المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌4 - حال السابق بالخيرات

‌4 - حال السابق بالخيرات

قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} [الواقعة: 10 - 14].

وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 59 - 61].

وقال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} [البقرة: 148].

السابقون في الدنيا إلى الإيمان والأعمال والخيرات هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات، وهم المقربون عند الله في جنات النعيم في أعلى عليين.

وهم الذين يعطون من أنفسهم مما أمروا به من كل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة، وصيام وحج، وطاعات وأعمال صالحة.

ومع هذا قلوبهم وجلة وخائفة عند عرض أعمالها على ربها، والوقوف بين يديه، خشية أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لكمال علمهم بربهم، وما يستحقه من أنواع العبادات.

فهؤلاء همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذاب الله، فكل خير سمعوا به، أوسنحت الفرصة إليه انتهزوه وبادروه، يسارعون إلى كل خير، ويسابقون في كل عمل صالح، وينافسون في كل ما يقربهم إلى الله:{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 61].

والأمر باستباق الخيرات أمر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الوجوه والأحوال، والمبادرة إليها في أول وقتها.

والخيرات تشمل جميع الطاعات والفرائض والنوافل من صلاة وصيام، وزكاة

ص: 3441

وصدقات، وحج وعمرة، وجهاد، ونفع خاص وعام.

والسابقون هم أعلى الخلق درجات، وأعلاهم مقامات.

والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأرباح، وشد أحمال التجارات، لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم، ويرى خسراناً بيناً أن يمر عليه وقت في غير متجر.

والسابقون بالخيرات نوعان: أبرار .. ومقربون.

وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين وهم:

المقتصدون .. والأبرار .. والمقربون.

وأما الظالم لنفسه فليس من أصحاب اليمين عند الإطلاق، وإن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنه لا يسمى مؤمناً عند الإطلاق، وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه.

والسابقون المقربون، السابقون بالخيرات، هم أفضل الخلق وأزكاهم، ونبأهم عجيب، ونحن نستغفر الله من وصف حالهم، وعدم الاتصاف به، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، عسى أن تشمر النفس للاقتداء بهم، والاتصاف بصفاتهم.

فالسابقون المقربون جملة أمرهم: أنهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت قلوبهم محبة الله وخشيته، ومراقبته وإجلاله.

فَسَرَت المحبة في قلوبهم وأبدانهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، وقد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه.

قد استغنوا بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ورجاء من سواه.

وصارت رغبتهم إليه .. وتوكلهم عليه .. ورهبتهم منه

وإنابتهم إليه .. وسكونهم إليه .. وانكسارهم بين يديه .. فلم يتعلقوا بشيء من ذلك بغيره.

ص: 3442

فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه، متذكراً صفاته العلا، وأسمائه الحسنى، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد انصبغ قلبه بمعرفته ومحبته.

فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد آوى إلى مولاه وحبيبه فآواه، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً، ذليلاً منكسراً من كل جهاته، فيا لها من سجدة ما أشرفها من سجدة.

وشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه، فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه، وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه.

يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العباد، وتُعرض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذاً كما أمر.

فيشاهد الملك الحق قيوماً بنفسه، مقيماً لكل ما سواه، غنياً عن كل ما سواه، وكل من سواه فقير إليه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29].

ويرى ربه يغفر الذنوب، ويفرج الكروب، ويرحم المسترحمين، ويفك عانياً، وينصر ضعيفاً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويُميت ويُّحيي، ويُسعد ويُشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواماً، ويذل آخرين.

ويشاهد الملك الرزاق يقسم الأرزاق ويجزل العطايا، ويمن بفضله على من يشاء من عباده، بيده اليمنى، وبيده الأخرى الميزان، يخفض به من يشاء، ويرفع به من يشاء، عدلاً منه وحكمة.

ويشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأذن، ولا حاجب ولا وزير ولا ظهير فيستعان به، ولا ولي من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرِّفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها.

ص: 3443

أحاط سبحانه بالعباد وحوائجهم، ووسعها قدرة ورحمة وعلماً، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً، ولا يشغله منها شأن عن شأن.

ولا تغلطه سبحانه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.

«يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ.

يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ.

يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (1).

