الله الشيطان وذريته وأتباعه بنار جهنم يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} [الحجر: 43، 44].
ولما علم الشيطان أن ما حصل له من الطرد واللعن والإغواء والعذاب في جهنم، كله بسبب آدم، أعلنها حرباً صريحة على آدم وذريته من جميع الجهات، وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، وبشتى الوسائل، مصراً على ملاحقة الإنسان ذكراً كان أو أنثى في كل لحظة:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}
…
[الأعراف: 16، 17].
واختار هذا اللعين أن يزاول هذا الكيد للإنسان على المدى الطويل، واختار هذا على أن يضرع إلى الله أن يغفر له خطيئته في معصيته عياناً، وقد سمع أمره مواجهة: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} [الأعراف: 18].
فما أعظم عداوة الشيطان للإنسان وأصالتها وضراوتها واستمرارها.
إنه سيقعد للبشرية على صراط الله المستقيم لا يمكنهم من سلوكه، وسيأتيهم من كل جهة ليصرفهم عن هداه، وهو إنما يأتيهم من ناحية نقط الضعف فيهم، ومداخل الشهوة الجاذبة كما قال لآدم (من قبل:{قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه: 120، 121].
فالشيطان عدو للإنسان، أما وقد نزل الإنسان والشيطان إلى الأرض، فالحرب بينهما قائمة، والمعركة مع الشيطان هي المعركة الكبرى:
إنها المعركة مع الهوى باتباع الهدى .. والمعركة مع الشهوات باستعلاء الإرادة .. والمعركة مع الشر والفساد في الأرض الذي يقود الشيطان أولياءه إليه باتباع شريعة الله المصلحة للأرض ومن فيها، والمعركة في النفس والحياة الواقعية، فالشيطان وراءهما جميعاً.
والطواغيت التي تقوم في الأرض لتخضع الناس لحاكميتها وشرعها ونظمها، وتستبعد حاكمية الله وشرعه، إنما هي شياطين الإنس التي توحي لها شياطين الجن، والمعركة معها هي المعركة مع الشيطان نفسه كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}
…
[الأنعام: 112].
فالمعركة الكبرى الطويلة الضارية تتركز مع الشيطان ذاته .. ومع ذريته .. ومع أوليائه .. وهي حرب طويلة المدى .. لا بدَّ أن يخوضها الإنسان مع الشيطان .. وقد استعد لها الشيطان بخيله ورجله كما قال سبحانه له: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)} [الإسراء: 64].
والله حافظ عباده وأولياءه من كيده كما قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65].
ويشعر المسلم وهو يخوض هذه المعارك مع هواه وشهواته .. وهو يخوضها كذلك مع أولياء الشيطان من الطواغيت في الأرض وأتباعهم وأذنابهم .. وهو يخوضها مع الشر والفساد والانحلال الذي ينشئونه في الأرض من حولهم .. يشعر وهو يخوض هذه المعارك كلها أنه إنما يخوض معركة واحدة جدية صارمة ضارية؛ لأن عدوه فيها مصر ماض في طريقه، وأن الجهاد من ثَمَّ ماض إلى يوم القيامة في كل صوره ومجالاته:
جهاد النفس .. وجهاد الشيطان .. وجهاد الكفار .. فمُكْرَم ومهان .. ورابح وخاسر .. ومنتصر ومهزوم.
فلا يقعد المسلم عن جهاد عدوه الشيطان، فهو ماض في إغوائه وإضلاله، وساع في جر الناس إلى جهنم بكل ما يغضب الله من كفر وشرك، وبدعة ومعصية:{لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)}
…
[النساء: 118 - 119].
فالمشركون إنما يعبدون صورة الأوثان والأصنام، وفي الحقيقة إنما يعبدون الشيطان الذي زينها لهم وغرهم بها، وهو عدوهم الذي يريد إهلاكهم بكل ما يقدر عليه.
وكما أبعده الله من رحمته ولعنه فهو يسعى في إبعاد العباد من رحمة الله، وجرهم إلى عقوبة الله كما قال سبحانه:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6].
وقد وقع ما ظنه الشيطان بالناس فَتَبِعوه كلهم إلا القليل كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].
