المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].

وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} [الزمر: 60].

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

ضرر الذنوب والمعاصي والآثام في القلوب كضرر السموم في الأبدان، وليس في الدنيا والآخرة من شر إلا وسببه الذنوب والمعاصي.

ومن آثار وأضرار الذنوب والمعاصي:

حرمان العلم .. وحرمان الرزق .. والوحشة بين العبد وربه، وبينه وبين الناس .. وظلمة يجدها العبد في قلبه .. وتعسر أموره عليه .. وحرمان الطاعة .. ووهن القلب والبدن.

والمعاصي تقصر العمر .. وتمحق بركته .. وتنقص العقل .. ويجر بعضها إلى بعض .. فيألفها العاصي ولا يستطيع مفارقتها .. ولا يستقبح فعلها أمام غيره.

والمعاصي سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وكما أن العز في طاعة الله .. فكذلك الذل في معصية الله.

والمعاصي مفسدة للعقول، تورث الطبع على القلوب، وتدخل العبد تحت لعنة الله ورسوله، وحرمانه من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة.

ومن آثار الذنوب والمعاصي كذلك:

أنها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في الإنسان والحيوان، وفي المياه والهواء، وفي الزروع والثمار وغيرها.

والمعاصي تذهب الغيرة من القلب، وتذهب الحياء الذي هو مادة حياة القلب،

ص: 2924

وتضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في القلب، وتستدعي نسيان الله لعبده، وتركه وخذلانه له، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه.

ومن عقوباتها أنها تسبب نسيان العبد لنفسه، وتخرجه من دائرة الإيمان والإحسان إلى ما دونها، وتمنعه ثواب المؤمنين.

فالإيمان سبب جالب لكل خير، وكل خير في الدنيا والآخرة فسببه الإيمان والطاعات، وكل شر في الدنيا والآخرة فسببه الكفر والمعاصي.

والطاعات تقوي سير القلب إلى الله والدار الآخرة، والمعاصي تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة أو تعوقه، أو توقفه.

فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته تدريجياً حتى ينقطع عن السير إلى الله.

فإن نجاسة المعاصي والفواحش في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدغل في الزرع، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة.

فكما أن بدن الإنسان إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة استراح فعمل بلا معوق ونما، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، وزكا ونما وقوي واشتد، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له الجوارح وأطاعت، ولا سبيل إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال سبحانه:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)} [النور: 30].

والله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً، يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا فيها، ثم في الآخرة يوفيه أجره بأعظم مما في الدنيا كما قال سبحانه:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)} [النحل: 30].

ص: 2925

وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].

وكذلك الكفار يعاقبون بسوء أعمالهم في الدنيا، ثم يصيرون في الآخرة إلى أشد العذاب كما قال سبحانه:{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34].

فما أجدر العاقل بطاعة ربه، واجتناب معصيته، ولو لم يعذب الله على معصيته لكان ينبغي أن لا يعصى؛ لعظمته وجلاله، وجزيل نعمه وإحسانه.

والله عز وجل لما خلق آدم صلى الله عليه وسلم، علم المطيع من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى بسعادة من علمه مطيعاً، وشقاوة من علمه عاصياً، وطار لكل واحد ما هو صائر إليه كما قال سبحانه:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)} [الإسراء: 13].

والطاعات سبب لنزول النعم، وحصول البركات، والمعاصي والذنوب تزيل النعم وتحل النقم، وتسبب الوحشة والرعب والخوف في قلب العصاة، وكلما كثرت الذنوب زادت الوحشة بينه وبين ربه، وبينه وبين خلقه، فالغفلة توجب الوحشة، وأشد منها وحشة المعصية، وأشد منها وحشة الشرك.

والطاعات غذاء للقلوب، والمعاصي تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه.

والذنوب تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد أبواب العلم، وتحجب موارد الهداية، وتذل النفس وتصغرها حتى تصير أصغر شيء وأحقره.

والطاعات تجعل مع العبد معية الله ونصره وحفظه، والذنوب تجعل العاصي في أسر شيطانه، وسجن شهواته، وقيد هواه:{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)} [النساء: 38].

وإذا قيد القلب طرقته الآفات بحسب قيوده، فلا يستطيع السير إلى الله والدار

ص: 2926

الآخرة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: 24].

