الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - فقه النعيم والعذاب
قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 - 14].
وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} [الرعد: 35].
الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وهو الحكيم العليم.
يعز ويذل .. ويكرم ويهين .. ويرضى ويغضب .. ويعطي ويمنع .. ويحب ويكره .. ويرفع ويخفض .. ويرحم وينتقم: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29].
اقتضت حكمته سبحانه أن خلق داراً لطالبي رضاه، العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابه، المطيعين لرسله، وهي الجنة دار النعيم.
وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب، ومشتهي ولذيذ، وجعل الخير كله بحذافيره فيها، وجعلها محل كل طيب من الذوات والصفات،
والأقوال والأعمال، كما قال سبحانه:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25].
وخلق سبحانه داراً أخرى لطالبي أسباب سخطه، العاملين بمعصيته، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، المخالفين لأوامره، القائمين بما يكره من الأقوال والأعمال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله، وهي جهنم دار العذاب.
وأودعها كل شيء مكروه، وسجنها مليء بكل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر كله بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات، والأقوال والأعمال.
فهاتان الداران هما دار القرار.
وخلق سبحانه داراً ثالثة، هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا دار العمل.
ثم أخرج سبحانه إليها من أثمار تلك الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما، وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالغيب وجه شهادة تستأنس به النفوس، وتستدل به.
فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات، والملابس الفاخرة، والصور الجميلة، وسائر ملاذ النفس ومشتهياتها، ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال والدوام.
فإذا رآه المؤمنون في الدنيا، ذكرهم بما هناك من الخير والسرور، والعيش الرضي في الآخرة، فشمروا إليه وقالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمماً، وجداً وتشميراً؛ لأن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه.
فوجود تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهي زاد وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار.
فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى دار النعيم والخلود، فالنفس ذواقة تواقة، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه، حتى تتوق وتصل إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم.
وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفَسَين الشتاء والصيف، اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما كما قال صلى الله عليه وسلم: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا،
فَقالتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» متفق عليه (1).
فاقتضى ذلك النفسان آثاراً ظهرت في هذه الدار كانت دليلاً عليها وعبرة، تذكرة تذكر بنار جهنم، ومنفعة للعباد كما قال سبحانه:{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} [الواقعة: 71 - 73].
فالله سبحانه وتعالى أشهد خلقه في هذه الدار ما أعده لأوليائه وما أعده لأعدائه في دار القرار.
وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما في الآخرة من خير وشر ونعيم وعذاب.
وجعل هذه العقوبات والآلام المحن والبلايا سياطاً يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذروا كل الحذر، واستدلوا بها على ما في نار جهنم من المكروهات والعقوبات.
وكان وجودها في هذه الدار وإشهادهم إياها، وامتحانهم باليسير منها، رحمة منه بهم، واحساناً إليهم، وتذكرة وتنبيهاً لهم.
ولما كانت هذه الدار ممزوجاً خيرها بشرها، ونعيمها بعذابها، وراحتها بعذابها، اقتضت رحمة أرحم الراحمين، وحكمة أحكم الحاكمين أن خَلَّص خيرها من شرها، ونعيمها من عذابها، وخصه بدار أخرى، هي دار الخيرات المحضة، ودار النعيم والسرور المحض، وهي الجنة دار السلام.
فكتب سبحانه على دار الدنيا حكم الامتزاج والاختلاط، وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، حكمة بالغة بهرت العقول: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3260) واللفظ له، ومسلم برقم (617).
بَصِيرًا (20)} [الفرقان: 20].
فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه الله ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه.
بل العبد الواحد جمع فيه سبحانه بين أسباب الخير والشر، وسلط بعضه على بعض، ليستخرج منه ما يحبه ويرضاه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك.
فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبه سبحانه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بخلق دارين ومحلين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها.
وخلق سبحانه المؤمنين المتقين المخلِّطين لرحمته .. وخلق أعداءه المشركين والكافرين لنقمته .. وخلق المخلِّطين للأمرين.
فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة، وخلق قسماً آخر لا يستحقون ثواباً ولا عقاباً.