فأضلهم عن العلم الإلهي .. والعمل الصالح .. وزين لهم ما هم فيه من
الضلال .. ومنَّاهم أن ينالوا ما ناله المهتدون .. وهذا هو الغرور بعينه.
وهذه زيادة شر إلى شر، حيث زين لهم ماهم فيه من الضلال، فعملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة، وحسبوا أنها موجبة للجنة كما غرَّ اليهود والنصارى حين أعرضوا عن دينهم:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111].
وكما غرَّ الكفار فكفروا: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35].
فما أخسر هؤلاء وهؤلاء حين أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)}
…
[الكهف: 103، 104].
ومن الإضلال ما زينه الشيطان لبعض الناس حتى حرَّموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرَّم الله من الاعتقادات الفاسدة، والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الضلال.
ومن ذلك ما أغواهم به الشيطان من تغيير خلقة الرحمن بالوشم والوشر والنمص ونحو ذلك، وذلك يتضمن التسخط من خلقته، والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره.
وكذلك أمرتهم الشياطين بتغيير الخُلُق الباطن، فالله تعالى خلق عباده حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشرك والكفر، والشر والإثم، والفسوق والعصيان كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة: 168، 169].
فالشيطان يَعِد أولياءه الفقر إذا أنفقوا في سبيل الله، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره، ويخوفهم من طاعة الله بحصول الأذى لهم، ليكسلوا عن فعل الخير، ويمنيهم الأماني الباطلة:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)} [النساء: 120].
وما أكثر من غرهم الشيطان فصاروا من أتباع إبليس وحزبه: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)} [النساء: 121].
وقد حذر الله عز وجل بني آدم عامة أن يستسلموا للشيطان فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع، فَيُسْلِمَهم إلى الفتنة والبلاء كما فعل مع أبويهم من قبل، إذ نزع عنهما لباسهما وأخرجهما من الجنة.
فالعري والتكشف عمل من أعمال الشيطان في بني آدم، وهو طرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه الشيطان.
فلا يدع بنو آدم لعدوهم الشيطان أن يفتنهم، وأن ينتصر عليهم، وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27].
وزيادة في التحذير منه ينبههم ربهم أن الشيطان يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم، وإذن فهو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية، فعليهم الحذر حتى لا يأخذهم على غِرَّة، ومعرفة الثغور التي يدخل منها، وسدها في وجهه.
وقد قدَّر الله أن يكون هو ولي الذين آمنوا، وقدر كذلك أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، ويا ويل ويا خسارة من كان عدوه وليه، إنه يسيطر عليه ويقوده حيث يشاء.
وقد طلب الشيطان من ربه الإنظار إلى يوم القيامة، لا ليندم على معصيته وخطيئته في حضرة الخالق العظيم، ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفر عن إثمه الجسيم، ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه الله وطرده من هداه، إنه يربط لعنة الله له بآدم، ولا يربطها بعصيانه لله في تبجح نكير:{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}
…
[الحجر: 36 - 38].
فلما أنظره الله أعلن خليقة الحقد، وخليقة الشر، وخليقة العداوة على البشرية في الأرض، وحدد عدته فيها وهي تزيين القبيح وتجميله، والإغراء بزينته
المصطنعة على ارتكابه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر: 39، 40].
وهكذا لا يقترف الإنسان الشر إلا وعليه مسحة من الشيطان تزينه وتجمله، وتظهره في غير حقيقته وردائه، وتغري بارتكابه.
فليفطن المسلمون إلى عدة الشيطان، وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزييناً، وكلما وجدوا في نفوسهم اشتهاءً.
وشرط الشيطان أن يغوي الناس أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
وقد شرط هذا الشرط؛ لأنه يدرك أن لا سبيل إلى سواه.
لأن سنة الله أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه، وأن يحميه ويرعاه ومن ثَمَّ كان الجواب:{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 41، 42].
هذه سنة الله:
المؤمنون لا سبيل لك عليهم، ولا تملك أن تزين لهم؛ لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ومداخلك إلى نفوسهم مغلقة.
إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين، فالشيطان لا يتلقف إلا الشاردين، كما يتلقف الذئب الشاردة من الغنم.
وأما عاقبة الغاوين فهي معلنة في الساحة منذ البدء: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} [الحجر: 43، 44].
إن حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين، ويغفل نفخة الله في هذا الطين كما قال سبحانه:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)} [الإسراء: 61].