فهو سبحانه الملك الغني الكريم، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، قدير على كل شيء، يفعل ما يشاء؛ لأراد لقضائه، ولا معقب لحكمه:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ الله عز وجل: أَُْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ الله مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ

(1) أخرجه مسلم برقم (2577).

ص: 3444

يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» متفق عليه (1).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عز وجل لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (2).

واذا صارت أسماء ربه، وصفات ربه، مشهدا لقلبه، أَنْسَتْه ذكر غيره، وشغلته عن حب من سواه، وجذبت دواعي قلبه إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه.

فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبه يسمع وبه يبصر، وبه يبطش، ربه يمشي.

قال رسول الله (: «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أخرجه البخاري (3).

فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته، ومعرفة عظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه، فيا له من قلب من ربه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه، أو يطمئن بغير مولاه.

فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4684) واللفظ له، ومسلم برقم (993).

(2)

أخرجه مسلم برقم (179).

(3)

أخرجه البخاري برقم (6502).

ص: 3445

فرشهم، تحن وتئن إلى الملأ الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها.

فإذا استيقظ هذا القلب من أوكاره، صعد إلى الله بهمته وحبه، مشتاقاً إليه، طالباً له، محتاجاً إليه، عاكفاً عليه.

فحاله كحال المحب الذي غاب عنه محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بدَّ له منه، فهو آخر خطراته عند منامه، وأولها عند استيقاظه، فإذا استيقظ أحدهم وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه، والتوجه إليه، واستعطافه، والتملق بين يديه، والاستعانة به أن لا يخلي بينه وبين نفسه، وأن لا يكله إليها، فيكله إلى ضعة وعجز، وذنب وخطيئة.

بل يكلؤه كلاءة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاَ، ولا موتاَ ولا حياة ولا نشوراً.

فإذا انتبه من نومه قال: «لا إلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لله، وَسُبْحَانَ الله، وَلا إلَهَ إلا الله، والله أكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله» أخرجه البخاري (1).

فأول ما يبدأ به إذا قام من النوم أن يقول: «الْحَمْدُ لله الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» متفق عليه (2).

يقولها متدبراً لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سوياً سليماً محفوظاً مما لا يعلمه، ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات والتي كلها تقصده بالهلاك والأذى، والتي من بعضها شياطين الإنس والجن.

فالذي يكلؤه ويحرسه في نومه ويقظته هو الله وحده، فليحمده على هذه النعمة:

{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42].

(1) أخرجه البخاري برقم (1154).

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6314) واللفظ له، ومسلم برقم (2711).

ص: 3446

ويتذكر أن الذي أعاده حياً سليماً بعد هذه الإماته قادر على أن يعيده بعد موتته الكبرى حياً كما كان .. ثم يقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران 190 - 200].

ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر، فيتوضأ حسب السنة، ثم يصلي صلاة التهجد كما ورد في السنة إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة .. صلاة محب محتاج، مخلص لمحبوبه، متذلل مفكر بين يديه، لا صلاة مدلٍ بها عليه، يرى أن من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأكرمه وحرم غيره ..

فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه ولذته وسروره في تلك الصلاة، فهو يتملق لمولاه تملق المحب لمحبوبه، العزيز الرحيم،

ص: 3447

ويناجيه بكلامه، معطياً لكل آية حقها من العبودية، فتجذب قلبه وروحه آيات المحبة والود، وآيات الأسماء والصفات، وآيات الآلاء والإنعام والإحسان، وآيات الرحمة والرجاء والبر والمغفرة، وآيات وصف الجنة وما فيها من النعيم المقيم.

وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره، المائلين إلى سواه، وآيات وصف النار وما فيها من العذاب الأليم والنكال الشديد.

فإذا صلى ما كتب الله له، جلس مطرقاً بين يدي ربه، هيبة له وإجلالاً، واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه.

فإذا قضى من الاستغفار وطراً، وكان عليه بعدُ ليل، اضطجع على شقه الأيمن مجماً لنفسه، مريحاً لها، مقوياً لها على أداء وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطاً كأنه لم يزل نائماً طول ليلته لم يعمل شيئاً.

فإذا أذن المؤذن إلى صلاة الفجر تابعه في الأذان ثم صلى ركعتي الفجر وهما خير من الدنيا وما فيها، ويبتهل إلى الله ويدعوه بينها وبين صلاة الفجر، فالدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة.

ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصداً الصف الأول عن يمين الإمام، فإن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن، فإن للقرب من الإمام تأثيراً في سر الصلاة، خاصة صلاة الفجر، فقرآن الفجر يشهده الله وملائكة الليل، وملائكة النهار.

وليس المراد الشهادة العامة، فإن الله على كل شيء شهيد، بل المراد شهادة خاصة، وهي شهادة حضور ودنو متصل بدنو الرب جل جلاله، ونزوله إلى السماء الدنيا، آخر كل ليلة حتى يطلع الفجر.

يصلي الصلاة في أول وقتها بخشوع قلب، كاملة الشروط والأركان والواجبات والسنن.

فإذا فرغ من صلاة الفجر أقبل بكليته، على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار

ص: 3448

المسنونة بعد كل فريضة، يداوم عليها، ويجعلها ورداً له لا يخل بها أبداً.

ثم يزيد عليها مما ورد من أذكار الصباح ما شاء، أو قراءة القرآن، ويجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناً.

فإذا طلعت قام متضرعاً إلى ربه، سائلاً إياه أن يكون ضامناً عليه، متصرفاً في مرضاته بقية يومه.

فلا يفعل شيئاً إلا في مرضاة ربه، من دعوة إلى الله، وتعليم لعباده، أو نفع وخدمة للمسلمين، أو اشتغال بنوافل العبادات، وإن كان من الأفعال الطبيعية قلبه عبادة بالنية، وقَصَدَ الاستعانة به على مرضاة ربه، فتكون عاداته عبادات.

ويقدم في كل وقت ما نفعه أعم على غيره، فيقدم الدعوة والتعليم على النوافل، ويؤخر العمل الانفرادي من أجل العمل الاجتماعي كما قال سبحانه وتعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].

وقال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79].

وقال سبحانه: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 80].

فإذا جاء فرض الظهر بادر إليه مؤدياً للسنة الراتبة قبله، مكملاً له، ناصحاً فيه لمعبوده، فهو لايبغي مجهوداً، بل يبذل مقدوره كله في تحسينه وتزيينه، وإصلاحه، وإكماله، ليقع موقعاً من محبوبه، فينال به رضاه عنه، وقربه منه.

أفلا يستحي العبد من ربه ومولاه ومعبوده، أن لا يكون في عمله هكذا، وهو يرى المحبين في أشغال محبوبيهم من الخلق، كيف يجتهدون في إيقاعها على أحسن وجه وأكمله لتسرّهم.

والله يحب من عبده إذا عمل عملاً أن يتقنه ظاهراً وباطناً.

ومن أنصف نفسه، وعرف أعماله، استحى من الله أن يواجهه بعمله، أو يرضاه

ص: 3449

لربه، وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه، ولم يدع من أجل حُسْنه شيئاً إلا فعله:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7].

فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله، إحسان للعمل، واستغفار بعد العمل؛ لأنه يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه، فهو دائماً يستغفر الله عقيب كل عمل صالح.

قال الله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 18].

وكان النبي (إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً.

وفي الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}

[البقرة: 199].

فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار في جميع أحواله، فلا يزال مستغفراً تائباً، وكلما كثرت طاعاته، كثرة توبته واستغفاره، وجماع الأمر في ذلك إنما هو بتكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقة لربه في محبة ما يحب، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما يكره، وبذل الجهد في تركه.

وهذا إنما يكون من النفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة، فهذا كمال من جهة العمل والإرادة، وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهود خاص مطابق لما جاء به الرسول (لامخالف له، قائم بأحكام العبودية التي تقتضيها كل صفة بخصوصها.

وهذا سلوك الأكياس، الذين هم خلاصة العالم.

فالسير إلى الله عن طريق الأسماء والصفات شأنه عجيب، وفتحه عجيب، صاحبه قد سبقت له السعادة، وهو مستلق على فراشه، غير تعب ولا مكدور، ولا مشرد عن وطنه.

ص: 3450

فهو ساكن لا يُرى عليه آثار السفر، وقد قطع المراحل والمفاوز.

فالسائرون إلى الله قسمان:

سائر قد ركبته نفسه فهو حاملها، يعاقبها وتعاقبه، ويجرها وتهرب منه، ويخطو بها خطوة أمامه، فتجذبه خطوتين إلى ورائه، فهو معها في جهد، وهي معه كذلك .. فمتى يصل مثل هذا؟

وسائر قد ركب نفسه، وملك عنانها، فهو يسوقها كيف يشاء؟ وأين شاء؟ ومتى شاء؟.