وكلما بعد القلب عن الله كانت الآفات إليه أسرع، والبعد عن الله عز وجل مراتب متفاوتة، فالغفلة تبعد العبد عن الله .. وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة. وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية .. وبعد الشرك والنفاق أعظم من ذلك كله، والمعاصي تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف والعزة، وتكسوه أسماء الذل والذم والصغار، وشتان ما بين الأمرين:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 18 - 20].

فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن، والتقي والمطيع والورع، والطيب والصالح والعابد، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي، والمفسد والمسيء، والمجرم والخبيث، والكاذب والخائن، والسارق والزاني، والظالم والفاسق ونحو ذلك من أسماء الفسوق.

والطاعات صلة بين العبد وربه، والمعاصي توجب القطيعة بين العبد وربه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشر كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36،37].

والمعاصي والذنوب تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، بل تمحق بركة الدين والدنيا، وما محقت بركة الأرض إلا بمعاصي الخلق كما قال سبحانه:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].

ص: 2927

وإنما كانت معصية الله سبباً لمحق بركة الرزق والأجل وغيرها؛ لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها، وكل شيء اتصل به الشيطان فبركته ممحوقة، وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة.

فإن الله هو الذي يبارك وحده، والبركة كلها منه، وكل ما نُسب إليه مبارك من الكلام، والأنبياء، والأزمنة، والأمكنة، والأعمال، والعبيد كما قال سبحانه عن كتابه:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام: 155].

وقال رسوله عيسى صلى الله عليه وسلم: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)} [مريم: 31].

وقال عن بيته الحرام: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران: 96].

فـ: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78].

وضد البركة اللعنة، فأرض لعنها الله، أو أمة لعنها الله، أو شخص لعنه الله، أو عمل لعنه الله، هو أبعد شيء من الخير والبركة، وكل ما اتصل بذلك فلا بركة فيه البتة.

وقد لعن الله عدوه إبليس، وجعله أبعد خلقه منه، فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه، واتصاله به.

ولعن سبحانه الكافرين والظالمين، وكل من آذى الله ورسوله، ولعن الكاذبين والمفسدين، ولعن من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى كما قال سبحانه:

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 159،160].

وأهل طاعة الله هم الأعلون في الدنيا والآخرة، وهم أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه، وهم الأسفلون في الدنيا والآخرة.

والذنوب والمعاصي تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيئاً لأن يكون من

ص: 2928

العلية البررة.

وكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، ثم في أسفل سافلين كحال العصاة والكفار والمنافقين كما قال سبحانه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].

وكلما عمل العبد طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين، ثم في أعلى الأعلين:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69،70].

والنزول أمر لازم للإنسان كالصعود، فقد هيأه الله ليصعد بالطاعات إلى أعلى، أو ينزل بالمعاصي إلى أسفل.

فمن شاء أن يتقدم فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه من رضاه، ويزلفه إلى دار كرامته، أو يتأخر عما خلق له، وعما يحبه الله ويرضاه، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم، فكل ذلك ميسر وممكن:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [المدثر: 37].

والنزول درجات:

فهو يحصل للعبد بسبب الغفلة .. أو التوسع في المباحات .. أو إلى معصية صغيرة أو كبيرة .. فهذا علاجه الإقلاع والتوبة.

فإن كان النزول إلى أمر يقدح في أصل الإيمان كالشك والريب والنفاق، فهذا لا يرجى لصاحبه صعود إلا بتجديد إسلامه.

ومن عقوبات المعاصي والآثام:

أنها تجرئ على العبد من لم يكن يتجرأ عليه من أصناف المخلوقات.

فتجرئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة، والتخويف والتحزين والنسيان، وتؤزه إلى المعاصي أزاً.

ص: 2929

ويجترئ عليه شياطين الإنس بما يقدرون عليه من أذاه.

ويجترئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه، حتى الحيوان البهيم.

ويجترئ عليه أولياء الأمر بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه الحد.

وتجترئ عليه نفسه فتستأسد عليه، وتصعب عليه، فلا تنقاد له، فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له، وتسوقه إلى ما فيه هلاكه شاء أم أبى.

