الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - فتنة الأموال والشهوات
قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 28].
وقال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14].
خلق الله الإنسان مركباً من ثلاثة أشياء:
جسداً مادياً .. ونفساً حيوانياً .. وروحاً ملكياً.
فجسد الإنسان يخلقه الله في بطن الأم ثم يخرج إلى الدنيا.
وفي نفس الإنسان بحار من الشهوات، وفي روح الإنسان بحار الطاعات، والجسد للغالب منها.
والشهوات والطاعات ليس لها حد، والنفس تريد تكميل الشهوات كلها في الدنيا، والله عز وجل جعل الدنيا محل تكميل الأوامر والطاعات، وجعل الآخرة محل تكميل الشهوات فمن أكمل طاعة الله في الدنيا أكمل الله شهواته في الآخرة.
فالذي يريد تكميل الشهوات في الدنيا إنما يطلب المحال؛ لأن الله جعل الدنيا ليست محلاً لتكميل الشهوات.
وفي الدنيا طريقان:
طريق إلى الجنة .. وطريق إلى النار.
فالإيمان والأعمال الصالحة الطريق الوحيد إلى الجنة .. والكفر والمعاصي الطريق الوحيد إلى النار؛ فالذي يريد تكميل الشهوات عليه أن يبحث عن طريق الجنة وهو الدين، ولا يضع قدمه في طريق النار.
وأوامر الله عز وجل كلها في مقابل شهوات النفس، فالإنسان إما أن يترك
الشهوات بسبب الطاعات، أو يترك الطاعات بسبب الشهوات، ولا يمكن الجمع بينها، كما لا يمكن الجمع بين الماء والنار، لكن بفعل الأوامر، ويأخذ من الشهوات بقدر الحاجة.
فالطاعات من الرب، والشهوات من النفس، فالإنسان إما أن يكون عبداً للرب، أو عبداً للنفس، والشيطان زين للناس أن الشهوات ضرورة فاتبع أكثر الناس الشهوات وتركوا أوامر الله {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].
الله تبارك وتعالى خالق الخلق، واسع الرزق، أنعم على العالمين بأنواع الأرزاق، وأصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، فهم بين العسر واليسر، والغنى والفقر، والطمع واليأس، والقناعة والحرص، والبخل والجود، والتبذير والتقتير، كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وينظر من يؤثر الإيمان والأعمال على الأموال والشهوات، ويرى من يؤثر الآخرة على الدنيا كما قال سبحانه:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}
…
[الكهف: 7].
وفتن الدنيا كثيرة الأنواع، واسعة الأرجاء، ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل أشغل عن طاعة الله ورسوله.
والأموال أعظمها فتنة، وأطمها محنة، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها، وإذا وجدت فلا سلامة منها، وإذا فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، وإذا وجد حصل فيه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسراً كما قال سبحانه:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7].
والأموال بوجه عام لا تخلو من الفوائد والآفات، وفوائدها من المنجيات، وآفاتها من المهلكات، وتمييز خيرها من شرها لا يدركه إلا ذو البصائر في الدين من العلماء الأبرار.
فالدنيا فتنها كثيرة، والمال بعض أجزاء الدنيا، والجاه بعضها، واتباع شهوة
البطن والفرج بعضها، وأكل الحرام بعضها ونحو ذلك.
والغنى والفقر حالتان يبتلى بهما العباد في الدنيا.
فللفقير حالتان: القناعة والحرص، فالقناعة محمودة، والحرص مذموم، وللحريص حالتان: طمع فيما في أيدي الناس، وتشمر للعمل، والطمع شر الحالين.
وللغني حالتان: إمساك بحكم البخل والشح، وإنفاق بحكم الجود والكرم، فالأولى مذمومة، والأخرى محمودة.
وللمنفق حالتان: تبذير واقتصاد، والمحمود هو الاقتصاد كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67].
وقد خلق الله سبحانه الأموال لمصالح العباد، والمال لا يذم لذاته، بل يقع الذم لمعنى من الآدمي، وذلك المعنى:
إما شدة حرصه .. أو أخذه من غير حله .. أو حبسه عن حقه .. أو إخراجه في غير وجهه .. أو المفاخرة به .. والتكبر على الخلق بسببه.
