الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 - فقه الجزاء من جنس العمل
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)}
…
[البروج: 11].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6].
الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وشرعه كما قال سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء: 149].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ» متفق عليه (1).
وهذا هو العدل الذي تقوم به السموات والأرض، وبه تصلح الدنيا والآخرة، ويصلح به الدين والدنيا.
ولهذا أمر الله بقطع يد السارق، وشرع قطع يد المحارب ورجله، وشرع القصاص في الدماء والأموال والأبدان.
والجزاء مماثل للعمل من جنسه في الخير والشر:
فمن ستر مسلماً ستره الله .. ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة .. ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
ومن أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة.
ومن أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه.
ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته .. ومن ضار مسلماً ضار الله به .. ومن شاق شاق الله عليه .. ومن خذل مسلماً في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يحب نصرته فيه.
ومن أَنفق أُنفق عليه .. ومن أَوعى أُوعي عليه .. ومن يسر يسر الله عليه ..
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5997)، ومسلم برقم (2318).
ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه .. ومن تجاوز عن غيره تجاوز الله عنه .. ومن استقصى استقصى الله عليه.
ومن سمح سمح الله له .. ومن رحم خلق الله رحمه الله .. ومن عفا عنهم عفا الله عنه، ومن ظلمهم سلط الله عليه من يظلمه.
والراحمون يرحمهم الرحمن .. وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، والله سبحانه أتقن كل شيء صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، فهو عند مبدأ خلقه برئ من الآفات والعلل، تام المنفعة لما هيء وخُلق له، وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر تقتضي فساده، ولو تُرك على خلقته الأصلية لم يفسد.
ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتصت حدوثه.
ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض والأسقام والطواعين والقحط والجدب، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصانها ونحو ذلك من حصول الخوف والجوع وتسلط الأعداء كما قال سبحانه:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].
وكلما أحدث الناس ظلماً وفجوراً أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وهوائهم ومياههم، وأبدانهم وصورهم، وصفاتهم وأخلاقهم، من النقص والآفات، ما هو من موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
وأكثر هذه الأمراض والآفات بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة، ثم بقيت منها بقية أُرصدت لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم، حكماً قسطاً وقضاءً عدلاً.
وقد جعل الله عز وجل أعمال البر والفاجر مقتضية لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بدَّ منه:
فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لحصول القحط والجدب، ومنع نزول الغيث .. وجعل ظلم المساكين، والبخس في الموازين، وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذي لا يرحمون إذا استرحموا.
وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صورة ولاتهم، فإن الله سبحانه بحكمته يظهر للناس أعمالهم في صور تناسبها.
تارة بالقحط .. وتارة بالجدب .. وتارة بأمراض عامة .. وتارة بهموم وآلام .. وتارة بولاة جائرين .. وتارة بعدو .. وتارة بمنع بركات السماء والأرض .. وتارة بتسلط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزاً، لتحق عليهم كلمة الله، وليصير كل منهم إلى ما خلق له كما قال سبحانه:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
فكل صلاح في العالم سببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر وبلاء في العالم فسببه الكفر ومخالفة الله ومن رحمة الله سبحانه أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة ونحوها.
فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع.
فلم يشرع الله في الكذب قطع اللسان ولا القتل .. ولا في الزنا الخصا .. ولا في السرقة قتل النفس .. ولا في القذف إزهاق الروح.
وإنما شرع سبحانه ما هو موجب أسمائه وصفاته من رحمته وحكمته ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن العدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه خالقه ومالكه، فلا يطمع في استلاب حق غيره ظلماً وعدواناً.
ولهذه الجنايات مراتب مختلفة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر، والقلة والكثرة.
ومعلوم أن الضربة بالعود لا يصلح إلحاقها في العقوبة بالضربة بالسيف .. ولا
النظرة المحرمة بعقوبة مرتكب الفاحشة .. ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب .. ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الكثير ..
فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، ومعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً، لذهبت بهم الآراء كل مذهب، ولعظم الاختلاف، واشتد الخطب، لقصور علمهم، وضعف رؤيتهم، واختلاف مداركهم وعقولهم.