وذلك لأن الطاعة حصن الرب، فمن دخله كان آمناً، فإذا فارق الحصن اجترأ عليه قطاع الطريق وغيرهم، وبحسب اجترائه على معاصي الله تكون جرأتهم عليه، وانتقامهم منه.

والقلب يصدأ بالذنوب، ويصير مثخناً بالمرض، والنفس المطمئنة تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف، وربما ماتت، والمعاصي تخوف العبد أحوج ما يكون إلى نفسه.

فإذا وقع العبد في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله، والإنابة إليه، والتضرع والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكر ذكر بلسانه دون قلبه.

ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه، وأدهى من ذلك وأمر أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، فربما لم ينطق بالشهادة عند الموت، بل ربما نطق بضدها أحياناً.

والمعاصي تعمي القلب وتضعف بصيرته، فإذا عمي القلب وضعف فاته من معرفة الله، ومعرفة الهدى، وقدرته على تنفيذه في نفسه وفي غيره بحسب ضعف بصيرته وقوته، فينعكس إدراكه كما ينعكس سيره، فيدرك الباطل حقاً، والحق باطلاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ويفسد ويرى أنه يصلح، فينتكس في سيره، ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة إلى سفره إلى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت بها، وغفلت عن الله وآياته، فماذا أعد الله لهؤلاء من العذاب؟.

ص: 2930

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس: 7، 8].

ومن عقوبات الذنوب والمعاصي:

أن المعاصي مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه، وجيش يقويه به على حربه، وهو الشيطان الذي لا يفارق الإنسان طرفة عين، يراه الشيطان من حيث لا يراه.

والنفس أول مداخل الشيطان على القلب، فإذا منَّاها وحقق لها مرادها اطمأنت إليه، فخامرت القلب، وصارت مع الشيطان عليه.

وبذلك يملك الشيطان ثغور البلد وهي:

العين .. واللسان .. والأذن .. والفم .. واليد .. والرجل.

ويرابط على هذه الثغور كل المرابطة، ويدخل على القلب منها فيفسده، فيجعل نظر العين نظر تفرج ولهو لا نظر فكر واعتبار، وهذا أخطر شيء.

ويرابط على ثغر الأذن، فلا يدخل منه إلا الباطل، الذي هو خفيف على النفس تستحليه وتستملحه، ولا يسمح بدخول هذا الثغر من كلام الله ورسوله أو كلام النصحاء والوعاظ.

فإن غلب ودخل شيء من ذلك، حال بينه وبين فهمه وتدبره والعظة به، إما بإدخال ضده عليه، أو بتهويل ذلك وتعظيمه، وأنه حمل ثقيل عليها لا تستطيعه، وإما بإرخاصه على النفوس، وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس، والذي زبائنه أكثر.

وأما الحق فهو مهجور، وقائله معرِّض نفسه للعداوة والشبهة، يدخل الشيطان عليه الباطل بالقالب الذي يحبه ويقبله ويخف عليه، ويخرج له الحق في كل قالب يكرهه ويثقل عليه، وينفره منه.

ويجتهد الشيطان على ثغر اللسان، وهو الثغر الأعظم، فيجري عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، ويمنعه أن يتكلم بشيء مما ينفعه من ذكر الله واستغفاره، وتلاوة كتابه، والدعوة إليه، والنصح لعباده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 2931

ويرابط الشيطان على اللسان، ويزين له التكلم بالباطل بكل طريق، ويخوفه عن التكلم بالحق بكل طريق، فلا تراه إلا متكلماً بباطل، أو ساكتاً عن حق.

فالأول شيطان ناطق، والآخر شيطان أخرس، والشياطين وأتباعهم في جهنم كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} [آل عمران: 77].

ويجتهد الشيطان كذلك على ثغر اليدين والرجلين، فيمنع اليد أن تبطش بما يضر أعداء الله ورسوله، ويمنع الرجل أن تمشي للخير وجهاد أعداء الله ورسوله، والدعوة إليه.

يحرك الجوارح لكل معصية .. ويثبطها عن كل طاعة.

فما أعظم عداوة الشياطين لبني آدم، وما أشد غفلة بني آدم عنهم؟.

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62].

ومما يعين الشياطين على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة بالسوء، وإعانتها والاستعانة بها، والوقوف معها ضد النفس المطمئنة.