فالمال لا يذم لذاته، بل ينبغي أن يمدح؛ لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين والدنيا، وقد سماه الله تعالى خيراً، وهو قوام الآدمي، لكن الواجب فيه: أخذه من حله، ووضعه في حقه.
ولا بدَّ من معرفة فوائده وغوائله ليحترز العبد من شره، ويستدر من خيره:
أما فوائد المال فتنقسم إلى قسمين:
فوائد دنيوية .. وفوائد دينية.
فالفوائد الدنيوية: الخلق يعرفونها، ولذلك تهالكوا في طلبها.
وأما الفوائد الدينية فتنحصر في ثلاثة أنواع:
أحدها: أن ينفق المال على نفسه وأهله إما في عبادة كالحج والجهاد في سبيل الله، وإما في الاستعانة به على العبادة، كالمطعم والملبس والمسكن ونحوها
من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر لم يتفرغ القلب للدين والتوجه في العبادة.
وما لا يتوصل إلى حسن العبادة وكمالها إلا به فهو عبادة، فأخذه الكفاية من الدنيا للاستعانة به على الدين من الفوائد الدينية.
الثاني: ما يصرفه الغني للناس من الأموال كالصدقات والزكوات للفقراء والمساكين ونحوهم، والمروءة ببذل الأموال للأغنياء والأشراف، وإلى العلماء والدعاة في ضيافة أو هدية أو إعانة ونحو ذلك مما يكتسب به العبد الإخوان والأصدقاء.
ووقاية عرضه كبذل المال لقطع ألسنة السفهاء وكف شرهم.
وما يعطيه أجراً على الاستخدام، فإن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لمصالحه كثيرة، ولو تولاها بنفسه لضاعت أوقاته.
الثالث: ما لا يصرفه الإنسان إلى معيَّن، لكن يحصل به خيراً عاماً كبناء المساجد والأوقاف والوصايا ونحوها كالإنفاق في سبيل الله على الدعاة والمجاهدين في سبيل الله، ويضاف إلى ذلك الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والاستغناء عما في أيدي الخلق.
وأما غوائل المال وآفاته فهي قسمان كذلك:
آفات دينية .. وآفات دنيوية.
أما الآفات الدينية فثلاث:
الأولى: أن المال يجر إلى المعاصي غالباً؛ لأن من استشعر القدرة على المعصية انبعثت دواعيه إليها.
والمال نوع من القدرة يحرك داعية الإنسان إلى المعاصي، فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهي هلك، وإن صبر لقي شدة في معاناة الصبر مع القدرة، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا تجد.
الثانية: أن المال يحرك الإنسان إلى التنعم في المباحات حتى تصير له عادة
وإلفاً فلا يصبر عنها، وربما لا يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة فيقتحم الشبهات، ويترقى إلى الكذب والنفاق، ثم يدخل في المحرمات لتكميل شهواته، ثم يترقى إلى الكبائر كما قال سبحانه:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].
الثالثة: أن يلهيه ماله عن ذكر الله عز وجل وعبادته، وهذا هو الداء العضال الذي لا ينفك عنه أحد، فإن أصل العبادات ذكر الله عز وجل، والتفكر في جلاله وعظمته، وذلك يستدعي قلباً فارغاً يناجي ربه لا يشغله شيء عنه، وصاحب الضيعة يصبح ويمسي متفكراً في أحوال ضيعته، وصاحب التجارة يمسي ويصبح متفكراً في أحوال تجارته، وفي الخوف على ماله.
هذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن، والهم والغم، والعناء والتعب، في متاع يفنى، وخير من ذلك لو كان الجهد في أرباح تبقى:{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران: 15].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» أخرجه مسلم (1).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«اللَّهُمَّ! اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» متفق عليه (2).
والسنة فيمن وجد المال أن يستعمله في السخاء والإيثار، واصطناع المعروف، ومن فقد المال أن يستعمل القناعة والاقتصاد في المعيشة.
وإذا تيسر للإنسان في الحال ما يكفيه فلا يضطرب لأجل المستقبل، وإذا انسد عنه باب كان ينتظر منه الرزق فلا ينبغي أن يضطرب قلبه، فلن ينقص رزقه الذي قدره الله له: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
(1) أخرجه مسلم برقم (1054).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6460)، ومسلم برقم (1055) واللفظ له.