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق، واستعداده لإغوائه بلا حياء فيقول:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)} [الإسراء: 62].
ويغفل الشيطان عن استعداد الإنسان للخير والهداية، واستعداده للشر والغواية، وعن حالته التي يكون فيها متصلاً بالله، فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية.
ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة، التي لا تعرف إلا طريقاً واحداً تسلكه بلا إرادة كالملائكة.
ويشاء الله عز وجل أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام، يحاول محاولته مع بني آدم:{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)} [الإسراء: 63].
اذهب فحاول محاولتك، اذهب مأذوناً لك في إغوائهم، فهم مزودون بالعقل والإرادة، يملكون أن يتبعوك .. ويملكون أن يعرضوا عنك.
فمن تبعك منهم مغلِّباً جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية، معرضاً عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان، غافلاً عن آيات الله في الكون، وآيات الله المصاحبة للرسالات، فإن جهنم جزاؤكم أنت وتابعوك.
واستخدم في إضلالهم جميع وسائل الغواية والإضلال للاستيلاء على القلوب والعقول والمشاعر، وعِدْهم بما يغريهم بما تريد من المعاصي، كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص، والوعد بالغنى من الأسباب الحرام، والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والخسيسة، والوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة.
فالشيطان يزين للإنسان المعصية، وهو يلوح له بسعة الرحمة الإلهية، وشمول العفو والمغفرة، ولكن هناك من لا سلطان لك عليهم؛ لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورَجِلك كما قال سبحانه:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)}
…
[الحجر: 42].
فمتى اتصل القلب بالله .. واتجه إليه بالعبادة .. وارتبط بالعروة الوثقى .. فلا سلطن حينئذ للشيطان عليه .. وكفى بربك وكيلاً يعصم وينصر، ويبطل كيد الشيطان.
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده، ويستذل عبيده، ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].
حقاً إن وعد الله حق، وإنه لآت لا ريب فيه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 5، 6].
إن الحياة تغر وتخدع .. فلا تغرنكم الحياة الدنيا .. وإن الشيطان يغر ويخدع .. فلا تمكنوه من أنفسكم.
والشيطان قد أعلن عن عداوته للبشرية، فليتخذوه عدواً، ولا يركنوا إليه، ولا يقبلوا منه نصيحة، ولا يتبعوا خطاه.
فالعاقل لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل، والشيطان لا يدعوكم إلى خير، ولا ينتهي بكم إلى نجاة، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
فهل يليق بالعاقل أن يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟.
إن الإنسان حين يستحضر المعركة الخالدة مع الشيطان فإنه يتحفز بكل قواه .. وبكل يقظته .. دفاعاً عن النفس .. وحماية للذات:
يتحفز لدفع الغواية والإضلال والإغراء .. ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه .. ويتوجس من كل هاجسة .. ويسرع ليعرضها على ميزان الله وشرعه.
إن القرآن ينشئ في القلب حالة التعبئة الشعورية ضد الشر ودواعيه، وضد هواتفه المستسرة في النفس، وأسبابه الظاهرة للعيان، حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة، ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً.
وهاهي عاقبة الكافرين الذين لبوا دعوة الشيطان، وحالة المؤمنين الذين طاردوه:{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}
…
[فاطر: 7].
أما طبيعة الغواية، وحقيقة عمل الشيطان، والباب الذي يفتح فيجيئ منه الشر
كله، فهو أن يرى الإنسان عمله القبيح حسناً:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8].
هذا هو مفتاح الشر كله، أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً، أن يُعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها، أن لا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه؛ لأنه واثق أنه لا يخطئ، متأكد دائماً أنه على صواب.
فيُعجب بكل ما يصدر عنه، مفتون بكل ما يتعلق بذاته، لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء، ولا أن يحاسبها على أمر، ولا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله، أو في رأي يراه.
هذا هو البلاء العظيم الذي يصبه الشيطان على الإنسان، ويغرقه به، وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال ثم إلى البوار.
إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر، فلا يأمن مكر الله .. ولا يأمن تقلب القلب، ولا يأمن الخطأ والزلل .. ولا يأمن النقص والعجز:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99].