لا تلتوي عليه ولا تنجذب، ولا تهرب منه، بل هي معه كالأسير الضعيف، في يد مالكه وآسره، فهي منقادة معه حيث قادها، تسير به وهو ساكن راكب على ظهرها .. فما أسرع وصول هذا، وشتان بين المسافِرَين، ومن شأن هؤلاء القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبيره تعالى واختياره.

بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره، ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أنه الملك الحق، القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولي تدبير أمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله، الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة.

{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].

فلم يُدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده، بِلَوْ كان كذا كان كذا، ولا بعسى ولعل، ولا بليت وأتمنى.

بل ربهم أعظم وأجل في قلوبهم من أن يعترضوا عليه أو يتسخطوا تدبيره، أو يتمنوا سواه، وهم أعلم به، وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتهموه في تدبيره، أو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله.

بل هذا العبد ناظر بعين قلبه إلى بارئ المخلوقات وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعه، مشاهد لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر، وعوائدهم ومألوفاتهم.

ص: 3451

وعيب المخلوقات وتنقصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها؛ لأنها صُنْعه وأَثَر حكمته، وهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، وهو أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، وله في كل شيء حكمة.

{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14].

فالمؤمن لا يعيب إلا ما عابه الله، ولا يذم إلا ما ذمه الله، وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب ما لم يعبه الله، وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه، كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه.

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110].

فالعبد يستحي من ربه أن يكون في داره، وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها، فيقول: لوكان كذا مكان كذا لكان خيراً، أو يشاهد الملك الحق يولي هذا ويعزل هذا، ويعطي هذا ويَحْرِم هذا، فيقول: لو وُلِّي هذا المكان فلان لكان خيراً ولو عُزل هذا المتولي لكان أولى، ولو عوفي هذا، ولو أغنى هذا

وهكذا.

فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض، وإخراجه من قربه؟

فوا عجباً .. كيف ينازع العبد ربه منازعة جاهل عاجز ضعيف، ليس له من الأمر شيء؟. وهو مع ذلك ينازع الله ربوبيته وحكمته وتدبيره، ولا يرضى بما رضي الله به، ولا يسكن عند مجاري أقداره، بل هو عبد ضعيف فقير مسكين جاهل ظالم في مجموع حالاته فيرى نفسه غنياً، ويرى نفسه عارفاً محسناً.

فما أجهله بنفسه .. وربه .. وما أتركه لحقه .. وما أشد إضاعته لحظه.

ولو أحضر العبد رشده لرأى ناصيته ونواصي الخلق كلهم بيد الله سبحانه، يرفعها ويحفضها كيف يشاء؟ وقلوبهم بيده يقلبها كيفما يشاء؟ يقيم منها ما يشاء ويزيغ منها ما يشاء، لكمال علمه ورحمته وحكمته.

ويرى نفسه عبداً لربه، تُقَلِّبه وتُصرِّفه يد القدرة، مستسلم لله، ينظر بقلبه إلى

ص: 3452

مولاه الذي حرَّكه، مستعين به في أن يوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، عينه في كل لحظة شاخصة إلى حق مولاه المتوجه عليه لربه يؤديه في وقته على أكمل أحواله.

فهؤلاء إذا وردت عليهم أقداره التي تصيبهم بغير اختيارهم، قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على ثلاث مراتب:

إحداهما: الرضى عنه فيها، والمزيد من حبه والشوق إليه، وهذا ناشيء من مشاهدتهم للطفه فيهم، وبره وإحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم حكمته فيها، ونصبها سبباً لمصالحهم.

الثانية: شكره عليها كشكره على النعم، وهذا فوق الرضا عنه بها، فهاتان مرتبتان لأهل هذا الشأن.

الثالثة: للمقتصدين، وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى اليأس والجزع، الذي لا يفيد إلا فوات الأجر وتضاعف المصيبة.