ورتب سبحانه على كل قسم من هذه الأقسام حكمه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار من خلقه من يصلح للاختبار والابتلاء، وأنه يضع ثوابه موضعه، ويضع عقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحل المقتضي لذلك.
ولا يظلم سبحانه أحداً، ولا يبخسه شيئاً من حقه، ولا يعاقبه بغير جنايته.
بل يجازي على الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، ويعاقب على السيئة بمثلها ويعفو عن كثير.
هذا مع ما في هذا الابتلاء والامتحان من الحكم النافعة للعبيد أنفسهم من استخراج شكرهم وصبرهم .. وتوكلهم وجهادهم .. وخوفهم ورجائهم .. واستخراج كمالاتهم الكامنة في أنفسهم من القوة إلى الفعل.
ودفع سبحانه الأسباب بعضها ببعض .. وكسر كل شيء بمقابله لتظهر عليه آثار القهر .. وسمات الضعف والعجز .. ويتيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحداً
وأنه يستحيل أن يكون له شريك في أسمائه وصفاته وفي خلقه وأمره.
وأن الملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، وأن ما سواه مربوب مقهور له ضد ومناف ومشارك، والله حكيم عليم.
فخلق سبحانه الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها.
وخلق الماء وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره.
وخلق النار وسلط عليها الماء يكسرها ويطفئها.
وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته.
وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها.
وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته.
وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة، يشردونهم كل مشرد، ويطردونهم كل مطرد، ونجوم السماء والشهب التي ترجمهم عند استراق السمع.
وخلق سبحانه الحر والبرد، والشتاء والصيف، والليل والنهار، والرطب واليابس، وسلط كل واحد منهما على الآخر يذهبه ويقهره.
وخلق سبحانه النبات والحيوان والطير، في البر والبحر، وسلط بعضها على بعض، فلكل واحد منها مضاد ومغالب وقاهر.
فسبحان الحكيم الخبير الذي خلق كل شيء، المالك لكل شيء، القاهر لكل شيء:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} [الأنعام: 73].
فاستبان للعقول والفطر أن الحكيم العليم سبحانه هو القاهر الغالب وحده لجميع المخلوقات، فهو خالقها ومالكها ومصرفها، وكلها تحت قهره وأمره.
ومن تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه، وربط بعضه ببعض، وابتلاء بعضه ببعض، وامتزاج بعضه ببعض، وقهر بعضه ببعض، وإحواج بعضه إلى بعض، وامتزاج خيره بشره، وجعل شره لخيره الفداء، ولهذا يدفع إلى كل مؤمن يوم
القيامة كافر، ويقال له هذا فداؤك من النار، ويرث مكانه في الجنة.
وهكذا المؤمن في الدنيا يسلط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله يوم القيامة، أو يكون فداءً له من شرور أكثر منها في هذا العالم أيضاً.
فسبحان الحكيم العليم، اللطيف الخبير:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].
والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الملائكة والإنس والجن والشياطين، وجعل لكل منهم أعمالاً وأوامر، وهم يوم القيامة أربعة أصناف:
خلق كلهم في الجنة وهم الملائكة .. وخلق كلهم في النار وهم إبليس وذريته من الشياطين .. وخلق بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار وهم الجن والإنس.
فهؤلاء الإنس والجن هم الذين أرسل الله إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأمرهم بعبادته وطاعته.
فمن قيد حريته منهم في الدنيا بمنهج الله، أطلق الله حريته في الآخرة، فيستدعي في الجنة من النعمة ما شاء، في أي وقت شاء، بأي قدر شاء .. ومن أطلق حريته في الدنيا بما شاء، وأعرض عن منهج الله، قيد الله حريته في الآخرة، ونال في سجن جهنم ألوان العذاب جزاءً وفاقاً.
والإنس والجن من مات منهم على الكفر، فهذا مخلد في النار.
والمؤمن المحسن منهم إذا مات على ذلك، فهذا في الجنة.
والمؤمن المذنب إذا مات تائباً، فهذا في الجنة كذلك.