فكفاهم أرحم الراحمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال، فكانت عدلاً ورحمة.
ثم بلغ من سعة رحمته وجوده سبحانه أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها، وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه لا سيما مع التوبة منها.
فرحمهم الله سبحانه بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة في الدنيا والآخرة.
وجعل سبحانه هذه العقوبات دائرة على ستة أصول:
القتل .. والقطع .. والجلد .. والنفي .. وتغريم المال .. والتعزير.
فالقتل جعله الله عقوبة على أعظم الجنايات كالجناية على النفس، وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه، فهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة، إذ بقاء هذا الجاني بين أظهر العباد مفسد لهم، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة، فهو كالعضو الفاسد فناسب بتره وقطع دابره؛ صيانة للدين وأهله من شره.
وجعله كذلك عقوبة على الجناية على الفروج المحرمة كالزاني المحصن؛ لما في جنايته من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب.
وأما القطع فجعل عقوبة مثله عدلاً .. وعقوبة السارق الذي اقتطع مال غيره، فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ
أموالهم.
ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق، وعدوانه أعظم، ضم إلى قطع يده قطع رجله، ليكف عدوانه عن الناس، ورحمه بأن جعل القطع من خلاف فأبقى له يداً من شق، ورجلاً من شق.
وأما الجلد فجعله سبحانه عقوبة على الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغاً يوجب القتل ولا إبانة الطرف.
فسبحان الحكيم العليم بخلقه، جعل إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضرراً، وأشدها فساداً في العالم وهي:
الكفر الأصلي والطارئ .. والقتل .. والزنا من المحصن.
وإذا تأمل العاقل فساد الحياة رآها من هذه الجهات الثلاث وقد سأل عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال: «أنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ» قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «وَأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «أنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» متفق عليه (1).
فأنزل الله تصديق ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68].
ثم لما كانت سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع اليد، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد.
ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد هذه الجنايات كلها.
ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف .. والقلة والكثرة، وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة جعلت عقوباتها راجعة
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4477)، واللفظ له، ومسلم برقم (86).
إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بالتعزير بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم أنفسهم بمعاقبتهم بما يردعهم ويكف شرهم ويصلح أحوالهم وحال الأمة.
والحسنات والسيئات يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب، والجزاء من جنس العمل:
فمن عمل خيراً وحسنات لقي خيراً وحسنات، ومن عمل شراً وسيئات لقي شراً وسيئات.
وقصد الخير في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} [يونس: 9].
وقصد الشر في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق النار كما قال سبحانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)}
…
[الصافات: 22 - 23].
والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن رحم من في الأرض رحمه من في السماء، فالجزاء أبداً من جنس العمل، وكما تدين تدان.
ومن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار.
ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ
(1) أخرجه مسلم برقم (2699).
اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68].
ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها كما قال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13].
والله عز وجل على صراط مستقيم في قضائه وقدره، وفي أمره ونهيه، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بفضله ورحمته، ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحل.
فهو سبحانه على صراط مستقيم، ونصب لعباده من أمره صراطاً مستقيماً دعاهم جميعاً إليه، فإذا كان يوم لقائه نصب لخلقه صراطاً مستقيماً يوصلهم إلى الجنة، ثم صرف عنه من انصرف عنه في الدنيا، وأقام عليه من اتبع صراطه المستقيم في الدنيا.
وجعل نور المؤمنين به الذي كان في قلوبهم في الدنيا نوراً ظاهراً يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في ظلمة الحشر والموقف، وحفظ عليهم نورهم حتى قطعوه كما حفظ عليهم الإيمان به حتى لقوه.
وأطفأ نور المنافقين أحوج ما كانوا إليه كما أطفأه من قلوبهم في الدنيا: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الحديد: 12].
فمن لم يقبل نور الإيمان في الدنيا فلا حظَّ له في النور يوم القيامة، فهو أعمى وفي الظلمات فأنى يهتدي وينجو:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)} [الحديد: 13].