فإن النفس الأمارة إذا قويت وأطاعت الشياطين، أنزلوا القلب من حصنه، وأخرجوه من مملكته، وولوا مكانه النفس الأمارة بالسوء، التي تأمر بما تهوى الشياطين وتحبه، ولا تخالفهم البتة، بل تبادر إلى فعل كل ما يشيرون به من الفواحش والآثام.

والشياطين تغلب بني آدم بجندين:

الأول: جند الغفلة التي تغفل قلوب بني آدم عن الله والدار الآخرة.

الثاني: جند الشهوات التي يزينونها في قلوب بني آدم، ويحسنونها في أعينهم، ثم ينقلونهم منها إلى المحرمات، ثم إلى الكبائر، ثم الخروج من الدين.

ص: 2932

يستعينون تارة بالشهوات على الغفلة، وتارة بالغفلة على الشهوات، يصطادون بني آدم عند الشهوة، وعند الغضب، وعند الغفلة.

ويدعونهم إلى الشهوة من باب الغضب، وإلى الغضب من باب الشهوة، وأبلغ أسلحة الشياطين في بني آدم الغفلة واتباع الهوى، ولذلك حذرنا الله من ذلك بقوله:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28].

ومن عقوبات الذنوب:

أنها تنسي الإنسان نفسه، وإذا نسي العبد نفسه أهملها وتركها ففسدت، وإذا نسي العبد ربه نسيه، وأنساه نفسه.

ونسيان الرب للعبد إهماله وتخليه عنه، وإضاعته، وأما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها، وما تكمل به، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها.

وينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها، فلا يخطر بباله مداواتها، ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول به إلى الفساد والهلاك، وكفى بذلك عقوبة، وقد حذرنا الله من ذلك بقوله سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 18،19].

وكيف تكون حال الإنسان إذا نسيه ربه؟ ونسي هو ربه؟ ونسي نفسه؟ وأنساه الله نفسه؟.

وإنما يظهر أثر هذا عند الموت، ويزداد ظهوره في القبر، ويبلغ تمامه يوم التغابن.

فالذنوب والمعاصي تنسي العبد حظه من التجارة الرابحة، وتشغله بالتجارة الخاسرة، وتجمع حوله الأشرار، وتنفره من الأتقياء الأبرار.

والمعاصي تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، فلكل شيء سبب وآفة،

ص: 2933

فنعم الله ما حُفظ موجودها، ولا استُجلب مفقودها بمثل طاعة الله.

وجعل آفاتها المانعة منها المعاصي:

فإذا أراد الله سبحانه حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها كما قال سبحانه:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7].

ومن عقوبات المعاصي والذنوب:

أنها تباعد عن العبد وليه وأنفع الخلق له، وهو الملك الموكل به، وتدني منه عدوه وأغش الخلق له، وهو الشيطان.

فالعبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية، وقرب منه الشيطان، وإذا أطاع العبد ربه قرب منه الملك، وتباعد منه الشيطان.

ولا يزال الملك يقرب من العبد بالطاعة، فتتولاه الملائكة في حياته، وعند موته، وعند بعثته، وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق له، يبشره بالخير، ويعينه عليه، ويدفع عنه عدوه.

وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه بالقول السديد، وإذا اشتد قرب الشيطان من العبد تكلم على لسانه بالفحش والزور.

والمعاصي والذنوب والآثام تستجلب مواد هلاك العبد في الدنيا والآخرة، وتلك أمراض متى استحكمت ولم تعالج قتلت ولا بدّ.

وكما أن صحة البدن تكون بغذاء نافع يحفظ قوته، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة، والأخلاط الرديئة، وحمية يمتنع بها مما يؤذيه.

فكذلك القلب لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة، تحفظ قوته، واستفراغ بالتوبة النصوح تستخرج المواد الفاسدة، والأخلاط الرديئة منه، وحمية توجب له حفظ الصحة بترك النواهي والمحرمات.

فهذه بعض العقوبات القدرية على المعاصي.

ص: 2934

أما عقوبات المعاصي الشرعية:

فالله عز وجل شرع عقوبات شرعية على الجرائم كقطع اليد في السرقة، وقطع أيدي وأرجل قطاع الطريق، والجلد بالقذف وشرب الخمر، والقتل والجلد في الزنا، وغير ذلك من العقوبات التي شرعها الله ورتبها على الجرائم، وجعلها سبحانه على حسب الدواعي، وحسب الوازع عنها.