أما المؤمن المذنب الذي مات قبل توبته:
فآيات الوعد في القرآن والسنة لفظها العموم، والمراد بها الخصوص، فهي في المؤمن المحسن، وفي التائب من الذنب، وفيمن سبق في علم الله العفو عنه.
وآيات الوعيد لفظها العموم، والمراد بها الخصوص، فهي في الكفار
والمشركين والمنافقين، وفيمن سبق في علم الله أنه يعذبه من العصاة. كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].
وينشأ للعبد من أعماله الصالحة كل ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه من سائر المشتهيات، ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن واللذة والموافقة بحسب كمال عمل العبد وإخلاصه فيه، وتنوعه ومتابعته فيه للرسول صلى الله عليه وسلم، وبلوغه مرتبة الإحسان فيه.
وينشأ له كذلك من أعماله السيئة كل ما تكرهه نفسه، وتستقبحه عينه من سائر المكروهات والمؤلمات، ويكون تنوع تلك الآلام وشدتها، وبلوغها مرتبة القبح والشدة بحسب أعمال العبد السيئة، وصده عن سبيل الله، وبحسب تنوع أعماله السيئة وخبثه وكبره وإعراضه.
فمن تنوعت أعماله المرضية لله المحبوبة له في هذه الدار، تنوعت الأقسام والمصائب التي يتألم بها في تلك الدار، وكثرت بحسب كثرة أعماله.
رأى النبي صلى الله عليه وسلم قنواً من حشف معلقاً في المسجد للصدقة فقال: «لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا» وَقَالَ: «إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه أبو داود والنسائي (1).
وقد جعل الله عز وجل لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثراً وجزاء، ولذة وألماً يخصه ولا يشبه أثر الآخر وجزاءه.
ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة، وآلام أهل النار، وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات.
فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم، وأخذ منها بنصيب كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
(1) حسن: أخرجه أبو داود برقم (1608)، صحيح سنن أبي داود رقم (1419).
وأخرجه النسائي برقم (2493)، صحيح سنن النسائي رقم (2337).
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} [آل عمران: 172].
وليس ألم من ضرب في كل مسخوط لله بسهم وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد في مساخطه سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88].
والحياة الطيبة تحصل للعبد بالإيمان والأعمال الصالحة من عبادة، ودعوة إلى الله، وتعليم للدين، وحسن خلق، وامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه كما قال سبحانه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
والحياة الطيبة ليست في الدنيا فقط، بل هذه الحياة الطيبة تزداد طيباً وحسناً كلما انتقل من مرحلة إلى أخرى.
فيسعد المؤمن بذلك في الدنيا .. ثم تزداد سعادته عند سكرات الموت، حين تنزل عليه الملائكة تؤنسه وتبشره بالجنة .. ثم تزداد سعادته في القبر حيث يجعله الله روضة من رياض الجنة .. ثم تزداد سعادته في الحشر، حيث يزداد طيباً وحسناً وطمأنينة .. ثم تبلغ سعادته كمالها حين يدخل الجنة، ويفوز برؤية مولاه ورضاه.
وهكذا الإنسان يفسد حياته بنفسه، فكلما أساء في عمله ساءت أحواله، وجاءت عليه المحن والمصائب .. ثم زادت عليه عند الموت.
ثم تزداد في القبر .. ثم تزداد عند الحشر .. ثم تزداد وتبلغ كمالها حين يدخل نار جهنم، ويبوء بسخط الله وغضبه ولعنته.
والحياة الطيبة لا تكون بالأموال والأشياء، ولو كانت تحصل بالأموال لكان قارون أسعد الناس، لكن الله خسف به وبداره الأرض؛ لأنه لم يكسبها ولم يصرفها حسب الإيمان فأهلكه الله وإياها:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)} [القصص: 81].
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالزراعة لكان قوم سبأ أول من تصلح وتطيب
حياتهم، لكنهم لما أعرضوا عن دين الله دمر الله مزارعهم بسيل العرم، ومزقهم كل ممزق كما قال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} [سبأ: 15 - 17].
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالقوة والصحة لكان قوم عاد أول من تطيب حياتهم، لكنهم لما أعرضوا عن الدين لم تنفعهم قوتهم، وعاقبهم الله بأهون شيء عليهم وهي الريح:{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات: 41 - 42].