وأقام سبحانه أعمال العصاة على جنبتي الصراط كلاليب وحسكاً تخطفهم إلى النار كما خطفتهم في الدنيا عن الاستقامة على الصراط المستقيم.
وجعل سبحانه قوة سير الناس على الصراط على قدر قوة سيرهم في الدين وسرعتهم إليه في الدنيا.
ونصب للمؤمنين حوضاً يشربون منه بإزاء شربهم من شرعه في الدنيا، وحَرَمَ من الشرب منه هناك من حَرََمَ نفسه من الشرب من شرعه ودينه في الدنيا.
فالدنيا مزرعة الآخرة:
فمن هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه.
وعلى قدر سيره على هذا الصراط سيكون سيره على ذاك الصراط المنصوب على متن جهنم.
فمن الناس من يمر كالبرق .. ومنهم من يمر كالطرف.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجسر فقال: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» متفق عليه (1).
فلينظر العبد إلى الشبهات والشهوات والمظالم التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبتي الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46].
والله عليم خبير يجزي الإنسان بجنس عمله، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه، فإن قدح فيهم ونسب ما يقولون إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل ابتلي في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به.
ومن قال عنهم إنهم تعمدوا الكذب أظهر الله كذبه، ومن قال أنهم جهال أظهر
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439)، ومسلم برقم (183)، واللفظ له.
الله جهله بين خلقه وخذله.
ففرعون وهامان وقارون لما قالوا عن موسى صلى الله عليه وسلم إنه ساحر كذاب، أهلك الله فرعون، وأظهر كذبه وافتراءه على الله وعلى رسله، وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع فلم يبين حجة، وكذلك خسف الله بقارون وماله:{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40].
وفرعون هذه الأمة أبو جهل أهلك بجهله نفسه وأتباعه في الدنيا والآخرة، والذين قالوا عن رسول الله إنه أبتر عوقبوا بانبتارهم، فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره الله حتى أهل البدع المخالفون لسنته كما قال سبحانه:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 3].
ومن احتال على إباحة ما حرمه الله بالحيل عاقبه بنقيض قصده كما احتال أصحاب السبت فلعنهم الله ومسخهم قردة وخنازير جزاء احتيالهم على فعل ما حرمه الله عليهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} [البقرة: 65].
فهؤلاء احتالوا على وقوع الحيتان يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاءً وفاقاً.
وحياة القلب بالإيمان، فإذا أمد الله عبده بهذه الحياة أثمرت له محبة الله وإجلاله وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وحسن التوكل عليه، وحياة النفس وسعادتها بهذه الحياة.
ومتى فقدت هذه الحياة عاش الإنسان في الدنيا ليس بحي الحياة النافعة التي خلق من أجلها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتاً عديم الإحساس كان في الآخرة كذلك.
فحياة البدن بالطعام، وحياة القلب بالإيمان، وحياة الإنسان بدون الإيمان حياة
ضالة معذبة شقية، لم تسترح راحة الأموات، ولم تعش عيشة الأحياء السعداء وفي الآخرة كذلك كما قال سبحانه:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)} [الأعلى: 9 - 10].
ومن أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله، وعميت عنه بصيرته، أعمى الله بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء: 97].
والإنسان الطَّيِّب يتفجر الطِّيْب من قلبه على لسانه وجوارحه، والخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه، وقد يكون في الإنسان مادتان: طيْب وخبث، فأيهما غلب عليه كان من أهلها.
فإذا أراد الله به خيراً طهره من المادة الخبيثة قبل الموت، فيوافيه يوم القيامة مطهراً من الذنوب بما يوفقه له من التوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار.
ويمسك سبحانه عن الآخر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة، وحكمة الله تأبى أن يجاوره أحد في داره الطيبة بخبائثه، فيدخله النار طهرة له وتصفيه، فإذا خلص من الخبث صلح حينئذ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده.
وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها، وأكثر المسلمين لا بدَّ له من التطهير، فإن الجهل والغفلة والحرص يولد كثرة المعاصي والذنوب لا محالة.
ولهذا قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 71 - 72].
