المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌8 - آفة الرياء

‌8 - آفة الرياء

قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7].

وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142].

الله عز وجل أغنى الأغنياء عن الشرك، فلا يقبل من الأعمال إلا ما كمل وخلص من شوائب الشرك والرياء.

والرياء حرام، والمرائي عند الله ممقوت.

والرياء من أعظم آفات النفس وأشد غوائلها.

وأكثر ما يبتلى بالرياء العلماء والعباد والأغنياء والمجاهدون، والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة.

فإن هؤلاء مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها، وفطموها عن الشهوات، وصانوها عن الشبهات، وحملوها على أصناف العبادات إلا عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة، فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير، وإظهار العلم والعمل، فسارعت إلى إظهار الطاعة، وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق، وفرحت بحمد الناس، ولم تقنع بحمد الله وحده.

وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات، وتوقيه الشبهات، وتحمله مشاق العبادات، أطلقو ألسنتهم بالمدح والثناء، ونظروا إليه بعين الوقار والتعظيم، وبالغوا في إطرائه، وتبركوا بمشاهدته، ورغبوا في بركة دعائه، وحرصوا على اتباع رأيه، وفاتحوه بالخدمة والسلام، وأكرموه في المحافل غاية الإكرام، وقدموه في المجالس، وسامحوه في البيع والمعاملات، وتصاغروا له متواضعين.

فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات، وشهوة هي أغلب الشهوات،

ص: 3150

فاستحقرت فيه ترك المعاصي، واستلانت خشونة المواظبة على العبادات؛ لإدراكها في الباطن لذة الشهوات، فهو يرى أنه مخلص في طاعة الله، مجتنب لمحارم الله، والنفس قد أبطنت هذه الشهوة تزيناً للعباد، وتصنعاً للخلق، وفرحاً بما نالت من المنزلة والوقار، وأحبطت بذلك ثواب الطاعات، وأجور الأعمال، وقد أثبت اسمه في صحيفة المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين، وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون.

فالرياء هو الداء الدفين، وهو أعظم شبكة للشياطين في إفساد أعمال المؤمنين. وحد الرياء: ترك الإخلاص في العمل بإرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى كأن يقصد اطلاع الناس على عبادته وعمله فيحصل له منهم نحو مال أو جاه أو ثناء.

وللمرائي أربع علامات:

يكسل إذا كان وحده .. وينشط إذا كان في الناس .. ويزيد في العمل إذا أثني عليه .. ويُنقص العمل إذا ذُم.

والرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، والرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، إلا أن الجاه والمنزلة تُطلب في القلب بأعمال سوى العبادات، وتطلب بالعبادات.

واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها.

فحد الرياء: هو إرادة العباد بطاعة الله.

فالمرائي هو العابد .. والمراءى هو الناس المطلوب رؤيتهم للظفر بالمنزلة في قلوبهم .. والمراءى به هو الخصال والأعمال التي قصد المرائي إظهارها .. والرياء هو قصده إظهار ذلك.

والمراءى به كثير، وتجمعه ستة أشياء، وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس وهي: البدن .. والزي .. والقول .. والعمل .. والأتباع .. والأشياء الخارجة.

ص: 3151

فالأول: الرياء في الدين بالبدن بإظهار النحول والتقشف والصفار، ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين، وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل، وبالصفار على سهر الليل، وبشعث الرأس على استغراق الهم بالدين، وعدم التفرغ لتسريح الشعر.

وهذه الأسباب إذا ظهرت استدل بها الناس على هذه الأمور، فارتاحت النفس لمعرفتهم، ويقرب من هذا خفض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتين، ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم.

الثاني: الرياء بالهيئة والزي.

أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس، وحلق الشارب، وإطراق الرأس في المشي، والهدوء في الحركة، وغلظ الثياب، ولبس المرقعات وتشميرها إلى أعلى الساق، وترك نظافة الثياب، كل ذلك يرائي به ليُظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه.

الثالث: الرياء بالقول.

ويكون بالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار، إظهاراً لغزارة العلم، والانتصار في المحاورات، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات، وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي ونحو ذلك.

الرابع: الرياء بالعمل.