فالمؤمن دائم التفتيش في عمله .. دائم الحساب لنفسه .. دائم الحذر من الشيطان .. دائم التطلع لعون الله وتوفيقه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18].
إن كل من زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسناً مثال للإنسان الضال الهالك البائر، الصائر إلى شر مصير.
ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين .. هو هذا الغرور .. هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق .. ولا يحسن عملاً؛ لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء .. ولا يصلح خطأ؛ لأنه واثق أنه لا يخطئ.
أفهذا يرجى له صلاح ومتاب؟.
أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب ربه؟.
أفهذا يستوي مع المؤمنين الأتقياء؟.
والله سبحانه له الخلق والأمر وحده، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ومثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة، وهو مستحق لها بما زين له الشيطان من سوء عمله، وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال، وبمطاوعته للشيطان، وتسليم نفسه له:{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 37].
إن طبيعة الضلال برؤية العمل حسناً وهو سوء، وطبيعة الهدى بالحذر والمحاسبة والتقوى، وما دام الأمر كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فالهدى والضلال ليس من أمر البشر، إنما هو من أمر الله وحده، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وهو مقلب القلوب والأبصار، يعلم من يستحق الكرامة فيكرمه، ومن يستحق الإهانة فيذله:{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} [فاطر: 8].
وهذه حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم، وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من خير .. ورأوا الناس في الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون .. ولا يرون ما فيها من الخير والجمال .. ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال والآداب.
وما أجمل أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى الله بها رسوله، فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى جهدهم، ثم لا يَأْسَوا ولا يحزنوا بعد ذلك على من لم يقدِّر الله له الصلاح والفلاح.
إن الله عليم بما يصنعون، يقسم لهم الهدى أو الضلال وفق علمه، والله يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم، ولكنه لا يحاسبهم على ما يكون منهم إلا بعد أن يكون:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46].
والشيطان لا يبذل جهده لمن باع نفسه للمعصية، وانطلق يخالف كل ما أمر الله به، ويتمرغ في الكفر والظلم والمحرمات.
فالنفس الأمارة بالسوء ليست محتاجة إلى إغواء؛ لأنها تأمر صاحبها بالسوء: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53].
ولذلك فإن إبليس لا يذهب إلى الحانات، وأماكن اللهو والفجور، ومستنقعات الزنا والرذيلة والفساد.
فهذه الأماكن كل من يذهب إليها ذاهب إلى معصية، وليس في حاجة إلى إغواء؛ لأنه قد اختار هذا الطريق العفن.
ولكن إبليس يذهب إلى بيوت الإيمان، وبيئات الطاعة، وأماكن العبادة، وساحات الفضيلة، ومن سار على الصراط المستقيم عابداً وداعياً، ومعلماً ومربياً، ومحسناً ومتصدقاً، وناصحاً ومرشداً.
هؤلاء الذين يبذل معهم إبليس كل جهده، وكل حِيَله، وكل مَكْره، وكل كيده، وكل إغوائه، ليصرفهم عن عبادة الله كما قال الله عنه:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16، 17].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لاِْبنِِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلَامِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ («فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عز وجل أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عز وجل أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ
الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» أخرجه أحمد والنسائي (1).
فالشيطان لا يقعد لبني آدم على الطريق المعوج؛ لأن الطريق المعوج لا يحتاج إلى جهد؛ لأنه بطبيعته يتبع الشيطان.
ومن هنا فإن إبليس يغوي أهل الطاعة، لا أهل الشر والفساد، بأن يزين للمسلمين المعاصي والفواحش، ويغريهم بمد أيديهم إلى المال الحرام، أو بترك واجب، أو فعل محرم، ونحو ذلك مما حرمه الله.
والله سبحانه اختار للإنسان طريق الخير والحياة الكريمة في الأرض، ورسمه له وبينه، ولكن الشيطان يأتي ويزين له طريق الباطل، ويحاول أن يصور له أن فيه خيراً.
فإذا سقط الإنسان في الشر هرب إبليس ونال الإنسان العقوبة، فجميع الجرائم يزين الشيطان للإنسان أنه سيفلت منها. ويظل يوسوس له، ويقنعه حتى يقتنع، ثم بعد ذلك ينكشف أمره، فيهرب الشيطان ويترك الإنسان يواجه مصيره كما غرَّ الكفار في غزوة بدر كما قال سبحانه:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} [الأنفال: 48].
