الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - فقه الدنيا والآخرة
قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} [القصص: 77].
وقال الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64].
الله تبارك وتعالى إذا أعطى عبده من الدنيا فينبغي أن يبتغي بها ما عند الله بالإحسان والصدقات، ولا يقتصر على مجرد نيل الشهوات واللذات، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، بل ينفق لآخرته، ويستمتع بدنياه استمتاعاً لا يثلم دينه، ولا يضر بآخرته.
وإقامة دين الله في الأرض يحقق الفلاح في الدنيا والآخرة على السواء، لا افتراق بين دين ودنيا .. ولا افتراق بين دنيا وآخرة .. فهو منهج واحد للدنيا والآخرة .. للدين والدنيا .. كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 65 - 66].
وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
فالإيمان والتقوى كما يكفل لأصحابه جزاء الآخرة بثواب الجنة الحسن، كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة وَفْرة ونماء وكفاية.
فليس هناك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة، وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا، إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة.
فإذا تنكبت الأمة هذا الطريق فسدت الدنيا، وخسرت الآخرة.
وهذا الطريق هو الإيمان والتقوى التي علامتها تحقيق المنهج الإلهي في النفس وفي الحياة الدنيا، وبذلك تصلح الحياة الدنيوية والحياة الأخروية.
إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلاً عن الدنيا، ولا يجعل سعادة الآخرة بديلاً عن سعادة الدنيا .. ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا.
لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير من الناس، بحيث اعتقدوا أنه لا سبيل للالتقاء بين الطريقين، فعلى الإنسان إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه، ولا سبيل للجمع بينهما في تصور ولا واقع.
وقد ساعد على هذا الفهم أن واقع الناس في هذا الزمان يوحي بهذا.
وحقاً إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله، وعن منهجه في الحياة اليوم، تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتلزم واقعاً على الذين يريدون البروز في الدنيا والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة، ويتحللوا من الدين والأخلاق والآداب التي يحض عليها الدين.
وفي الوقت نفسه تُلزم الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع .. لماذا؟.
لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للشرع والدين والخلق، ولا مرضية لله سبحانه.
ورأت الأمة هذا ضربة لازب: فلا مفر منه، ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا والآخرة.
وهذا كله ليس بصحيح، فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، ليس هو الحقيقة التي لا تقبل التبديل، إنما ذلك عارض ناشئ من انحراف طارئ.
فالأصل في الحياة الإسلامية التي جاء بها الشرع أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا كما قال سبحانه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، كما أنه المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا.
وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي، ويكون ذلك إذا تم تحقيق منهج الله في الأرض.
فهذا المنهج وحده هو الذي يجعل العمل حسب أمر الله عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة.
والخلافة عمل وإنتاج، يتم بها تنفيذ أوامر الله في إصلاح الدنيا والآخرة، ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهج وشريعته طاعة ينال العبد عليها ثواب الآخرة، ويظفر بخيرات الأرض التي سخرها له ربه.
فالإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض، ولا يستغل طاقات الأرض والكون المسخر له يعتبر عاصياً لله، ناكلاً عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها، تاركاً للأسباب التي جعلها الله سبباً لصلاح دنياه.
كما أن التارك لفرائض وأركان الإسلام يكون عاصياً لربه، ناكلاً عن امتثال أوامره التي جعلها الله سبباً لصلاح آخرته.
فالذي يترك أسباب الكسب والمعيشة يكون معطلاً لرزق الله الموهوب للعباد، جافياً عنه، راضياً بما يلقمه الناس من فضلاتهم، ويقف ذليلاً بأبوابهم، وقد ترك الباب الذي فتحه الله ليكسب الدنيا والآخرة، وينشغل في معاشه عن أوامر الله وطاعته، وهكذا يخسر الآخرة؛ لأنه خسر الدنيا، وقد أمرنا الله بالقيام بأسباب
الكسب للدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 9 - 10].
وهذا الدين وسط يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق، فلا يفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوِّت عليه آخرته لينال دنياه:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء: 134].
والدين الإسلامي يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية العقلية في العمل والإنتاج، وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله، فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون، ولا يأكل من سحت، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، ولا يسرق ولا يختلس ولا يحتكر، مع الاعتراف لله بالملكية، وأداء حق الفقراء في ماله في حدود ما فرض الله عز وجل.
والإسلام يسجل للفرد عمله في هذه الحدود وفق شرع الله، عبادة يجزيه عليها بالبركة في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
ويربط المنهج الإسلامي بين العبد وربه رباطاً أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها الله عليه، يستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة، وفي كل حين بكثرة الذكر، وفي العام الواحد ثلاثين يوماً بصوم رمضان، وفي العمر كله بحج بيت الله الحرام، وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].
