الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - آفة الكذب
قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)} [الزمر: 32].
وقال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)} [يونس: 17].
لا أظلم ولا أشد ظلماً ممن كَذَب على الله، إما بنسبته إلى ما لا يليق بجلاله، أو بادعاء النبوة، أو الإخبار بأن الله قال كذا، أو أخبر بكذا، أو حكم بكذا، وهو كاذب، أو جاءه الحق المؤيد بالبينات فكذبه، ومن كان جامعاً بين الكذب على الله، والتكذيب بالحق كان ظلماً على ظلم.
وليس هناك أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له بناتاً، أو له شركاء، أو قال إنه فقير، أو قال يد الله مغلولة، أو قال إن الله ثالث ثلاثة، أو قال إن الله هو المسيح بن مريم، أو كذب الرسل ونحو ذلك.
والكذب من أعظم آفات النفس، ويوم القيامة تكون وجوه المكذبين مسودة من الخزي، ومن الكمد، ومن لفح النار كما قال سبحانه:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} [الزمر: 60].
وليس هناك أعظم ظلماً وعناداً ممن كَذَب على الله أو كذب بآياته التي جاءت بها الرسل، فهذا أظلم الناس، والظالم لا يفلح أبداً كما قال سبحانه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}
…
[الأنعام: 21].
والكذب من قبائح الذنوب، وفواحش العيوب، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ
الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا» متفق عليه (1).
والكلام وسيلة إلى المقاصد:
فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، كما أن عصمة دم المسلم واجبة.
فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين إلا بكذب فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن.
لأنه إذا فَتَح باب الكذب على نفسه فيُخشى أن يَتَداعى إلى ما يُستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أوْ يَقُولُ خَيْرًا» متفق عليه (2).
والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي لا يقاومها شيء، ويدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» متفق عليه (3).
والكذب: هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، وهو من سيء الأخلاق، والكذب من صفات المنافقين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ، إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه (4).
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6094) ومسلم برقم (2607). واللفظ له.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2692) واللفظ له، ومسلم برقم (2605).
(3)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (110)، ومسلم برقم (3).
(4)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33)، ومسلم برقم (59).
والكذب ضربان:
كذب في الأقوال .. وكذب في الأفعال.
فكما يكون الصدق والكذب في الأقوال يكونان في الأفعال، فقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث، أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود، وذلك على سبيل المخادعة.
والكذب في الأقوال أكثر من الأفعال؛ لسهولته، والكذب كله شر، والكذب في الأقوال خطير، وربما كان الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال كما حكى الله من أقوال وأفعال إخوة يوسف حين ألقوه في الجب:{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} [يوسف: 16 - 18].
فجمعوا بين كذب القول .. وكذب الفعل.
ورخَّص الشرع في الكذب في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل مع امرأته، وحديث المرأة مع زوجها، وذلك على طريق التورية والتعريض دون التصريح به، كما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم ممن أنت؟ فقال:«من ماء» .
فورى عن الإخبار بنسبه بأمر محتمل.
وكما سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في طريق الهجرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: هاد يهديني السبيل، فظنوا أنه يعني هداية الطريق، وهو إنما يعني هداية سبيل الخير.
وأسباب الكذب ودواعيه كثيرة، ومنها:
جلب النفع، ودفع الضر، فيرى الكذاب أن الكذب أسلم وأغنم فيرخِّص فيه لنفسه؛ طمعاً في حصول ما يريد به.
ومنها أن يُؤْثِر أن يكون حديثه مستعذباً، وكلامه مستظرفاً، فلا يجد صدقاً يعذب، فيستحلي الكذب الذي يسهل اجتراره، وتطرب الآذان عند سماعه.
ومنها حب الترأس، وذلك أن الكاذب يرى له فضلاً على المخبر بما أعلمه، فهو يتشبه بالعالم الفاضل في ذلك.
ومنها أن يكون الكذب له عادة، ونفسه إليه منقادة، فهو يألف دواعي الكذب ويستملحه.
ومنها أن يقصد بالكذب التشفي من عدوه، فيسمه بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه.
وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها، يعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ثم يهلك.
والكذب داء لا يصلح منه جد ولا هزل، يمزق الأمم، ويقطع الأرحام، وتؤكل به الحقوق، وتنتهك الحرمات، ويهدي إلى الفجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» متفق عليه (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أنَبِّئُكُمْ بِأكْبَرِ الْكَبَائِرِ» .. ثَلاثًا، قالوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قال:«الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» -وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقال:«ألا وَقَوْلُ الزُّورِ» . قال: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. متفق عليه (2).
(1) متفق عليه، اخرجه البخاري برقم (6094)، ومسلم برقم (2607) واللفظ له.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2654)، واللفظ له، ومسلم برقم (87).