كمراءاة المصلي بطول القيام، ومد الظهر، وطول السجود والركوع، وإطراق الرأس، ليراه الناس.

وكذلك بالصوم والصدقة والحج والغزو، وإطعام الطعام، والإخبات في المشي عند اللقاء ونحو ذلك.

الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرين كالذي يتكلف أن يستزير عالماً من العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، أو عابداً من العباد ليقال أن أهل الدين يتبركون بزيارته، وكالذي يكثر من ذكر الشيوخ ليرى الناس أنه لقي شيوخاً

ص: 3152

كثيرة، فيباهي بشيوخه، ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه.

فهذه بعض ما يرائي به المراءون، وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد، ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته، وتنجز الحوائج على يده، فيقوم له بذلك جاه عند العامة.

ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع الحطام وكسب المال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام.

وهؤلاء شر طبقات المرائين.

وأركان الرياء ثلاثة:

المراءى به .. والمراءى لأجله .. ونفس قصد الرياء.

أما نفس قصد الرياء.

فإن كان مراده الرياء لا الثواب فهذا ممقوت عند الله تعالى كمن يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي، بل ربما يصلي من غير طهارة على الناس، ومثله من يتصدق خوفاً من مذمة الناس لا رغبة في الثواب، ولو خلا بنفسه لما أداها، فهذه الدرجة أغلظ درجات الرياء وأعلاها وأخطرها.

وإن قصد الثواب لكن قصده ضعيف، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله، فهذا قريب مما قبله، وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم.

وإن قصد الثواب وقصد الرياء سواء، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، فهذا قد أفسد مثل ما أصلح، وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم من العقاب.

وإن كان اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن لا يترك العبادة فهذا قد لا يحبط أصل الثواب، ولكنه يُنقص منه، أو يعاقب على مقدار الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب.

ص: 3153

فهذه أربع درجات في نفس قصد الرياء.

وأما المراءى به: وهو الطاعات فينقسم إلى الرياء بأصول العبادات، وإلى الرياء بأوصافها.

فالرياء بالأصول على ثلاث درجات:

الأولى: الرياء بأصل الإيمان، وهذا أغلظ أبواب الرياء، وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يظهر كلمة الشهادة، وباطنه مشحون بالتكذيب، ولكنه يرائي بظاهر الإسلام.

وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإسلام رياء ويبطنون الكفر، وهم مخلدون في أسفل النار كما قال سبحانه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].

وليس وراء هذا الرياء رياء، وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر.

الثانية: الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا عظيم عند الله لكنه دون الأول بكثير كأن يدخل وقت الصلاة وهو في جمع من الناس، وعادته ترك الصلاة في الخلوة فيصلي معهم، ولو كان وحده لم يصل، أو يصوم رمضان وهو يشتهي خلوة ليفطر، أو يخرج الزكاة أمام الناس خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لا يحب إخراجها.

فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله، يعتقد أنه لا معبود سواه، ولكنه يترك العبادات والفرائض للكسل، وينشط عند اطلاع الناس عليه، فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق، وهذا غاية الجهل، وما أجدر صاحبه بالمقت.

الثالثة: أن لا يرائي بالإيمان، ولا بأصل الفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصي، ولكنه يكسل عنها في الخلوة، لفتور رغبته في ثوابها، ولإيثار الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كالتهجد بالليل، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وصيام يوم عرفة وعاشوراء

ص: 3154

ونحو ذلك.

فقد يفعل المرائي جملة من ذلك خوفاً من المذمة، أو طلباً للمحمدة، والله يعلم منه أنه لو كان وحده لما زاد على أداء الفرائض.

فهذا كذلك عظيم، ولكنه دون ما قبله، فالذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق، وهذا اتقى ذم الخلق دون ذم الخالق.

أما الرياء بأوصاف العبادات فهو على ثلاث درجات:

الأولى: أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي من عادته تخفيف الركوع والسجود والقيام والقراءة في الصلاة، فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود، وأتم القيام، وحَسَّن القراءة.

فهذا من الرياء المحظور؛ لأن فيه تقديماً للمخلوقين على الخالق، ولكنه دون الرياء بأصول التطوعات.

