الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - فقه حب الدنيا
قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14].
وقال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)} [القيامة: 20 - 21].
حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقَّر الله، وهي سجن المؤمن، وجنة الكافر.
وقد لعنها الله وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للعنه ومقته وغضبه سبحانه.
ومن أحب الدنيا صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة، فانعكس قلبه، وانعكس سيره إلى وراء، وسار في الظلمات، وترك طريق الهدى والنور:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].
ومحبة الدنيا تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة؛ لأشتغاله عنه بمحبوبه.
والناس ها هنا مراتب:
فمنهم من يشغله محبوبه من الدنيا عن الإيمان وشرائعه.
ومنهم من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله ولخلقه، فلا يقوم بها ظاهراً ولا باطناً.
ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات والسنن.
وأقل درجات حب الدنيا أنه يشغل عن سعادة العبد، وهو تفريغ القلب لحب الله، ولسانه لذكره.
ومحبة الدنيا تضر بالآخرة ولا بدّ، كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا، ومحبتها
تجعلها أكبر هَمٍّ للعبد.
ومحب الدنيا أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب في دوره الثلاث: يعذب في الدنيا بتحصيلها، والسعي فيها، ومنازعة أهلها، ويعذب في البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، فيعمل فيه الهم والغم والحزن والحسرة في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه.
ومن أحب الدنيا، وآثرها على الآخرة، فهو من أسفه خلق الله، وأقلهم عقلاً، إذ آثر الظل الزائل على النعيم الدائم، والدار الفانية على الدار الباقية، وباع حياة الأبد في أرغد عيش، بحياة إنما هي أحلام ونوم.
فالدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وهي دار ظعن ليست بدار إقامة،
مَنْ صح فيها هرم .. ومن استغنى فيها فُتن وطغى .. تُذل من أعزها .. وتُفقر من جمعها .. وهي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه.
وصاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، السار فيها غذاء ضار، وقد وُصِلَ الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، صفوها كدر، وعيشها نكد، وليس لها عند الله قدر ولا وزن.
وقد عرضت الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض الله خالقه، أو يرفع ما وضع ربه.
فزوى الله الدنيا عن الأنبياء والمرسلين والصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً،
فيظن المغرور بها القادر عليها أنه أُكرم بها، وشرفه الله بملكه لها، ونسي ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه، وأنه وهو سيد الخلق لم توقد النار في بيته الشهر والشهرين، فقطع حبالها، وأغلق أبوابها، وزهد بسلعها.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا ابتلي بشغل لا
ينفك عناؤه، وأمل لا يدرك منتهاه، فالدنيا طالبة مطلوبة، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه.
والعاقل من رضي بيسير الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بيسير الدين مع سلامة الدنيا.
وشهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المدة، وسوف يجد الإنسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والفتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت في المعدة غايتها، واستحالت إلى رجيع قذر.
ومَثَل اشتغال أهل الدنيا بنعيمها، وغفلتهم عن نعيم الآخرة، مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة في البحر، فأمرهم الملَاّح بالنزول لقضاء الحاجة، وحذرهم الإبطاء، وخوَّفهم ذهاب السفينة، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة، فأخذ أوسع الأماكن وألينها، وأرفقها لمراده.
ووقف بعضهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وثمارها العجيبة، ويعجبه حسن أحجارها، وأصوات طيورها.
ثم حدثته نفسه بفوت السفينة، فأسرع فلم يجد فيها إلا مكاناً ضيقاً يجلس فيه.
وأكب بعضهم على تلك الأحجار الحسنة، والأزهار الجميلة، فحمل منها ما حمله، فلما جاء لم يجد في السفينة موضعاً فحمله على عنقه، وندم على أخذه، ثم ذبلت الأزهار، وتغيرت ريحها، وآذاه نتنها.
وهام بعضهم في تلك الفياض، ونسي السفينة، وأبعد في نزهته.