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2، 3].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ» أخرجه ابن ماجه (1).
والمال لا ينفع صاحبه إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون حلالاً.
الثاني: أن لا يشغل عن ذكر الله وطاعة الله ورسوله.
الثالث: أن يؤدي حق الله فيه.
والمربي هو الله سبحانه، والرازق هو الله وحده، فالتاجر يجلس في متجره لينفذ أوامر الله في التجارة، لا بنية أن المتجر يربني أو يرزقني؛ لأن الرازق هو الله وحده، والمتجر سبب للربح أو الخسارة، وقد أمرنا الله بالكسب.
فالتاجر في امتحان في تجارته:
هل يلتزم بأوامر الله ورسوله في تجارته؟.
هل ينفذ أوامر الله في أمواله كسباً وإنفاقاً؟.
هل يميز بين الحلال والحرام في تجارته؟.
هل يغش في تجارته؟، هل يأكل الحرام؟، هل يقينه على ربه أم على جهده؟، وهكذا. فهو يجرب إيمانه .. هل ينفذ أوامر الله أم يتبع الهوى؟.
فمن كانت تجارته وفق أوامر الله بارك الله في تجارته، وصارت تجارته عبادة، فبعد الإيمان تأتي حركات المسلم وأعماله كلها لله على طريقة رسول الله: عبادة .. ودعوة .. ومعاملة .. وتجارة .. وجهاد .. وغير ذلك: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162].
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (2144)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (1743).
انظر السلسلة الصحيحة (2607).
لكن المسلم يعمل في الكسب ببدنه وقلبه معلق بالله والدار الآخرة.
والمقصود من التجارة الإفادة لجميع الإنسانية، بتوفير ما يحتاجه الناس من الحلال الطيب، وتنفيذ أوامر الله في التجارة بأخذها من الحلال، وإنفاقها في وجوه الخير.
ولكسب المعاش طريقان:
الأول: طريق لعامة الناس مؤمنهم وكافرهم، وهو طلب الرزق بالأسباب المشروعة في سائر البلاد كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15].
الثاني: طريق الخاصة، وهم المؤمنون المتقون الذين يجتهدون في دين الله، وليس عندهم وقت أن يشتغلوا بالأسباب الكسبية فهؤلاء عليهم أن يختاروا طريق الإيمان والتقوى فيحصلوا على خمسة أشياء:
الأول: حصول البركات كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}
…
[الأعراف: 96].
الثاني: سهولة الحصول على الرزق كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].
الثالث: تيسير الأمور كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4].
الرابع: تكفير السيئات كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} [الطلاق: 5].
الخامس: دخول الجنة كما قال الله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133].
والمال له أربع مراحل:
الأولى: مرحلة جمعه والحصول عليه، إما عن طريق الكسب والعمل، وإما عن
طريق الهدية، أو الوصية، أو الميراث ونحو ذلك.
الثانية: مرحلة حفظه بعد حصوله.
الثالثة: مرحلة الاستفادة منه في الأكل، والشرب، واللباس، والسكن ونحو ذلك .. وهذه لازمة.
الرابعة: مرحلة الإنفاق منه في سبيل الله .. وهي أعلاها.
وأهل الأموال ثلاثة أصناف:
محسنون .. وظالمون .. وأهل العدل.
فالمحسنون هم المتصدقون، والظالمون هم أهل الربا .. وأهل العدل هم المتبايعون حسب السنة.
وقد ذكر الله أحكام الناس في الأموال وبين أنها ثلاثة:
عدل .. وإحسان .. وظلم.
فالعدل البيع .. والإحسان الصدقة .. والظلم الربا.
فمدح الله سبحانه المتصدقين وذكر ثوابهم وهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274].
وذم المرابين وذكر عقابهم فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} [آل عمران: 130، 131].
وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى كما قال سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة: 275].
وكما أن للصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها أحكاماً وأصولاً، فكذلك لكسب المال أصول، ولإنفاقه أصول، وكان إنفاق المال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على النحو التالي:
الأول: الإنفاق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كما أنفق الرسول (وأبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني: الإنفاق لإكمال أركان الإسلام كالزكاة والحج ونحوها.