ولما كانت الحياة الدائمة مبنية على الحياة الفانية، بما فيها من عمل فمن آمن وعمل صالحاً فله الجنة، ومن كان بضد ذلك فله النار، أمرنا الله عز وجل بالتجارة الرابحة فقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف 10 - 13]

وقد استجاب أكثر الخلق للشيطان، فأشغلهم وخدعهم بالتجارة الخاسرة عن التجارة الرابحة التي أرسل الله بها الأنبياء، وكفى بذلك عقوبة {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].

والهدف والغاية من حياة الإنسان ثلاثة أمور وهي:

عبادة الله عز وجل .. والدعوة إلى الله .. والخلافة في الأرض.

ص: 3453

يشتغل العبد بذلك كل وقته، ويجعل جزءاً يسيراً لكسب المعاش بعد معرفة أحكام العمل، كما قال سبحانه:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}

[الجمعة: 10].

والشهوات مطلقة غير محدودة، وطلب الشهوات من الإنسان مطلق أيضاً غير محدود، فما يكاد يفرغ من شهوته إلا وتشتاق نفسه إلى شهوة أخرى.

ولو اجتمع الإنس والجن لتكميل شهوة إنسان واحد ما قدروا، وإنما تكميل الشهوات بيد الله عز وجل.

فالإنسان تصوره ضعيف، فلا يستطيع أن يكمل شهواته حسب معرفته، إنما يكملها ربه الذي خلقه، وعلم ما ينفعه وما يضره، فأعطاه في الدنيا منها القليل الذي يصلحه، وفي الآخرة يكملها الله لأوليائه في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

فالإنسان في هذه الحياة، بسبب جهله، وقصور معرفته يريد تكميل شهواته والاستمتاع بها الآن.

فيريد الآن أن يأكل أحسن شيء .. ويريد أن يشرب أحسن شيء .. ويريد أن يسكن أحسن شيء .. ويريد أن يلبس أحسن شيء .. ويريد أن يركب أحسن شيء حسب معرفته.

ولكن الله الذي خلقه أعلم منه، وحكمة الله أن يأخذ من الشهوات بقدر حاجته، ويصوم عن تكميل الشهوات إلى غروب شمس حياته، وبعد ذلك له في الجنة النعيم المقيم:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].

وأوامر الله عز وجل ليس لها حد .. وشهوات الإنسان ليس لها حد .. فمن قدم أوامر الله وأكملها .. وضحى بشهواته من أجلها .. أكرمه الله بالجنة وأكمل شهواته فيها .. ومن أكمل محبوبات الله في الدنيا من الإيمان والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة .. أكمل الله له محبوباته في الآخرة.

ص: 3454

فأين من ينافس في أعمال الآخرة؟ وأين من يسابق في الخيرات، ليحصل على أعلى الدرجات في الجنات؟

إننا نرى جهد الدنيا مهماً جداً، ولذلك وظائف الدنيا عليها إقبال مع أن أجورها قليلة، ولا تحقق إلا متعة قليلة وهمية.

أما وظائف الدين فلا إقبال عليها بسبب ضعف الإيمان، مع أن أجورها عظيمة، وتحقق متعة وسعادة في الدنيا والآخرة.

وعادة الملك أن يعطي الجائزة الكبيرة، والهدية الكبيرة بنفسه، أما الجائزة الصغيرة، والهدية الصغيرة، فيأمر أحد الخدم أن يعطيها من يريد.

وهكذا أسباب الدنيا من الأموال والأشياء والمناصب، كلها صغيرة، فيعطيها الله عن طريق الأسباب.

أما الدين والجنة وما فيها من النعيم، فهو كسب عظيم وكبير، يعطيه الله من علم أنه يستحق ذلك في نفسه.

فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين إلا لمن يحب.

والله عز وجل ابتلى كل إنسان بطريقين:

طريق الإيمان والأعمال الصالحة، وطريق الأموال والشهوات، والإنسان الفائز من يقضي حياته بطريق الإيمان والأعمال الصالحة، ويأخذ من الأموال والشهوات بقدر الحاجة، والخاسر بضد ذلك.

واليهود والمشركون أحرص الناس على الحياة، كما قال سبحانه عنهم:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} [البقرة: 96].

ولماذا يحرصون على الحياة؟

لأنهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة، وعندئذ يكونون قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه، وخسروا الآخرة بالعمل السيئ الذي قدموه.

ص: 3455

فهم لا يحبون الموت، بل يحرصون على الحياة أياً كانت، ولا يهم أن تكون حياة كريمة، ولا حياة مميزة على الإطلاق.