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالتجارة لكان قوم شعيب أسعد الناس، لكنهم لما أعرضوا عن الدين أهلكهم الله بعذاب الرجفة والصيحة كما قال سبحانه:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)} [هود: 94].
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالملك لكان نمرود وفرعون أسعد الناس، لكنهم لما أعرضوا عن الدين أهلكهم الله وأذلهم بين خلقه كما قال سبحانه عن فرعون:{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)}
…
[الذاريات: 38 - 40].
ولو كانت كثرة النسل وطول الأعمار تحصل بها السعادة والحياة الطيبة، لكان قوم نوح أسعد الناس، لكنهم لما أعرضوا عن الدين أغرقهم الله كما قال سبحانه:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37].
ولو كانت الحياة الطيبة تحصل بالبناء والتعمير، وزراعة السهول، وبناء القصور لكانت ثمود أسعد الناس، ولكنهم لما أعرضوا عن الدين أهلكهم ودمرهم كما قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ
خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)} [هود: 66 - 68].
فلا سعادة ولا فلاح ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان والأعمال الصالحة: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}
…
[طه: 74 - 76].
وثواب الله عز وجل على الطاعات، وجزاؤه على السيئات، حاصل لكل عبد، وذلك في الدنيا والآخرة.
فثواب الله العاجل للعبد على الطاعات:
الأنس بالله .. ومحبته .. والتلذذ بمعرفته وطاعته وعبادته .. والرضا بقضائه .. والطمأنينة بذكره .. وبسط الرزق .. والكفاية والهداية .. وغير ذلك مما عجله الله سبحانه من ثواب الطاعات في الدنيا.
أما ثواب الطاعات الآجل فأنواع:
أحدها: النعيم المادي كالمطاعم والمشارب، والحور والقصور والولدان المخلدون للخدمة ونحو ذلك.
الثاني: النعيم الروحاني كالتعزز بجوار الله وقربه، وسماع كلامه وسلامه، وتبشيره بالرحمة والرضوان.
الثالث: رضا الرحمن، ورؤية رب العالمين، وهما أعلى نعيم الجنان كما قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
…
[التوبة: 72].
وأما عقوبة الله العاجلة على المعاصي فهي:
الوحشة من الله .. والإعراض عنه .. والاشتغال بما يبعده عنه .. ومحبة ما
يسخطه وما يبغضه من الأقوال والأعمال .. وعدم الرضا بقضائه .. وضيق المعيشة .. والضلالة .. ونسيان ذكره .. والقعود عن طاعته .. وبعد الملائكة عنه .. واقتران الشياطين به .. والدعوة إلى كل شر ..
وأما عقوبة الله الآجلة على المعاصي يوم القيامة فأنواع:
أحدها: العذاب الجسدي في نار جهنم بألوان العذاب من الإحراق بالنار، وأكل الزقوم، وشرب الماء الحميم، وضرب المقامع، وقيد السلاسل وغير ذلك من ألوان العذاب.
الثاني: العذاب الروحاني بالطرد والإهانة، واللعن والإعراض عنه.
الثالث: غضب الله عليه، ومنعه من رؤيته، وهما أشد أنواع العذاب كما قال سبحانه، عن الكفار:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} [المطففين: 15 - 16].
وما أحسن محسن من مسلم وكافر إلا أثابه الله في الدنيا والآخرة.
أما المسلم فله السعادة في الدنيا، وله الجنة في الآخرة.
وأما الكافر فإن كان قد وصل رحماً، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة، أثابه الله تعالى في الدنيا المال والولد والصحة ونحو ذلك حتى يلقى الله وليس له حسنة واحدة؛ لأن ما فعله من خير جوزي به في الدنيا.
وأما إثابة الكافر في الآخرة فعذاب دون عذاب، فعذاب من كفر ولم يؤذ المسلمين ليس كعذاب من كفر وصد عن سبيل الله كما قال سبحانه:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} [النحل: 88].
وقد أرسل الله عز وجل الرسل لهداية الناس، فمن آمن بهم وأطاعهم سعد في الدنيا والآخرة، ومن عصاهم شقى في الدنيا والآخرة.