ومن هنا نعلم قيمة الفرائض التعبدية في الإسلام، إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط والالتزام بمنهجه الكلي للحياة، وهي قربى إلى الله يتجدد منها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج الذي ينظم أمر الحياة كلها: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153].
وكذا يتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل، والتغلب على شهوات الناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق.
وليست الشعائر التعبدية من صلاة وذكر وصيام وحج ونحوها أموراً منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع.
إنما الإيمان والتقوى، والشعائر التعبدية شطر المنهج المعين على أداء شطره الآخر.
إن الإسلام لا يقدم الآخرة بديلاً عن الدنيا ولا العكس، إنما يقدمها معاً في طريق واحد، وبجهد واحد، ولكنهما لا يجتمعان معاً في حياة الإنسان إلا إذا اتُّبع منهج الله وحده في الحياة.
وكذلك الإسلام لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى بديلاً عن العمل والإنتاج والتحسين في واقع الحياة المادية، وليس هو المنهج الذي يَعِد الناس فردوس الآخرة، ويرسم لهم طريقه، بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا.
فالعمل والإنتاج والتنمية، وتحسين واقع حياة الناس حسب أمر الله، وحسب توجيه شرعه، ذلك وظيفة وفريضة الخلافة في الأرض.
والإيمان والعبادات، والصلاح والتقوى، تمثل الضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق منهج الله في الحياة حسب أمر الله ورسوله، وهذه وتلك مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معاً، والطريق هو الطريق، ولا تصادم بين الدين وبين الحياة الواقعية المادية، وأمر الله في هذه وهذه كله عبادة يتقرب بها العبد إلى الله، فالدين يستغرق ويشمل حياة الإنسان كلها كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}
…
[الأنعام: 162 - 163].
ولكن الناس لما شردوا عن منهج الله وشرعه، واتخذوا لهم مناهج أخرى معادية لمنهج الله، جاء هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين العبادة الروحية والإبداع المادي، وبين النجاح في الدنيا والنجاح في الحياة الأخرى حسب أمر الله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
…
[البقرة: 85].
وبسبب هذا الفصل جاء الشقاء والألم على الطرفين:
فمن أقبل على الدنيا وترك الدين يعيش في قلق وحيرة، وبشقاء قلب، وذلك من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته، إذا هم آثروا اطراح الدين كله على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والنجاح في الحياة.
وهؤلاء إن ملؤوا جيوبهم بالأموال إلا أنهم يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب ولا تطيق الفراغ والخواء، وهي جوعة لا يملؤها إلا الإيمان بالله.
وهم يؤدونها كذلك قلقاً وحيرة وشقاء قلب إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله، وحاولوا معها مزاولة الحياة وكسبها على غير منهج الله.
فتصادم العقيدة الدينية والخلق والسلوك الديني مع الأوضاع والقوانين المخالفة لمنهج الله، فيحصل بسبب ذلك الشقاء والتعب.
والبشرية اليوم تعاني ما تعاني من ذلك الشقاء، فقد صور لها الأعداء أن الدين لله، وأن الحياة للناس يفعلون فيها ما يشاؤون، وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة، ضريبة الشقاء والقلق، والحيرة والخواء؛ لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الكامل الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة بل ينسق.
ولا تخدعنا ظواهر كاذبة في فترة موقوتة، حين نرى أمماً لا تؤمن ولا تتقي، ولا
تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج، عظيمة الرخاء.
إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الإلهية الثابتة فعلها الثابت، وحتى تظهر آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي، والمنهج الرباني.
وقد حصل وظهر في صور شتى، ظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم، مما يجعل المجتمع حافلاً بالشقاء والأحقاد والخوف، وهذا بلاء على رغم الرخاء.
وظهر في الانحلال النفسي والخلقي، وظهر في القلق العصبي، والأمراض المنوعة التي اجتاحت العالم، وبخاصة أشدها رخاءً، مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال، ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج.
وظهر كذلك في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع كل لحظة، وقد بدأت بوادره، وهو خوف يضغط على أعصاب الناس فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية.
ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء التي حُرِمت أو حَرَمت نفسها من نعمة الإيمان.
وأخيراً .. يؤدي هذا الفصل بين الدين والدنيا في النهاية إلى الهلاك والدمار للأمم والشعوب.
فاتخاذ منهج للآخرة من عند الله، واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس، في حياة واحدة، ومجتمع واحد، كل ذلك يؤدي إلى التصادم المؤدي إلى الهلاك والدمار والاضطراب.
فدين الله عز وجل يقوم على الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة، والقيام بالعمل والإنتاج للنهوض بالخلافة في الأرض.