وكما دخل إبليس من ناحية الغفلة لآدم، دخل كذلك من ناحية الغفلة لأبناء آدم يريد أن يغويهم ويضلهم.
فهناك عداوة سابقة بين إبليس وآدم، وإبليس طُرد من الجنة بسبب آدم (، وطرد من رحمة الله بسبب معصية عدم السجود لآدم، فهو عدو لآدم وذريته إلى يوم القيامة.
(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (16054)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (2979).
وأخرجه النسائي يرقم (3134)، وهذا لفظه، صحيح سنن النسائي رقم (2937).
وطلب إبليس من الله سبحانه أن يمهله إلى يوم البعث؛ لينتقم من آدم وذريته بإبعادهم عن الصراط المستقيم، وإغرائهم بكل معصية تكون سبباً لدخولهم النار.
والشيطان يشم ابن آدم، ويأتيه من الباب الذي يسهل دخوله منه عليه، فإذا وجد الإنسان متشدداً في جهة، أتاه من الجهة التي هو فيها ضعيف.
فإذا كان الإنسان متشدداً في الصلاة يحافظ عليها، ويؤديها في أوقاتها، ويواظب على فرائضها ونوافلها، جاءه إبليس من ناحية المال، فيوسوس له حتى لا يخرج الزكاة، ويقتر ويأكل حقوق الناس، مدخلاً السرور على نفسه بأن هذه الطريقة تزيد ما عنده، وتجعله غنياً آمناً مطمئناً.
والصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وتضع البركة فيه، وتجعله يزداد وينمو، والمال مال الله، ينتقل من يد إلى يد، وحينما يحين الأجل يتركه الإنسان ويمضي.
وللشيطان خطوات في هذا: فيمنعه من الصدقات أولاً، ثم يمنعه من الزكاة، ثم يغريه بأكل الأموال المتشابهة، ثم يغريه بأكل المال الحرام، ونهب أموال الناس، ثم يغريه بالتوسع في الشهوات، ثم يدخله المحرمات، ثم يهوِّن عليه ارتكاب الكبائر، ثم تبدأ المعاصي تزيد شيئاً فشيئاً، حتى تغطي القلب كله، وتمنعه من ذكر الله، وامتثال أوامره، ولا يتركه الشيطان حتى يخرجه من الإسلام:{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)} [النساء: 38].
وإن وجد الشيطان في المؤمن تشدداً من ناحية الصلاة والزكاة، ووجد ضعفاً من ناحية النساء، أتاه من ناحية هذا الضعف، فيظل يزين له امرأة خليعة أو صالحة، ويزينها في نظره، ويغريه بسماع صوتها، ورؤية جمالها، ويوسوس له ولها، حتى يسقط في الحرام، ومتى سقط في الزنا سقط في الكبائر.
فإن كان قوياً في هذه النواحي كلها جاء إبليس وزين له مجالس الخمر، ومجالس السوء والغيبة والنميمة .. وهكذا حتى يظفر به.
وهناك فرق بين معصية يوحي بها الشيطان .. ومعصية تصر عليها النفس.
فإذا حدثتك نفسك بمعصية، وأصررت عليها، فاعلم أن النفس هي التي قادتك إلى هذا اللون من المعصية؛ لأن النفس تريد من صاحبها أن يحقق لها رغباتها وشهواتها.
أما إبليس فليس على هذا المنوال، فإبليس يريد من المؤمن أن يكون عاصياً بأي شكل من أشكال المعصية، ولا يهمه نوع معين من العصيان في ذاته.
فإذا طرق الشيطان لك باباً، ووجدك فيه متشدداً متمسكاً لا تصغي إليه، انطلق يطرق باباً آخر يجدك فيه مصغياً إليه، قابلاً منه .. وهكذا ينتقل من باب إلى باب حتى تسقط في قبضته، وتستمع إليه، وتستجيب لأمره.
وكل عبادة للأصنام والأوثان والقبور، وكل معصية تقع من الإنسان، فإنما هي عبادة للشيطان؛ لأنه هو الذي أمر بها الإنسان وزينها له، وغره بها، فأطاعه وعصى ربه الذي حذره منه كما قال سبحانه:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62].