فهو تارة يشم الأزهار .. وتارة يأكل من الثمر .. وتارة يعجب من تغريد الطيور، وجريان الأنهار، وهو مع ذلك خائف من سبع يخرج، أو شوكة تدخل في قدميه، أو غصن يجرح بدنه ويخرق ثيابه.
فمن هؤلاء من لحق السفينة ولم يلق فيها موضع فمات على الساحل، ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع وهو غافل، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك.
فهذا مثال أهل الدنيا، واشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم.
والعبد في هذه الدنيا مهاجر بعمله إلى ربه، والدنيا فانية زائلة، وهي كظل شجرة، والعبد فيها مسافر، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف استراح تحتها ثم راح وتركها، فلا يحسن به أن يبني تحتها داراً، ولا يتخذها قراراً، بل يستظل بقدر الحاجة ثم يواصل السير، كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَاّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
والدنيا وما فيها من النعيم بالنسبة إلى الآخرة ونعيمها كالقطرة بالنسبة إلى البحر، وما في الدنيا من الأموال والأشياء لا يساوي شيئاً بالنسبة لما في الآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ (وَأشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ) فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» أخرجه مسلم (2).
ومهما كان في الدنيا من النعيم فبقاؤها محدود، وبهجتها قليلة، وهي سريعة الزوال كما قال سبحانه:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20].
لذا أمرنا الله عز وجل بالمسابقة إلى الآخرة، والمسارعة إلى أعمالها كما قال سبحانه:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].
(1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2377)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1931).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4109)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (2317).
(2)
أخرجه مسلم برقم (2858).
وقال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133].
وكل إنسان في هذه الدنيا في إحدى منزلتين:
إما في منزلة الإيمان والتقوى والإصلاح وعمارة الآخرة بالأعمال الصالحة.
وأما في منزلة الكفر والفساد، والأكل والشره، وعمارة الدنيا الفانية.
فالإنسان إن لم تجده يعمل في هذه .. فتجده يعمل في الأخرى، وبين الرجلين في العمل كما بين الكوكب الغارب في الأفق والطامع منه .. وبين ذلك منازل متفاوتة.
والدنيا كالبحر الذي لا بدَّ للخلق كلهم من ركوبه ليقطعوه إلى الساحل الذي فيه دورهم وأوطانهم، ولا يمكن قطعه إلا في سفينة النجاة، وسفينة النجاة طاعة الله ورسوله.
وقد أرسل الله الرسل لتعرف الأمم اتخاذ سفن النجاة، وتأمرهم بعملها وركوبها، فنهض الموفقون وركبوا السفينة فوصلوا إلى محبوبهم ومرادهم.
وأما الحمقى من الناس فاستصعبوا عمل السفينة وركوبها، وقالوا نخوض البحر فإذا عجزنا قطعناه سباحة، وهم أكثر أهل الدنيا الذين خاضوا البحر، فلما عجزوا أخذوا في السباحة حتى أدركهم الغرق، وصار حظهم شقاء الأبد.
فهؤلاء الذين يعرضون على النار ويوبخون هناك كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} [الأحقاف: 20].
فمن اطمأن إلى الدنيا .. واغتر بلذاتها .. ورضي بشهواتها .. وألهته طيباتها عن السعي للآخرة .. وتمتَّع بها تمتُّع الأنعام السارحة .. فهي حظه من الآخرة .. وسينال على ذلك أشد العقوبة لتكبره عن الحق .. وقول الباطل .. والعمل بالباطل .. والكذب على الله.
والدنيا متاع الغرور .. كم قتلت؟ .. كم أهلكت من البشر؟.
ومثل الدنيا كمثل حب قد نثر على وجه الأرض، وجعلت كل حبة في فخ، وجعل حول ذلك الحب حب منثور، فجاءت إليه الطيور:
فمنها من قنع بالجوانب، ولم يرم نفسه في وسط الحب، فأخذ حاجته ومضى وسلم.