ولما كان المشرك خبيث العنصر، خبيث الذات، لم تطهر النار خبثه، بل لو خرج منها لعاد خبيثاً كما كان، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه، فلذلك حَرَّم الله على المشرك الجنة كما قال سبحانه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].
ولما كان المؤمن الطيب مبرءاً من الخبائث كانت النار حراماً عليه، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها، فيحفظه ويوصله إيمانه إلى الجنة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}
…
[الكهف: 107 - 108].
فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، رب العالمين، وأحكم الحاكمين.
والجزاء من جنس العمل كما قال صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ الله تَعَالَى: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (1).
ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ولا تزال المسألة بالرجل حتى يجيء يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، وإذا تقرب العبد إلى ربه بالنوافل التي يحبها الله أحبه الرب، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يمشي.
والله عز وجل وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير، وذلك لأن تعليم الناس الخير يخرجهم من الظلمات إلى النور، والجزاء من جنس العمل ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحق الناس بكمال هذه الصلاة:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405) واللفظ له، ومسلم برقم (2675).
فلما تسبب معلمو الخير للناس في دخولهم في جملة المؤمنين الذين يصلي الله عليهم وملائكته صلى الله عليهم وملائكته كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 43].
وكذلك العالم كلما علّم الناس من جهالتهم جزاه الله بأن علمه من جهالته، وأمر الكائنات أن تستغفر له؛ لأن لها جميعاً حظ من علمه.
ومن خزن العلم ولم ينشره ولم يعلمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه، ومن كتم الحق أو كذب فيه فقد حاد الله في شرعه ودينه، وسنة الله أن يمحق عليه بركة علمه ودينه ودنياه، كما أن المتبايعين إذا صدقا بوركا في بيعهما، وإن كتما وكذبا محق الله بركة بيعهما.
فالكتمان يعزل الحق عن سلطانه .. والكذب يقلبه عن وجهه.
والجزاء من جنس العمل فجزاء أحدهم أن يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يلبسه أهل الحق والصدق والبيان، ويلبسه ثوب الذل والهوان ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً، ومن أثنى على الرسول أثنى الله عليه وزاد تشريفه وتكريمه، ومن سأل الله له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة.
ومن آثر الله ومحابه على غيره آثره على غيره، وأعطاه ما يحب جزاء وفاقاً.
والإمام العادل أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظل يوم لا ظل إلا ظله، فكما كان الناس في ظل عدله في الدنيا كان في ظل الرحمن يوم القيامة، ظلاً بظل، جزاء وفاقاً .. وهكذا بقية السبعة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ،
وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه (1).
وإذا استقام الناس استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم.
فسبحان من جميع أقضيته وأقداره جارية على مقتضى الحكمة، بل على أتم وجوه الحكمة والصواب، ولكن العقول الضعيفة محجوبة عنها وعن إدراك أسرارها.
وإذا منع الناس الزكاة وحرموا المساكين حبس الله الغيث عنهم وابتلاهم بالقحط، فلما منعوا حق المساكين منع الله عنهم مادة القوت والرزق، وهو الماء.
والله منعم على جميع العباد، ولا يغير سبحانه نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَيَّر، غَيَّر الله عليه، جزاء وفاقاً:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} [الأنفال: 53].
فإن غَيَّر المعصية بالطاعة غَيَّر الله العقوبة بالعافية والسلامة، والذل بالعز، والتعب بالراحة:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11].
ومن غض بصره عن المحرمات عوضه الله إطلاق بصيرته في العلم والإيمان والمعرفة، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره، ولم يغضه عن محارم الله، فكما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته ولهذا وغيره قال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1423)، واللفظ له، ومسلم برقم (1031).
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 - 31].
وكلما أحسن الناس بأعمالهم أحسن الله إليهم برحمته كما قال سبحانه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
…
[الأعراف: 56].
وأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله، فمن أحسن عبادة ربه أحسن ربه إليه ورحمه كما قال سبحانه:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60].
والله عز وجل يعامل العبد في ذنوبه بمثل ما يعامل العبد الناس في ذنوبهم، فإذا عرف العبد ذلك كان في ابتلائه بالذنوب من الحكم والفوائد ما هو أنفع الأشياء له.