الثالث: الإنفاق لقضاء حاجات الناس ومواساة الفقراء والمساكين كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: 60].
الرابع: الإنفاق على حاجات النفس والأهل.
وبسبب تغير الترتيب للجهد والمال، صار الجهد للدنيا لا للدين، وصار إنفاق المال للشهوات، فقلت الطاعات، وزادت المعاصي والمنكرات، وقل دخول الناس في الإسلام، بل بدأ الناس يخرجون من الدين.
وبقي من الدين صورة الأعمال، فهان على الكفار استباحة ديار المسلمين، والتحكم في حياتهم، ونهب ثرواتهم، وإشغالهم بالألعاب والشهوات عن الإيمان والعبادات.
وقد جعل الله سبحانه الدنيا دار كسب .. تارة للمعاش .. وتارة للمعاد.
والتجارة لا تراد لذاتها، بل للاستغناء عن الناس، وإعفاف الأهل، ومواساة المحتاجين، وإفاضة الفضل على الإخوان، والإنفاق في سبيل الله.
أما إن كان المقصود نفس المال وجمعه والتفاخر به فهو مذموم.
والكسب المحمود ما جمع أموراً أربعة وهي:
الصحة .. والعدل .. والإحسان .. والشفقة على الدين.
أما الصحة في البيع: فمنها ما يتعلق بالسلعة وصاحبها، فلا يشتري من مجنون ولا صغير، ولا يشتري ولا يبيع ما لا يقدر على تسليمه حساً كالطير في الهواء، ولا شرعاً كالمرهون ونحو ذلك، وأن يكون البيع بإيجاب وقبول أو معاطاة، ونحو ذلك.
وأما العدل: فيجتنب البائع والمشتري ما يتضرر به أحدهما كالاحتكار والغش والنجش، ولا يثني البائع على السلعة بما ليس فيها، أو يكتم بعض عيوبها، ويرجح الوزن، وتحقيقه أن يرجح إذا أعطى، وينقص إذا أخذ.
أما الإحسان في المعاملة: فقد أمر الله بالعدل والإحسان، ومن الإحسان المسامحة في البيع، وأن لا يغبنه في الربح بما لا يتغابن به عادة.
وإذا أراد البائع استيفاء الثمن أو الدين فيحسن تارة بالمسامحة، وتارة بحط البعض، وتارة بالإنظار، وتارة بالتساهل، ومن الإحسان إقالة المستقيل.
أما شفقة التاجر على دينه: فلا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده بل يراعي دينه، ويتم ذلك بأمور:
الأول: حسن النية في التجارة، فينوي بها الاستعفاف عن السؤال، وكف الطمع عن الناس، وكفاية العيال، والإفاضة على الإخوان، والإحسان إلى الفقراء بالصدقات، وامتثال أوامر الله في التجارة ليحصل له الأجر، ويكون من جملة المجاهدين.
الثاني: أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة، وسوق الآخرة المساجد، وطلب العلم، والدعوة، والعبادة، وأعمال البر المختلفة، فيقسم الأوقات حسب حاله، ويرجح سوق الآخرة.
الثالث: أن يلازم ذكر الله تعالى في السوق، ويشتغل بالتسبيح والتهليل، وغض البصر، وحفظ اللسان، والذكر والفكر والتذكير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: أن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة، فلا يكون أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منه.
الخامس: أن لا يقتصر على اجتناب الحرام، بل يتوقى مواقع الشبهات، ومواضع الريب.
السادس: أن يقصد بتجارته وصناعته مع إعفاف نفسه القيام بفرض من فروض
الكفايات التي يحتاجها المسلمون ليؤجر على ذلك.
وشركاء الإنسان في المال ثلاثة:
الأول: القدر فهو لا يستأمرك أو يستأذنك أن يذهب به عنك بهلاك أو موت.
الثاني: الوارث ينتظر أن تضع رأسك وتدفن، ثم يستاقه وأنت ذميم.
الثالث: أنت، فقدمه لما ينفعك، فستسأل عن مدخله ومخرجه.