وهذه مكيدة للشيطان بالإنسان، فإن ضرره من نقصان صلاته لمولاه أعظم من ضرره بغيبة غيره إذا رآه مقصراً في عبادته، فالواجب عليه أن يحسن ويخلص، فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة، وليس له أن يدفع ذم الناس له بالمراءاة بطاعة الله تعالى، فإن ذلك استهزاء.

الثانية: أن يرائي بفعلِ ما لا نقصان في تركه، ولكنْ فَعَله في حكم التكملة لعبادته كالتطويل في الركوع والسجود، وتحسين الهيئة، والزيادة في القراءة، وطول الصمت، وإخراج الجيد في الزكاة، ونحو ذلك مما لو كان وحده لم يقدم عليه.

الثالثة: أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل كحضور الجماعة قبل القوم، وقصده الصف الأول، وتوجهه إلى يمين الإمام، ونحو ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف؟ ومتى يُّحرم بالصلاة؟.

فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به، وبعضها أشد من بعض، والكل

ص: 3155

مذموم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ» متفق عليه (1).

أما الركن الثالث: فهو المراءَى لأجله.

فالمرائي له مقصود من الرياء لا محالة، فهو إنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة، وهو على ثلاث درجات:

الأولى: أن يكون مقصوده بالرياء التمكن من معصية.

كالذي يرائي بعبادته وتقواه، ويظهر الورع بكثرة النوافل، والامتناع عن أكل الشبهات، وغرضه أن يُعرف بالأمانة والزهد فيولى القضاء، أو الأوقاف، أو الوصايا فيأخذها.

أو يُسلَّم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو تودع عنده الودائع فيأخذها ويجحدها.

وقد يظهر بعضهم الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور، وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن، يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن، وغرضهم ملاحظة النساء والغلمان، نسأل الله السلامة والعافية.

وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى؛ لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصيته.

الثانية: أن يكون غرضه نيل مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة، كالذي يظهر الحزن والبكاء، أو يشتغل بالوعظ والتذكير، لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء.

فهذا رياء محظور؛ لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا، ولكنه دون الأول، فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه، لكن عمله باطل لا ثواب عليه.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6499)، ومسلم برقم (2986).

ص: 3156

«قال الله عز وجل: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم (1).

الثالثة: أن لا يقصد نيل حظ أو إدراك مال أو نكاح، ولكن يظهر عبادته ويحسنها خوفاً من أن يُنظر إليه بعين النقص، ولا يُعد من الخاصة والزهاد كالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الإثنين، أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن يُنسب إلى الكسل والبخل، ويُلحق بالعوام، ولو خلا بنفسه لا يفعل شيئاً من ذلك.

وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء وهو غير صائم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم.

فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء، ولولا رسوخ عرق الرياء في الباطن لما ظهر في الخارج قولاً أو فعلاً.

فهذه درجات الرياء، ومراتب أصناف المرائين، وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات، ومن شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل، يزل فيها فحول العلماء فضلاً عن عامة الجهلاء بآفات النفوس وعللها.

والرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله تعالى، ومن كبائر الذنوب، وإذا كان هذا وصفه فهو جدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته، ولا شفاء منه إلا بشرب الأدوية القامعة له، ومجاهدة شديدة، ومكابدة لقوة الشهوات، والعباد كلهم مضطرون لهذه المجاهدة.

وإنما يحصل علاج الرياء بأمرين:

أحدهما: قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه.

الثاني: دفع ما يخطر منه في الحال.

فأما قلع عروقه وأصوله: فأصل الرياء حب المنزلة والجاه، وهو يرجع إلى ثلاثة

(1) أخرجه مسلم برقم (2985).

ص: 3157

أصول وهي:

لذة المحمدة .. والفرار من ألم الذم .. والطمع فيما في أيدي الناس.

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ:«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله» متفق عليه (1).

فالحمية: أن يأنف أن يُقهر .. وليُرى مكانه: هذا هو طلب لذة الجاه والقدر في القلوب .. ويقاتل للذكر: هذا هو طلب حمد الناس له باللسان.

فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء.