إنهم يريدون أي حياة

حياة حشرات، أو حياة بهائم

أو حياة سباع

أو حياة عقارب

أو حياة شياطين.

وأعلى أنواع الحياة حياة الأنبياء والمرسلين، ثم من سار على هداهم من الصديقين والشهداء والصالحين، الذين حياتهم خالصة لامتثال أوامر الله وطاعته وعبادته:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء 69 - 70].

والله سبحانه إذا رقَّى عبده بالتدريج نوَّر باطنه وعقله بالعلم، فرأى أنه لا خالق سواه، ولا يملك الضر والنفع والعطاء والمنع غيره، وأنه لا يستحق أن يعبد سواه، وكل معبود سواه فباطل.

ثم إذا رقاه الحق سبحانه درجة أخرى فوق هذه أشهده عود المفعولات إلى أفعاله سبحانه، وعود أفعاله إلى أسمائه وصفاته، وقيام صفاته بذاته، فيضمحل شهود غيره من قلبه.

ثم إذا رقاه درجة أخرى أشهده قيام العوالم به وحده بإقامته لها، وإمساكه لها. فإنه سبحانه يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ويمسك البحار أن تغيض أو تفيض على العالم، ويمسك الطير في الهواء صافات ويقبضن.

ويمسك القلوب الموقنه أن تزيغ عن الإيمان، ويمسك أرواح الحيوان أن تفارقه إلى الأجل المحدود، ويمسك على الموجودات وجودها، ولولا ذلك لاضمحلت وتلاشت.

والكل قائم بأفعاله وصفاته التي هي من لوازم ذاته، فهو سبحانه مستغن عن كل ما سواه، وما سواه فقير إليه بالذات.

ص: 3456

فهذا العبد يشهد ربه منفرداً بالقيومية والتدبير، والخلق والرزق، والعطاء والمنع، والنفع والضر، ويرى جميع المخلوقات محل جريان أحكام الرب عليها، لا يملك شيئ منها لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

ومع هذا فهو ساع في طلب الوصول إليه، بالواجبات والنوافل حسب أمره وشرعه، ويشهد ألوهية الله فيتعلق به وحده دون سواه، ويحبه وينيب إليه، ويتوكل عليه، ويفرده بالمحبة والخوف، والرجاء والتعظيم والإجلال.

فهذه أعلى مقامات المؤمنين، وأحسن درجات المحسنين، قال سبحانه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال 2 - 4].

ولهؤلاء السابقين في الجنه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة 10 - 26].

وهذا السابق بالخيرات ما سبق إليها إلا بتوفيق الله تعالى ومعونته، فينبغي له أن يشتغل بشكر الله تعالى على ما أنعم عليه به، كما قال سبحانه وتعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32].

فالظالم لنفسه .. والمقتصد .. والسابق بالخيرات .. هؤلاء الذين ورثوا الكتاب، وهم الذين اصطفاهم الله لوراثة الكتاب.

ص: 3457

وبعرض متاجر الأقسام الثلاثة يتبين للعبد من أي التجار هو؟

أما جزاء الذين أورثهم الله كتابه فهو:

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)} [فاطر: 33].

وهم متفاوتون في هذا النعيم حسب أعمالهم، ودرجاتهم حسب قوة إيمانهم، وحسن أعمالهم وتنوعها.

فإذا تم نعيمهم، وكملت لذاتهم وسرورهم حمدوا الله على كمال النعيم:

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34].

فلا حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم، ولا في طعامهم، ولا في شرابهم، ولا في لذاتهم، ولا في أجسادهم، ولا في دوام لبثهم، فهم في نعيم ما يرون عليه مزيداً.

فله الحمد حيث غفر لنا الزلات، وقَبِل منا الحسنات وضاعفها، وأعطانا من فضله، ما لم تبلغه أعمالنا ولا أمانينا.

وأوصلنا إلى دار المقامة التي يرغب الإنسان في الإقامة فيها، لدوامها وكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها، وزوال كدورتها.

وذلك كله بفضله وكرمه لا بأعمالنا، فلولا فضله لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من كمال النعيم، حيث لا نصب ولا تعب.

{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: 35].

إن عظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة، وأقصى غاية، في كل عمل محمود.