والله عز وجل خلق الخلائق من طير وحيوان، وإنس وجان، وكتب أرزاقهم وآجالهم وآثارهم، وهم جميعاً يأكلون من رزق الله.
والله عز وجل يرزق أحياناً بالأسباب .. وأحياناً بدون الأسباب .. وأحياناً بضد الأسباب كما رزق مريم طعاماً بلا شجر، وولداً بلا ذكر، وفجر الماء لموسى وقومه من الحجر.
وكل مخلوق كتب الله له مقدار رزقه .. ونوعية رزقه .. وزمان رزقه .. ومكان رزقه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].
ولكل مخلوق رزقه ينتظره، فلا يمكن أن يأخذ أحد منه شيئاً، وهو يطلبه وإن لم يطلبه:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32].
وبنو آدم يحصلون على أرزاقهم من خمسة أبواب:
الباب الأول: باب المجاهدة والكد والتعب، وذلك بالبيع والشراء والتجارة والصناعة والزراعة، ونحو ذلك، وهذا الباب لعموم الناس.
الباب الثاني: باب الحقوق والواجبات: كالوصية والميراث، والزكاة والصدقات، والهبة والهدية، والأوقاف ونحو ذلك.
الباب الثالث: باب الذل والهوان: كمن يسأل الناس ويتذلل لهم ليعطوه.
الباب الرابع: باب المعاصي والمحرمات: كمن يأكل الربا، ويسرق الأموال،
ويقطع الطريق، ويغصب الأموال، أو يغش في المعاملات، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو يأخذها بطريق الميسر أو القمار، أو يحتكر المال، أو يأخذ الرشوة ونحو ذلك من الوسائل المحرمة.
فهذا وما قبله قد كتب الله له رزقه ولكنه لم يصبر، واستعجل وأخذها بطريق الذل أو الحرام.
الخامس: باب التقوى والصلاح: وهذا يحصل على رزقه بالإيمان والأعمال الصالحة كالاستغفار، وصلة الرحم، وحسن الخلق، والتقوى، والتوكل على الله، والإنفاق في سبيل الله، والإحسان إلى الخلق، والهجرة في سبيل الله ونحو ذلك كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
وهذا الباب خاص بالمؤمنين.
فالأول: مباح مأمور به .. والثاني: من الإحسان والحقوق فهو مشروع ومأمور به .. والثالث: أخس الأبواب وأدناها .. والرابع: أخطرها وأعظمها وأشدها جرماً .. والخامس: مأمور به، وهو طريق الأنبياء وأتباعهم، وهو أعلاها وأشرفها وأزكاها وأعظمها بركة.
وكسب المال مباح، بل مأمور به، وإنما المذموم كسبه من غير وجهه، وصرفه في غير وجهه، ومنع الحق الواجب فيه.
والوسائل لها أحكام المقاصد، فالذي يجعل الدين مقصد حياته، ثم يستخدم الوسائل المشروعة لهذا المقصد، فهذا كله خير.
فالأموال والتجارة خير؛ لأنها من الوسائل التي جعلها الله نصرة للدين، فأبو بكر وعمر وعثمان، وابن عوف وطلحة والزبير رضي الله عنهم، كل هؤلاء تجار، وقد استخدموا تجارتهم للدين، فيؤجرون في الكسب الحلال، ويؤجرون في الإنفاق في سبيل الله، ويؤجرون في امتثال أوامر الله في تجارتهم، ويؤجرون في حسن الأخلاق في معاملاتهم، فتكون معاملاتهم سبباً لدخول الناس في
الإسلام، لما يرونه من عدل الإسلام وسماحته.
والصحابة رضي الله عنهم كلهم أهل عمل وتجارة، وأقلهم ليس لديه عمل كأهل الصفة ونحوهم.
وإذا جاء المال للإنسان بغير سؤال فينبغي أن يلاحظ فيه ثلاثة أمور:
نفس المال .. وغرض المعطي .. وغرضه في الأخذ.
أما نفس المال: فينبغي أن يكون خالياً من المحرمات والشبهات كلها.