وقد عرض الله عز وجل في كتابه صوراً من صور العذاب الذي وقع بالأمم السابقة الذين كذبوا رسله، فنصر سبحانه أولياءه، وأهلك أعداءه: فمنهم من
أهلكهم الله بالماء كقوم نوح وفرعون وقومه .. ومنهم من أهلكه الله بالريح الصرصر العاتية كقوم عاد .. ومنهم من أهلكه الله بالصيحة كقوم ثمود .. ومنهم من أهلكه الله بالنار التي أمطرتهم كقوم مدين .. ومنهم من أهلكه الله بالحجارة المصنوعة في جهنم وقلب ديارهم عليهم كقوم لوط .. ومنهم من خسف الله به وبداره الأرض كقارون .. ومنهم من قتله الله بأضعف خلقه البعوض كنمرود: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40].
وقد جعل الله الجزاء على الأعمال في الآخرة لا في الدنيا؛ لأن العبد لو جوزي في الدنيا، وأعطى الله النعم والعافية لأهل الإيمان .. وأعطى الفقر والأمراض والمصائب والعذاب للكفار وأهل السيئات في الدنيا؛ لاهتدى الناس جميعاً بالطبع، وآمنوا جبراً وكرهاً.
وهذا الإيمان والاهتداء لا يقبل عند الله، فالإيمان الجبري ليس مقصوداً عند الله كما قال سبحانه:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48].
فالذين آمنوا بالله وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح لهم جنات النعيم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} [لقمان: 8 - 9].
ألا ما أعظم فضل الرب على عباده، لقد أوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه، وهو الغني عن الجميع كما قال سبحانه:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
والنعيم الكامل بلا منغصات يكون للمؤمنين يوم القيامة، وهو غاية من غايات الخلق والإعادة، إنه قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية.
والبشرية لا يمكن أن تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض، وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة إلا لذة الإيمان بالله الخالصة، وهذه قلما تخلص لبشر.
ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها، لكان هذا وحده ناقصاً منها، وحائلاً دون كمالها.
فالبشرية لا يمكن أن تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها، وهي التخلص من النقص والضعف، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت، ولا قلق من الانتهاء.
بل هذا كله تبلغه في الجنة، وما فيها من النعيم الواسع الشامل الكامل، وهناك يبلغ المهتدون من البشرية الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة التي شرعها الله لعباده، هناك يبلغون في الجنة إلى أعلى مراتب البشرية:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
أما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، فهؤلاء لم يسيروا في طريق الكمال البشري، بل جانبوه وأعرضوا عنه.
وهذا يقتضي حسب السنة الإلهية التي لا تتخلف ألا يصلوا إلى مرتبة الكمال؛ لأنهم جانبوا طريق الكمال، فلم يبق إلا أن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه وإعراضه عن أوامر وتعليمات الصحة الجسدية، هذا يلقاه مرضاً وضعفاً، وأولئك يلقونه تردياً وانتكاساً، وغصصاً بلا لذائذ في نار جهنم.
فإعادة الخلق ليبلغوا هناك كمال النعيم لمن أطاع ربه، وكمال العذاب لمن عصى ربه:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)} [يونس: 4].
والذين يرون هذا الكون وما فيه من المخلوقات والأوامر وتقلب الأحوال، ثم
لا يتوقعون لقاء الله، ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة، وأن الدنيا ليست النهاية؛ لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود، والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين، لا تحرك فيهم قلباً يتدبر، ولا عقلاً يتفكر، هؤلاء لم يسلكوا طريق الكمال البشري، ولم يصلوا إلى الجنة التي وعد بها المتقون.
فهذا النظام الكوني البديع، وهذا التصريف والتغيير، وهذا الخلق المتجدد، وهذه الأوامر التي تعقبها الحياة والموت، والسكون والحركة، هذا كله يوحي بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً، وهؤلاء لا يدركونه، ولا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام وهذه السنن، يتم فيها تحقيق القسط والعدل، كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا من كمال ونعيم وخلود.
ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله، ونتيجة لهذا يقفون عند الحياة الدنيا بما فيها من نقص وهبوط، ويرضونها ويستغرقون فيها، فلا ينكرون فيها نقصاً، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر، فهؤلاء جزاؤهم النار كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7 - 8].
أما المؤمنون فيدركون أن هناك آخرة، وأن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا، وهي الجنة الأبدية التي أعدها الله لهم كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} [يونس: 9].
وثواب الإيمان والطاعات الجنة .. وعقوبة الكفر والمعاصي النار.
والله عز وجل لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15].
وعذاب الله يستحقه المسيء بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادة العلم بها وبموجبها.
الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها.
فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد.
فأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله عنه التعذيب حتى تقوم الحجة بالعلم به.
وقيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة دون أخرى.
كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً.
وأفعال الله عز وجل تابعة لحكمته فهو الفعال لما يريد، لا يُسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته وعلمه، ووضعه الأشياء مواضعها.
ليس في أفعاله سبحانه خلل ولا عبث ولا فساد يُسأل عنه كما يُسأل المخلوق، فهو الفعال لما يريد، ولكنه لا يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة كما قال سبحانه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].
والمؤمنون الأبرار تكون قلوبهم في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيم البتة، بل إن التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة، وهذا أمر لا يصدق به إلا من باشر قلبه وذاق حلاوته كما قال سبحانه:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 - 14].
فالنعيم والجحيم ليس في الآخرة فقط، بل في الدور الثلاث:
دار الدنيا .. ودار البرزخ .. ودار القرار.
وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ .. وهل العذاب إلا عذاب القلب؟.
وأي عذاب أشد من إعراض العبد عن الله والدار الآخرة، وتعلقه بغير الله؟.
وكل شيء تعلق به الإنسان وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب، فكل
من أحب شيئاً غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار:
يعذب به قبل حصوله حتى يحصل .. فإذا حصل عذب به بالخوف من سلبه وفواته .. فإذا سلبه اشتد عذابه عليه.
فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار.
وأما في البرزخ فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجى عوده بحجاب عن الله .. وألم الحسرة التي تقطع الأكباد.
فالهمّ والغمّ والحزن والحسرة تعمل في نفوسهم كما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم، بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها، فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر في نار جهنم.
فقلوب أهل الكفر والبدع والمعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر، لكن تمام وكمال النعيم والعذاب إنما هو في الدار الآخرة، وفي البرزخ دون ذلك، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ.
…
[الرعد: 34].
وقال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)} [الطور: 45 - 47].
وقد جعل الله تبارك وتعالى للطاعات والحسنات آثاراً محبوبة لذيذة طيبة، ولذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة.
وجعل سبحانه للمعاصي والسيئات آلاماً وآثاراً مكروهة تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة.
وقد جرت سنة الله أن كل من خرج عن شيء منه لله، حفظه الله عليه، أو أعاضه الله ما هو أجل منه.
فمن آثر الألم العاجل على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرة التامة،
وإن هلك فالفوز العظيم، والله سبحانه لا يضيع ما تحمَّل عبده لأجله، فيوسف صلى الله عليه وسلم لما ترك امرأة العزيز لله، واختار السجن على الفاحشة، عوضه الله أن مكَّنه في الأرض.
والشهداء في سبيل الله لما خرجوا عن نفوسهم لله، جعلهم الله أحياء عنده يرزقون، وعوضهم عن أبدانهم التي بذلوها لله أبدان طير خضر، جعل أرواحهم فيها تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش.
ولما تركوا مساكنهم له عوضهم مساكن طيبة في جنات عدن.
والمعين على الطاعات هو الله وحده .. والحافظ من المعاصي هو الله وحده .. والموفق لكل خير هو الله وحده .. والحافظ من كل شر هو الله وحده لا شريك له.
فلا يركن العبد إلى نفسه وصبره، وحاله وعفته، وعلمه وذكائه، ومتى ركن إلى ذلك تخلت عنه عصمة الله، وأحاط به الخذلان، بل يتوكل على ربه وحده كما قال سبحانه:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21].
وقال سبحانه لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء: 74].