والناس أصناف:

فمنهم من يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، فهذا

ص: 3458

يسمى عظيم الهمة.

ومنهم من فيه الكفاية لعظائم الأمور ولكنه يبخس نفسه، فيضع همه في أدنى الأمور وصغائرها، فهذا يسمى صغير الهمة.

ومنهم المتواضع الذي لا يكفي لعظائم الأمور، ويشعر أنه لا يستطيعها، وأنه لم يخلق لمثلها، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده.

ومنهم من لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها، وهذا يسمى فخوراً، والله لا يحب كل مختال فخور.

والقرآن الكريم يملأ النفوس بعظم الهمة والمسابقة إلى الخيرات، وهذا العظم هو الذي قذف بأولياء الله ذات اليمين وذات الشمال، فأتوا على قلوب مملوءة بالكفر والظلم، وجاهدوها حتى امتلأت بالإيمان والعدل.

وأتوا على عروش كانت ظالمة فنسفوها، ورفعوا فيها لواء العدل والأمن، وأتوا على عقول كانت ضالة ففجروا فيها أنهار العلوم تفجيراً.

فلله ما أعظم هذه الهمم، وما أشرف هذه النفوس الأبية.

ومجالات وأقسام علو الهمة كثيرة، يجمعها ست صفات هي:

طلب العلم

وحسن العبادة .. وحسن الاستقامة .. والبحث عن الحق

والدعوة إلى الله .. والجهاد في سبيل الله.

فعلو الهمة في طلب العلم يتمثل في الغيرة على الوقت أن ينفَقَ في غير فائدة، وحرص لايشفي غليله إلا بأكواب طافحة من كل علم، وغوص في البحث عن نفائس العلوم، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ولا مهاترة؛ لأنها مشغولة بالحق الذي أشغلها عن الباطل.

إن معالي الأمور وعزة المسالك محفوفة بالمكاره، والعلم أرفع مقام تطمح إليه الهمم، وأشرف غاية تتسابق إليها الهمم.

أما علو الهمة في العبادة والاستقامة فلها أقوام فقهوا عن الله أمره، وعرفوا

ص: 3459

حقيقة الدنيا، فاستوحشوا من فتنها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وارتفعت همتهم عن سفاسفها، وعرفوا الآخرة، فتعلقت قلوبهم بها، فلا تراهم إلا قوامين صوامين، ذاكرين شاكرين، مسبحين مستغفرين.

فما أعلى همتهم في التوبة والاستقامة، وما أقوى عزيمتهم في العبادة والإخبات، والذكر والدعاء.

وأما البحث عن الحق فما أكثر المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وما فيه من أحكام، فَمَنَّ الله عليهم وأعطاهم ما سألوا، وحقق لهم ما أرادوا، كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}

[العنكبوت: 69].

وأما علو الهمة في الدعوة إلى الله، فمن أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، والصبر على مشاق الدعوة، حتى تبلغ الغاية التي يريد الله أن تبلغها.

وقد كان الرسل الكرام على رأس قائمة عالي الهمة في هذا المجال، وكان أولو العزم منهم في الذؤابة .. بذلاً .. وصبراً .. وتضحية، وكان سيدنا محمد (في ذلك الغاية العظمى، والمثل الأعلى الذي ينبغي أن يحذو حذوه كل داعية إلى الله عز وجل، إذ لم يكن همه هداية قومه أو العرب فحسب، بل العالم كافة، وخاطب ملوك العالم ورؤساءه ليدخلوا في دين الإسلام.

والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى رجال عالي الهمة، وقد ضرب رسول الله (المثل الأعلى في هذا المجال فلم يكن أحد في وقت القتال أقرب إلى العدو منه، وكان أصحابه رضي الله عنهم مثلاً في الشجاعة والإقدام اقتداء به.

فما أحوج المسلمين اليوم إلى هذه الروح الوثابة، والهمة العالية؛ لتجاهد ضد أعداء الله، وأعداء الدين الحق، وتطهر الأرض من دَنَس أعداء الله ورسوله ودينه، وتنشر الفضيلة والحق في العالم.

ص: 3460

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا.

اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.

اللهم فقهنا في الدين واهدنا الصراط المستقيم، واجعلنا من عبادك المخلصين، ودعاتك الصادقين، وحزبك المفلحين.

{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران: 53].

ص: 3461