فإذا علم العبد أن الرياء ضار في الدنيا والآخرة سهل عليه قطع الرغبة عنه، فإنه إذا علم مضرة الرياء، وما يفوته من صلاح قلبه، وما يُّحرم منه من التوفيق في الحال، وفي الآخرة من المنزلة عند الله، وما يتعرض له من العقاب العظيم، والمقت الشديد، والخزي الظاهر، فعلمه بذلك يُسهل عليه تركه، ويبعث فيه الرغبة في الإخلاص.

هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإن رضا الناس غاية لا تدرك، ومن طلب رضاهم في سَخَط الله سَخِط الله عليه، وأسخطهم عليه.

وأي فائدة للمرائي إذا مدحه الناس وذمه الله، وحمدهم لا يزيد له رزقاً ولا يدفع أجلاً؟.

وأما الطمع بما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق كلهم مضطرون إلى الله فلا رزاق إلا هو، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنَّة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب؟.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7458) واللفظ له، ومسلم برقم (1904).

ص: 3158

وأما ذم الناس فلم يحذر منه، وذمهم لا يزيده ولا يضره شيئاً لم يكتبه الله عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخر رزقه، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة، والناس لا كمال في مدحهم، ولا نقصان في ذمهم.

وأي خير للإنسان في مدح الناس له وهو عند الله مذموم ومن أهل النار؟.

وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في زمرة المقربين؟.

ومن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد ورضوان الله أعرض عن الخلق، وأقبل على ربه، وأخلص له العمل، وتخلص من مذلة الرياء للخلق، فهذه أهم الأدوية القالعة لأصول الرياء من القلب.

وأما الدواء العملي:

فهو أن يعوِّد نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه على عباداته، ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله به.

وأما دفع العارض من الرياء أثناء العبادة، فالشيطان لا يترك الإنسان ولو قلع مغارس الرياء من قلبه حتى يشغله أثناء العبادات، ويعارضه بخطرات الرياء، ولا تنقطع عنه نزغاته، وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية.

فلا بدَّ وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء.

وخواطر الرياء ثلاثة:

الأول: العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم.

الثاني: ثم يتلوه هيجان الرغبة في النفس في حمدهم، وحصول المنزلة عندهم.

الثالث: ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له، والركون إليه، والقيام به، والحزم في دفع الخاطر الأول ورده حتى لا يتلوه الثاني، فيقول لنفسه: الله عالم بحالك، ومَالَكِ وللخلق، علموا أو لم يعلموا، فإن هاجت الرغبة إلى لذة حمد الناس ذكرها ما في الرياء من التعرض لمقت الله يوم القيامة.

وكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء، فمعرفة آفة الرياء تثير

ص: 3159

كراهة له تقابل تلك الشهوة.

والرياء فعل الخير لإرادة الخير بطلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، وإرادة العباد بطاعة الله.

والفرق بين الرياء والسمعة:

أن الرياء يكون في الفعل؛ لأن المرائي يري الناس أنه يفعل ولا يفعل بالنية، والسمعة تكون في القول.

والفرق بين الرياء والنفاق:

أن الأصل في الرياء الإظهار، والأصل في النفاق الإخفاء.

وقد يلتقي الأمران الرياء والنفاق الأصغر في عمل المنافق بإظهار مجرد الطاعة كما قال سبحانه في المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142].

وقد يختلفان كما في قيام المنافقين إلى الصلاة كسالى، وعدم ذكرهم لله إلا قليلاً، فالمرائي يظهر النشاط، ويكثر الذكر لينال مكانة عند الناس بخلاف المنافق.

والرياء من الكبائر، بل هو الكبيرة الثانية بعد الشرك بالله؛ لما فيه من الاستهزاء بالحق تعالى، وتقديم المخلوق عليه، ولما فيه من التلبيس على الخلق لإيهام المرائي لهم أنه مخلص مطيع لله وهو بخلاف ذلك.

ولهذا أطلق على الرياء الشرك الأصغر، فهو كل عبادة يراد بها غير وجه الله تعالى، فهو من أكبر الكبائر المهلكة.

والرياء درجات:

فالرياء بما عمله الإنسان كبيرة .. والرياء بما لم يعمله أكبر:

{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7].

ص: 3160