وأما غرض المعطي، فإن كان طلباً للمحبة بالهدية فلا بأس من قبولها إن لم تكن رشوة، وإن كان غرض المعطي الثواب وهو الزكاة والصدقة، فعليه أن ينظر في صفات نفسه هل هو مستحق أم لا؟.
وإن كان غرض المعطي الشهرة والرياء والسمعة، فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد بردها.
وأما غرضه في الأخذ، فإن كان مستغنياً عنه لم يأخذه، وإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة. فالأفضل له الأخذ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه:«خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَك» متفق عليه (1).
والله عز وجل جعل في المال حقوقاً، وهي نوعان:
حقوق واجبة .. وحقوق مستحبة.
فالحقوق الواجبة كالزكاة المفروضة، والنفقات الواجبة على من تلزمه.
والحقوق المستحبة، كمكافأة المهدي، والصدقات، والهدايا، وما وقى به عرضه ونحو ذلك.
فالجواد حكيم يضع العطاء مواضعه، ويتوخى بماله أداء هذه الحقوق على وجه الكمال، طيبة بذلك نفسه، راضية مؤملة للخلف في الدنيا، والثواب في العقبى.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7164)، ومسلم برقم (1045)، واللفظ له.
أما المسرف المبذر فقد يصادف عطاؤه موضعه، وكثيراً لا يصادفه، فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافاً لا على تقدير ولا مراعاة مصلحة وإن اتفقت له.
فالأول بمنزلة من بذر حباً في أرض خصبة فأنبتت من كل زوج بهيج.
والثاني بمنزلة من بذر حبه في أرض سبخة.
والله سبحانه هو الجواد على الإطلاق، بل كل جود في العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى جوده أقل من قطرة في بحار الدنيا وهي من جوده.
ومع هذا فالله إنما ينزل بقدر ما يشاء، وجوده لا يناقض حكمته، ويضع عطاءه مواضعه، وإن خفي على أكثر الناس أن تلك مواضعه.
فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يضع فضله، وأعلم حيث يضع هداه وتوفيقه وأي المحال أولى به:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].
والله سبحانه هو الرزاق الذي يرزق من يشاء من عباده، ويحثه على الإنفاق في سبيل الله، فيبدأ عبده بالحض والتأليف، لا بالفرض والتكليف، ويشعره بأن الله يضاعف له أجر ما أنفق، يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده، ويضاعف من رحمته التي لا يعلم أحد مداها.
ويطمئنه أنه في إنفاقه لا يعطي بل يأخذ، وأن ماله لا ينقص بل يزيد كلما أنفق، كما تعطي الحبة إذا أودعها في الأرض سبعمائة حبة كما قال سبحانه:
فالمن والأذى يحيل الإنفاق سماً وناراً، يمحق الإنفاق، ويمزق الشمل، ويثير السخائم والأحقاد، والمن عنصر كريه لئيم، فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس،
فالمن يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ على حد سواء، أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء، ورغبة في رؤية أخيه ذليلاً له، كسيراً لديه، ربما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله، وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام، ومن هنا يبطل الثواب والأجر بالمن والأذى كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة: 264].
وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد خلة الفقير، وملء بطن الجائع، وتلافي حاجة المعوز فقط؛ بل أراد فوق ذلك تهذيب نفس المعطي وتزكيتها، وتطهيرها من الشح والحرص والبخل، واستجاشة مشاعر الإنسان تجاه أخيه الفقير المحتاج، وتذكيراً له بنعمة الله عليه.
وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها في سبيل الله في غير منع ولا منّ.
والمال مال الله، والرزق الذي في خزائن الأغنياء هو رزق الله، وهذه حقيقة لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الرزق القريبة والبعيدة.
فالذي خلق الإنسان خلقه وساق رزقه إليه، فإذا أعطى الواجد شيئاً، فإنما يعطي من مال الله، وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافاً كثيرة، وليس الفقير الآخذ إلا أداة وسبباً لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله.
والصدقة ليست تفضلاً من المانح على الآخذ، إنما هي قرض لله، والله غني عن الصدقة المؤذية، والصدقة التي يتبعها أذى لا ضرورة لها، وأحسن منها كلمة طيبة تضمد الجراح، ومغفرة تغسل أحقاد النفوس، وتحل محلها الإخاء والمحبة.
فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة من تهذيب النفوس وتأليف القلوب: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263].
والله حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون، فلا يعاجلهم بالعقوبة وهو معطيهم كل شيء، فعلى الناس أن لا يعجلوا بالغضب والأذى على من يعطونهم من مال الله، حين لا يروقهم منهم أمر، ولا ينالهم منهم شكر.
والصدقة حركة إحسان محسوسة، وهي ثمرة لما في القلب من الإيمان والكفر، والإخلاص والرياء.
والمنفقون قسمان:
الأول: من أنفق ماله رياء، فهذا لا يثمر خيراً، ولا يعقب مثوبة، وحظ صاحبه منه التعب في كسبه، والحسرة على فوته، والعذاب على فعله وإنفاقه.
الثاني: من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله، فهذا يثمر خيراً، ويعقب مثوبة، وحظ صاحبه منه الأجر في كسبه، ومضاعفة أجره وماله، وتطهير نفسه وماله، والفوز بالجنة.
والله جل جلاله طيب لا يقبل إلا طيباً، فينبغي أن يكون الجود بأفضل الموجود، فلا يكون بالدون والرديء الذي تعافه النفوس.
والله غني عن الخبيث الذي يخرجه ضعيف الإيمان واليقين.
حميد يحمد الطيب الذي يخرجه الإنسان، ويجزي به عليه جزاء الراضي الشاكر، وهو الذي أعطاه إياه.
بل الله غني عن عطاء الناس إطلاقاً، فإذا بذلوا مالاً فإنما يبذلونه لأنفسهم، فليبذلونه طيباً طيبة به نفوسهم كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267].
والأموال فيها خير من وجه، وفيها شر من وجه، وهي كالحية يأخذها الراقي
فيستخرج منها الترياق، ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري.
ولا يخلو أحد عن سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف:
الأولى: أن يعرف الإنسان مقصود المال، وأنه لماذا خلق؟، فلا يحفظ إلا قدر الحاجة، ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه.
الثانية: أن يراعي جهة دخل المال، فيجتنب الحرام المحض، وما الغالب عليه الحرام، ويجتنب الجهات المكروهة القادحة في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة، وكالسؤال الذي فيه الذلة، وهتك المروءة ونحو ذلك.
الثالثة: في المقدار الذي يكتسبه، فلا يستكثر منه ولا يستقل، بل القدر الواجب، ومعياره الحاجة، والحاجة مطعم وملبس ومسكن، يميل فيها إلى جانب القلة، وإن جاوز ذلك وقع تدريجياً في هاوية لا آخر لعمقها.
الرابعة: أن يراعي العبد جهة المخرج، ويقتصد في الإنفاق غير مبذر ولا مقتر، فيضع ما اكتسبه من حله في حقه، ولا يضعه في غير حقه، فالإثم في الأخذ من غير حقه وصرفه في غير حقه سواء.
الخامسة: أن يصلح نيته في الأخذ والترك، والإنفاق والإمساك، فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة، ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له، فإذا فعل ذلك لم يضره وجود المال.
وكذلك ينبغي أن تكون نيته في كل ما يحفظه من قميص وفراش وآنية، ينوي به الاستعانة على العبادة؛ لأن كل ذلك مما يحتاج إليه في الدين.
وما فضل عن الحاجة ينبغي أن يقصد به أن ينتفع به عبد من عباد الله، ولا يمنعه منه عند حاجته، فمن فعل ذلك فهو الذي أخذ من حية المال جوهرها وترياقها، واتقى سمها، فلا تضره كثرة المال، ولكن لا يتأتى ذلك إلا لمن رسخ في الدين قدمه، وعظم فيه علمه.
ومن أخذ حية المال مستحسناً صورتها وشكلها، ومستليناً جلدها، قتلته في الحال، إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل، وقتيل المال قد لا يعرف أنه قتيل،
وتلك الفتنة التي قلما يصحو منها أحد: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55 - 56].
وقال الله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].
فالأصل في المال إنفاقه في الواجبات والمستحبات، وفي كا ما يرضي الله طلباً للأجر وتخلصاً من كل شاغل عن الله، كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}
…
[المنافقون: 9 - 11].