والمتقون لما فعلوا ما يحب الله، وتركوا ما يكره أعطاهم ما يحبون، ووقاهم مما يكرهون جزاء وفاقاً كما قال سبحانه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)} [الطور: 17 - 18].
جمع الله لهم بين النعيمين، نعيم القلب بالتفكه، ونعيم البدن بالأكل والشرب والنكاح، ووقاهم عذاب الجحيم، وعلى قدر ما يتقرب العبد إلى ربه يتقرب الله منه أكثر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يَقُولُ الله تَعَالَى: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (1).
وحقيقة هذا التقرب أن تفنى بمراد الله عن هواك، وبما منه عن حظك، فكما جاد المسلم لحبيبه بنفسه وروحه، وجميع قواه وإرادته، وأقواله وأعماله، فهو
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405) واللفظ له، ومسلم برقم (2675).
أهل أن يُجاد عليه، بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه عوضاً عن كل شيء جزاء وفاقاً.
والشهيد في سبيل الله لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته كما قال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}
…
[آل عمران: 169].
وإذا توكل العبد على الله حق توكله، ثم كادته السموات والأرض ومن فيهن جعل الله له مخرجاً من ذلك وكفاه ونصره:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2 - 3].
ومن بذل لله شيئاً عوضه الله خيراً منه، فمن جاء بالحسنة أعطاه الله عشراً، ومن صلى صلاة واحدة كتبها الله عشراً، ومن أنفق درهماً أخلفه الله عليه، وكتب له به عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
…
[البقرة: 245].
فلا يزال العبد رابحاً على ربه في كل طاعة بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، سعادة في الدنيا، وجنة ورضوان في الآخرة.
ومن كان مستوحشاً من الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد، ويعود عمله عليه بعينه، فيشقى به ظاهراً وباطناً.
ومن قرت عينه بالله في هذه الدار قرت عينه به يوم القيامة، وعند الموت، ويوم البعث، ويعود عليه عمله بعينه، فينعم به ظاهراً وباطناً:{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)}
[ص: 49 - 58].
وقابل الله ما أخفاه المتقون من قيام الليل بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وقابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون لصلاة الليل بقرة الأعين في الجنة كما قال سبحانه عنهم:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16 - 17].
وجعل سبحانه الجنة التي غرسها بيده لمن خلقه بيده ولأفضل ذريته، اعتناءً وتشريفاً، وإظهاراً لفضل ما خلقه بيده وشرفه.
ولما كان الكفار في الدنيا في سجن الكفر والشرك وضيقه، وكانوا كلما هموا بالخروج منه إلى فضاء الإيمان وسعته رجعوا على حوافرهم كانت عقوبتهم في الآخرة كذلك كما قال سبحانه عن الكفار:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 20].
فالكفر والمعاصي والفسوق كله غموم، كلما أراد الإنسان أن يخرج منه أبت عليه نفسه وشيطانه، فلا يزال في غمّ ذلك حتى يموت، فإن لم يخرج من غم ذلك في الدنيا بقي في غمه في البرزخ وفي القيامة.
فما حبس العبد عن الله في هذه الدار حبسه عنه بعد الموت، وكان معذباً به هناك كما كان قلبه معذباً به في الدنيا.
وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].
والله حليم غفور، فلولا حلمه عن الجناة، ومغفرته للعصاة، لما استقرت السموات والأرض، فحلمه ومغفرته يمنعان زوال السموات والأرض كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41].
وقد أخرج الله سبحانه آدم وزوجه من الجنة بذنب واحد ارتكباه، ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السموات بذنب واحد ارتكبه، ونحن معاشر الحمقى نصل الذنوب إلى الذنوب، ونتبع الصغائر بالكبائر غير مقدرين لعظمة الرب، وغير مبالين بأمره، ونرجو مع ذلك أعلى الدرجات في الآخرة:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}
…
[الأعراف: 23].
وكل عمل له جزاء، والعبد ميسر بأعماله لغاياتها كما قال سبحانه:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 4 - 10].