ومنها من حمله الشره على اقتحام معظم الحب ووسط الحب فوقع في الفخ، وقد انهمك كثير من الناس في الدنيا، وصاروا يقصدونها ويتهافتون فيها تهافت الفراش في النار لما يرى من ضوئها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمََا مَثَلِي وَمَثَلُ أمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ» متفق عليه (1).
وكل أحد في هذه الدنيا ضيف، وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مؤداة.
والدنيا كمثل رجل هيأ داراً وزينها، ووضع فيها من جميع الآلات، ودعا الناس إليها، فكلما دخل ضيف أجلسه على فراش وثير، ووضع بين يديه أواني فاخرة، فيها من كل ما يحتاج إليه من الطعام والشراب، وأخدمه عبيده ومماليكه.
فعرف العاقل أن ذلك كله متاع صاحب الدار وملكه وعبيده، فاستمتع بتلك الآلات والضيافة مدة مقامه في هذه الدار، ولم يعلق قلبه بها، ولم يحدث نفسه بتملكها، بل اعتمد مع صاحب الدار ما يعتمده الضيف.
يجلس حيث أجلسه، ويأكل ما قدم له، ولا يسأل عما وراء ذلك؛ اكتفاء منه بعلم صاحب الدار وكرمه، وما يفعله مع ضيوفه، فدخل كريماً، وتمتع كريماً، وفارقها كريماً، ورب الدار غير ذام له.
وأما الأحمق فحدث نفسه بسكنى الدار، وحوز تلك الآلات إلى ملكه، وتصرف فيها بحسب شهوته وإرادته، فتخير المجلس لنفسه، وجعل يبدل وينقل الآلات، ويغير ما شاء، وكلما قدَّم إليه صاحب الدار شيئاً حدث نفسه
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3426)، ومسلم برقم (2284) واللفظ له.
بملكه، واختصاصه به دون غيره.
ورب الدار يشاهد ما يصنع، وكرمه يمنعه من إخراجه من داره، حتى إذا ظن أنه قد استبد بتلك الآلات، ومَلَك الدار، وتصرف فيها تصرف المالك الحقيقي، واستوطنها واتخذها داراً له، أرسل إليه مالكها عبيده .. فأخرجوه منها إخراجاً عنيفاً، وسلبوه كل ما هو فيه، ولم يصحبه من تلك الآلات شيء.
وحصل على مقت رب الدار، وافتضاحه عنده، وبين مماليكه وحشمه وخدمه، فيا لها من عبرة لمن كان له عقل يعقل به:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37].
ومثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، فلا يزال يشرب حتى يقتله الماء المالح.
والدنيا كالظل للإنسان، لا يمكن أن يدركه ولو مشى الدهر كله.
والله عز وجل خلق الدنيا ليبتلي بها العباد، ولينظر من يركن إليها فتقتله، ومن يطيع الله ويتبع هداه فيسعد في الدنيا والآخرة.
ومَثَل ذلك كمثل ملك بنى داراً لم ير الناس ولم يسمعوا بمثلها، فلا أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها، ونصب إليها طريقاً، وبعث داعياً يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زُينت بأنواع الزينة، وأُلبست أنواع الحلل والحلى تشويقاً للناس إليها، وجُعل لها أعواناً وخدماً، وجُعل تحت يدها ويد أعوانها زاداً للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق، وقال لها ولأعوانها: من غض طرفه عنك، ولم يشتغل بك عني، وابتغى منك زاداً يوصله إليّ فاخدميه وزوديه، ولا تعوقيه عن سفره إلي.
ومن مد إليك عينه، ورضي بك، وآثرك عليّ، فسوميه سوء العذاب، وأوليه غاية الهوان، واستخدميه واجعليه يركض خلفك ركض الوحش.
ومن يأكل منك فاخدعيه به قليلاً ثم استرديه منه، واسلبيه إياه كله، وسلطي عليه أتباعك وخدمك، وكلما بالغ في محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بضد ذلك
حتى تتقطع نفسه عليك حسرات.