فالذنوب والمعاصي تترتب عليها العقوبات الشرعية، أو القدرية، أو هما معاً، وقد يرفعهما الله عمن تاب وأحسن.

وإذا أقيمت العقوبات الشرعية رفعت العقوبات القدرية، أو خففتها كما قال سبحانه:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: 98].

وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية، وربما كانت أشد من الشرعية، وربما كانت دونها، ولكنها تعم، والشرعية تخص كما قال سبحانه:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 78 - 80].

والعقوبات القدرية نوعان:

نوع على القلوب والنفوس .. ونوع على الأبدان والأموال.

وعقوبات القلوب أشد العقوبتين، وهي تسري من القلب إلى البدن، كما يسري ألم البدن إلى القلب.

والعقوبات على الأبدان نوعان:

نوع في الدنيا .. ونوع في الآخرة.

وشدتها وآلامها بحسب تلك المعصية، وليس في الدنيا والآخرة شراً أصلاً إلا

ص: 2935

الذنوب وعقوباتها.

ومن عقوبات الذنوب:

الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين وعلامة الخسف بالقلب: أنه لا يزال جوالاً حول السفليات، والقاذورات، والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالاً حول العلويات، والطاعات، والطيبات.

وأصول الخطايا كلها ثلاثة:

الأول: الكبر .. وهو الذي صير إبليس إلى ما صار إليه.

الثاني: الحرص .. وهو الذي أخرج آدم من الجنة.

الثالث: الحسد .. وهو الذي جر أحد ابني آدم على قتل أخيه، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض.

ومن وقي شر هذه الثلاثة فقد وقي الشر، فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والظلم من الحسد.

وقد دخل الناس النار من ثلاثة أبواب:

باب شبهة أورثت شكاً في دين الله.

وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على الهدى.

وباب غضب أورث العدوان على خلق الله.

فللسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة لا بد من طاعة الله ورسوله، وكلما ازداد المسلم من طاعة الله ورسوله ازداد خيره وكماله، وارتفعت درجته عند الله لزيادة إيمانه وأعماله كما قال سبحانه:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة: 158].

والله شكور يقبل اليسير من العمل، ويجازي عليه بالأجر العظيم.

فمن أطاعه أعانه على ذلك .. وأثنى عليه ومدحه .. وجازاه في قلبه نوراً وإيماناً وسعة .. وفي بدنه قوة ونشاطاً وعافية.

ص: 2936

وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء .. وفي أعماله زيادة توفيق.

ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملاً، لم تنقصه هذه الأمور.

ومع أنه سبحانه شاكر، فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل بحسب نيته وإيمانه وتقواه ممن ليس كذلك.

وبالطاعات تصلح أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة .. وبالمعاصي تفسد أحوال الإنسان في الدنيا والآخرة.

فالبهائم إذا أكلت الحشائش، والسباع إذا أكلت اللحوم، صح مزاجهما، وإذا علفت البهائم اللحم، وعلفت السباع الحشائش، فسد مزاجهما.

وكذلك الإنسان إذا باشر أعمالاً صالحة صلح مزاجه الملكي، وإذا باشر أعمالاً سيئة فسد مزاجه الملكي.

فلصلاح الإنسان يجب عليه الإيمان بالله، وطاعة الله ورسوله في كل حال، وفعل الأوامر، واجتناب النواهي.

والحيوان مجبول على أكل ما ينفعه، واجتناب ما يضره، أما الإنسان فقد أعطاه الله العقل، وأنزل عليه الكتب، وأرسل إليه الرسل، وبين له ما ينفعه وما يضره، وترك له حرية الاختيار امتحاناً وابتلاءً.

والطاعات كلها منافع، فالسموات والأرض، والشمس والقمر، والحيوان والنبات، كلها أطاعت فنفعت، وخرج منها من المنافع ما لا يعلمه إلا الله.

وكذلك الإنسان كلما أطاع الله نفع نفسه وغيره، وخرج منه من المنافع ما لا يعلمه ولا يحصيه إلا الله من العبادة، والدعوة، والتعليم، والإنفاق، وأعطاه الله من خزائنه ما يريد.

ص: 2937