فهذا عمله الصالح ييسر لليسرى .. وهذا بعمله السييء ييسر للعسرى.
وأسباب التيسير لليسرى ثلاثة:
الأول: إعطاء العبد من نفسه الإيمان والطاعات، واعطاؤه الإحسان والنفع بماله ولسانه وبدنه ونيته، فتكون نفسه مطيعة باذلة لا لئيمة مانعة.
فالنفس المطيعة هي النافعة المحسنة التي طبعها الإحسان لنفسها ولغيرها، فهي ميسرة لذلك، وهكذا الإنسان المبارك ميسر للنفع حيث حل، فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى كما كانت نفسه ميسرة للعطاء ..
الثاني: التقوى، وهي اجتناب ما نهى الله عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، فالمتقي ميسرة عليه أمور دنياه وآخرته كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4].
وتارك التقوى وإن تيسرت عليه بعض أمور دنياه تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى، ولو اتقى الله لكان تيسرها عليه أتم، ولو قدر أنها لم تتيسر له فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله لغير التقوى من نعيم القلب ولذة الروح ما هو أجل من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات.
الثالث: التصديق بالحسنى، وهي التصديق بالإيمان وشعبه وجزائه وهو الجنة.
فهذا قد زكى نفسه، وأعدها لكل حالة يسرى، فصارت هذه النفس بذلك ميسرة
لكل يسرى، وأكمل الناس من كملت له هذه القوى الثلاث قوة الإعطاء .. وقوة الكف .. وقوة الفهم.
فهذا أهل أن ييسر لليسرى، فتصير خصال الخير ميسرة عليه، مذللة له، منقادة لا تستعصي عليه؛ لأنه مهيأ لها، ميسر لفعلها، يسلك سبلها ذللاً، يتلذذ بفعلها حتى يلقى ربه فيدخل الجنة.
أما من بخل فعطل قوة الإرادة والإعطاء عن فعل ما أمر الله به .. واستغنى بترك التقوى عن ربه، فعطل قوة الكف عن فعل ما نهى الله عنه .. وكذب بالحسنى، فعطل قوة العلم والإدراك عن التصديق بالإيمان وجزائه ..
فهذا جزاؤه أن ييسر للعسرى، ويحال بين قلبه وبين الإيمان، فيعمل بأعمال أهل النار، وتصير خصال الشر ميسرة عليه، يعمل بها حتى يلقى الله فيدخله النار.
والله سبحانه هو الذي يسر للعبد أسباب الخير والشر، وخلق خلقه قسمين: أهل سعادة، فَيَسَّرهم لليسرى .. وأهل شقاوة فيَسَّرهم للعسرى، واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها، لا يصلحون لسواها، وهؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها لا يصلحون لسواها.
وحكمته الباهرة تأبى أن يضع عقوبته في موضع لا تصلح له، كما يأبى أن يضع كرامته وثوابه في محل لا يصلح لهما ولا يليق بهما.
والعبد إذا أخلى قلبه من محبة الله، والإنابة إليه، وطلب مرضاته .. وأخلى لسانه من ذكره وحمده والثناء عليه .. وأخلى جوارحه من شكره وطاعته وعبادته .. ولم يرد من نفسه ذلك .. ونسي ربه .. نسيه الله كما نسيه .. وقطع عنه الإمداد الواصل إليه منه كما قطع العبد العبودية والشكر والتقوى التي تناله من عباده كما قال سبحانه:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} [الحج: 37].
وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19].
فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه، أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه، ومن أعرض عن الله وعن دينه خلى بينه وبين نفسه التي ليس له منها إلا الظلم والجهل:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41].
فعدم إرادته تطهيرهم، وتخليته بينهم وبين نفوسهم أوجب لهم من الشر ما أوجبه.
فالذي إلى الرب وبيديه ومنه الخير .. والشر كان مصدره منهم .. وإليهم كان منتهاه .. فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة .. وبعقوبته لهم به تارة.
فمن أحسن أحسن الله إليه بما يسره في الدنيا والآخرة ..
ومن أساء عوقب بما يسوؤه في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].