وإنما الدنيا كحوض كبير مُليء ماء، وجُعل مورداً للأنام والأنعام، فجعل الحوض ينقص على كثرة الوارد، حتى لم يبق منه إلا كدر في أسفله، قد بالت فيه الدواب، وخاضته الناس والأنعام، فما أسرع زوالها، ألا وإن الدنيا قد آذنَتْ ِبصَرْم، وَوَلّتْ حَذّاء، ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء.
وإذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي الإنسان مريضه من الطعام والشراب، ومن أهان الدنيا كرمت عليه الآخرة، ومن أكرم الدنيا وأهلها هانت عليه الآخرة وأعمالها.
وحب الدنيا أصل كل خطيئة، والنساء حبائل الشيطان، والخمر جماع كل شر، والمال فيه داء كثير، إن سلم صاحبه من الفخر والخيلاء والطغيان، لم يسلم من أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله عز وجل وأداء حقوقه.
وكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا، فجميع الأمم المكذبة للرسل والأنبياء .. إنما حملهم على كفرهم، وتسبب في هلاكهم حب الدنيا.
فإن الرسل لما دعوهم إلى الإيمان، ونهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم.
وحب الدنيا يوقع العبد في الشبهات .. ثم في المكروهات .. ثم في المحرمات .. وطالما أوقع في الكفر والهلاك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبْشِرُوا وَأمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ لا الْفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أخَشَى عَلَيْكُمْ أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ» متفق عليه (1).
وخطيئة آدم صلى الله عليه وسلم إنما كان سببها حب الخلود في الدنيا، وذنب إبليس سببه الكبر وحب الرئاسة التي محبتها شر من محبة الدنيا وشهواتها، وبسببها كفر فرعون
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3158) واللفظ له، ومسلم برقم (2961).
وهامان وجنودهما، وأبو جهل وقومه، واليهود وغيرهم.
والزهد في الدنيا والرئاسة هو الذي عمر الجنة بأهلها.
وحب الدنيا والرئاسة هو الذي عمر النار بأهلها.
فالدنيا خمر الشيطان، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير.
وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة اللحد.
وأقل ما في حب الدنيا أنه يلهي عن ذكر الله وطاعته، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله فهو من الخاسرين، وإذا لهى القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان، فأزعجه إلى كل معصية، وصرفه حيث أراد.
والزهد في الدنيا ليس بتحريم الحلال ولا إضاعته، ولكن الزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليدين منها.
والرغبة في الدنيا أصل المعاصي الظاهرة والمعاصي الباطنة.
فهي أصل معاصي القلب من الحسد والكبر، والفخر والخيلاء، والتسخط والتكاثر، فهذا كله من امتلاء القلب بحبها لا من كونها في اليد.
وامتلاء القلب بها ينافي الشكر لله، ورأس الشكر تفريغ القلب لله منها ومن غيرها.
فسبحان الغفور الشكور، يطاع فيشكر، وطاعته من توفيقه وفضله، ويُعصى فيحلم، ومعصية العبد من ظلمه وجهله، يتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له، حتى كأنه لم يكن قط من أهله.
السعادة كلها في طاعته، والأرباح كلها في معاملته، والمحن والبلايا كلها في معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفع من شكره، والتوبة إليه.
فله الحمد على ما أعطى وما منع، وله الحمد على كل حال:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34].
والدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، وفيها حظ له، وهي الأرض وما
عليها، فإن الأرض مسكن الآدمي، وما عليها مطعم ومشرب وملبس ومنكح ومركب، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله تبارك وتعالى، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح.
وقد وضع الله في الطباع تَوَقان النفس إلى ما يُصلحها.
فمن تناول منهما ما يصلحه على الوجه المأمور شرعاً يمدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنفه الشره وقع في الذم.
فليس للشره في تناول الدنيا وجه؛ لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل العبد عن طلب الأخرى، فيفوت المقصود.
ولا وجه كذلك للتقصير في تناول الحاجة؛ لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها.
فالطريق السليم هي الوسطى، وهي أن يؤخذ من الدنيا ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك وإن كان مشتهى، فإن إعطاء النفس ما تشتهي عون لها، وقضاء لحقها، فهذا مما ينشطها للخير فلا يمنعها منه.
وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون، ومن ركن إلى الدنيا وأحرقته بنارها، فصار رماداً تذروه الرياح، والعاقل يرى أن نقصان بدنه ودنياه، ولذته وجاهه ورئاسته، إن زاد في حصول ذلك، وتوفيره عليه في معاده، كان رحمة به وخيراً له، وإلا كان حرماناً وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة، أو ترك واجب ظاهر أو باطن.
فحرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة.
وإذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله سبحانه حوائجه كلها .. وحمل عنه كل ما أهمه .. وفرّغ قلبه لمحبته .. واستعمل لسانه لذكره .. واستخدم جوارحه لطاعته .. وعمر أوقاته بامتثال أوامره.
وإن أصبح وأمسى والدنيا همه .. حمّله الله همومها وغمومها .. ووكله إلى نفسه .. فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق .. ولسانه عن ذكره بذكرهم ..
وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وقضاء أشغالهم .. فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره.
والحياة الدنيا لعب ولهو حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج الله فيها، والذي يجعلها مزرعة للآخرة، فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعباً ولهواً، ويطبعها بطابع الجد، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة المتصلة بالملأ الأعلى كما قال سبحانه:{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)} [محمد: 36].
والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها الذي هو الليل والنهار، المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله جعلهما خِلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً كما قال سبحانه:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62].
وليس الذم راجعاً إلى مكان الدنيا، الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهاداً وسكناً ومعاشاً وفراشاً.
وليس الذم راجعاً إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار، والزروع والأشجار، والمعادن والبهائم، فهذه كلها خلقها الله لمنافع العباد.
وليس الذم راجعاً إلى ما في الدنيا من تغير الأحوال من حر وبرد، وصيف وشتاء، وليل ونهار، ونور وظلام.
فذلك كله نعمة من نعم الله على عباده، ينتفعون به، ويعتبرون به، ويستدلون به على وحدانية الله وقدرته.
وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة على غير منهج الله ورسوله من كفر وشرك، وبدع وضلال، وسرقة وظلم، وقتل وفساد ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا رسوله.
فالدنيا لها حالتان:
تارة تكون فتنة تلهي صاحبها عن الله والدار الآخرة فهي مذمومة.
وتارة تكون زاداً إلى الآخرة، وعوناً للإنسان للاستقامة على الدين، فهي بهذا نعمة محمودة، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.
والإنسان محتاج إلى الدنيا فهي مطية الآخرة، ومحتاج إلى الدين لتكون حياته طيبة، وكما يحتاج الإنسان إلى ركوب السفينة حينما يدخل البحر، فيركب مدة يسيرة لينجو من الأمواج ثم يصل إلى الساحل.
وهكذا المسلم يحتاج إلى الدين ما دام حياً، فيؤمن بالله، ويمتثل أوامره مدة يسيرة لينجو من الغرق في بحر الكفر والشهوات، والشبهات والكبائر، والمحرمات والمكروهات، ويستمر على ذلك حتى يصل إلى الآخرة بسلام.
فبقاء الإنسان في الحياة بسيط، كأنه راكب سفينة من الساحل إلى الساحل الآخر، كما قال سبحانه:{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)} [الأعراف: 24].
والله حكيم عليم خلق الدنيا .. وزيَّنها .. وأسكننا فيها .. وحذرنا منها، وخلق الآخرة .. وزينها بكل شيء .. ودعانا إليها .. ورغَّبنا فيها كما قال سبحانه:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} [النساء: 77].
فالدنيا وقتها قصير، وأمرها حقير، وكبيرها صغير، وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال.
وغاية ذي الرياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليم انتقاماً منه.
وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض لما آذى نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم، وجحد فضل مَنْ رزقه.
ولو أن الدنيا وما فيها ألقيت في مُلْك واحد من أهل الجنة لا تساوي حلقة ترمى في ميدان كبير، ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
ومن الحمق أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معاً، وإلى ثواب الدنيا
وثواب الآخرة معاً، ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه، ويعيش كالحيوانات والدواب والشياطين.
بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان، قدم يدب على الأرض، وروح ترفّ في السماء، وكيان يتحرك وفق أمر الله في هذه الأرض:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء: 134].
وقد نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يمد عينيه إلى ما متع به أهل الدنيا فيها؛ فتنة لهم واختباراً، وأخبره أن رزقه الذي أُعد له في الآخرة خير وأبقى من هذا الذي مُتعوا به فقال سبحانه:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}
…
[طه: 131].
وأخبر سبحانه أنه آتى رسوله صلى الله عليه وسلم السبع المثاني والقرآن العظيم، وذلك خير وأفضل مما متع به أهل الدنيا في دنياهم كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} [الحجر: 87 - 88].
وبناء الدنيا بالأموال والأشياء .. وبناء الآخرة بالإيمان والأعمال الصالحة .. ونعمت الدنيا التي تعين على طاعة الله .. ويعف بها الإنسان نفسه عن غيره .. ويواسي بها إخوانه المحتاجين.
وحب الدنيا رأس الخطايا ومفسد للدين من وجوه:
أحدها: أن الله لعنها وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض لغضبه ومقته ولعنته.
والثاني: أن حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقّر الله.
الثالث: أن العبد إذا أحب الدنيا صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال والطاقات التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة.
فهذا عَكَس الأمر، وقَلَب الحكمة، وتردى في السفول، وهذا الذي قال الله عنه:
…
[هود: 15 - 16].
والدنيا في الحقيقة لا تذم لذاتها، وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها، وهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار.
ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة، والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق.
وإلا فالدنيا مبنى الآخرة ومزرعتها .. ومنها زاد الجنة .. وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله .. ومحبة الله وذكره وابتغاء مرضاته.
وخير عيش يناله أهل الجنة في الجنة إنما كان بما زرعوه فيها .. وفيها مساجد أنبياء الله .. ومهبط وحيه .. وبيوت عبادته .. ومصلى ملائكته .. ومتجر أوليائه .. وفيها اكتسبوا رحمة الله .. وربحوا فيها العافية .. وفيها قرة العيون، وسرور القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح بذكر الله ومعرفته، وعبادته ومحبته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والأنس به، ولذة مناجاته، والإقبال عليه .. وفيها كلام الله ووحيه وهداه.
فالإيمان بالله، والطاعة لله ورسوله، وعبادة الله وحده لا شريك له، أفضل ما في هذه الدار، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله جل جلاله، وسماع كلامه، والفوز برضاه، أفضل ما في الآخرة.
ففي الدنيا أفضل الأسباب، وفي الآخرة أفضل الغايات.
فهذا أفضل ما في هذه الدار .. وهذا أفضل ما في الدار الآخرة.
وقد بين الله عز وجل أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وأن الباقيات الصالحات وهي الأقوال والأعمال الصالحة التي يبقى ثوابها .. ويدوم جزاؤها .. خير ما يؤمله العبد ويرجو ثوابه كما قال سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46].
وحذر الله عز وجل عباده أن تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، وأخبر أن من فعل ذلك فهو الخاسر حقيقة، لا من قَلَّ ماله وولده في الدنيا كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9].
فالأموال والأولاد وإن كانت نعمة من الله فهي فتنة كذلك، لا تقرب الخلق إلى الله، وإنما يقربهم إليه تقوى الله وطاعته كما قال سبحانه:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37].
ولما كانت تلك أحوال الدنيا الفانية .. وتلك أحوال الدار الآخرة الباقية، فقد حذر الله عباده من آفات هذه الدار الدنيا بقوله:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}
…
[يونس: 24].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم ر بنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا .. ولا مبلغ علمنا .. ولا إلى النار مصيرنا .. واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.