وإذا اجتمعت هذه الأمور تحقق شرط الله لهذه الأمة، فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا، وكُفِّرت عنهم سيئاتهم، ودخلوا جنات النعيم في الآخرة كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].
فالأساس هو الإيمان والتقوى، وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية، وهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج، وسهولة استقامة الحياة، فضلاً على أن للصلة بالله مذاقها التي يسعد بها المرء في حياته.
والله تبارك وتعالى غني عن العالمين، فالإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله، وإقامة شريعة الله في الحياة، كل ذلك ثمرته للإنسان والحياة الإنسانية:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
وإذا شدد المنهج الإسلامي على هذه الأسس والأصول فليس هذا معناه أن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له، وتحقيق منهجه في الحياة، أو أن الله محتاج إلى ذلك، ولكن لأن الله جل جلاله رؤوف رحيم، يعلم أنه لا صلاح للبشرية ولا فلاح لها إلا بهذا المنهاج الإلهي الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبحر، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (1).
فشرط الله قائم .. والطريق إليه معروف .. والوفاء بالشرط سهل لو كانوا يعقلون.
والحياة في الإسلام ليست هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الإنسان، ولا هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس، كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا.
بل الحياة واسعة تمتد طولاً في الزمان، فتشمل فترة الحياة الدنيا، وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها وعظمتها ونعيمها إلا الله، وفترة الدنيا بالنسبة إليها كساعة من نهار.
وتمتد الحياة في المكان فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر داراً أخرى: جنة عرضها كعرض السماء والأرض، وناراً تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض كما قال سبحانه:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].
وتمتد في العوالم فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله، ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا الله به.
وتمتد الحياة في حقيقتها فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا وإلى تلك المستويات الجديدة العالية الفائقة في الحياة الأخرى في الجنة وبعكس
(1) أخرجه مسلم برقم (2577).
ذلك في النار.
وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا، ولا تساوي الدنيا بالقياس إليها جناح بعوضة.
إن الرغبة في الآخرة لا تعني إهمال الدنيا وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها، وتركها للطغاة والمفسدين تطلعاً إلى نعيم الآخرة، وإنما الدنيا مزرعة للآخرة، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء والظلم عن أهلها، وتحقيق الخير والعدل للناس جميعاً، كل أولئك هو زاد الآخرة.
والمسلم إنما يزاول هذه الحياة الدنيا وهو يعلم أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا، خالصة له يوم القيامة كما قال سبحانه:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
…
[الأعراف: 32].
ويجاهد المسلم لترقية هذه الحياة، وتسخير طاقاتها وقواها، وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة حين استخلفه الله فيها.
ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة، إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هناك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة مؤقتة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى في الآخرة.
والله تبارك وتعالى كما اجتبى الرسل، وأرسلهم لهداية البشرية، كذلك هو سبحانه اجتبى هذه الأمة، وأعطاها مهمة الإشراف على الحياة البشرية وقيادتها إلى القمة السامقة بالدين الكامل، الذي يزين حياتها ويجملها في الدنيا والآخرة، ووعدهم على ذلك الجنة.
وقد أمرنا الله عز وجل بإقامة الدين، ونهانا أن نكون عبيداً للدنيا، وقد فهم
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فركبوها ولم تركبهم، وعَبَّدوها لله ولم تستعبدهم، وقاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله، ويرجون الدار الآخرة، فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، ثم سبقوهم كذلك في الآخرة، والدنيا وما فيها من النعيم بالنسبة للآخرة لهو ولعب كما قال سبحانه:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)} [الأنعام: 32].
والإنتاج المادي النافع وفق منهج الله من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه.
والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو إليه الإسلام، ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص الإنسان وأخلاقه، كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية الملحدة أو المشركة.
فما أبعد ما بين الدارين؟.
دار يمكن أن تُطمس وتُحصد في لحظة كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}
…
[يونس: 24].
ودار النعيم والسلام التي نعيمها لا يزول والناس فيها مخلدون كما قال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64].
إن للجهد في هذه الأرض ثمرته سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى، أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة.
فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا، ويتمتع بها كما يريد في أجل محدود، ولكن ليس له في الآخرة إلا النار؛ لأنه لم يقدم للآخرة شيئاً، ولم يحسب لها حساباً.
فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا، ولكنه باطل في الآخرة، وحابط لا يقام له وزن كما قال سبحانه:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: 15 - 16].
ونحن نشهد في هذه الأرض أفراداً وأمماً تعمل لهذه الدنيا وتنال جزاءها فيها، ولدنياها زينة وانتفاخ، وهذه سنة الله في هذه الأرض، وهؤلاء يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه، ونفوسهم تتطلع إلى الآخرة، وتراقب الله في الكسب والمتاع، فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئاً، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى.
إن العمل للآخرة لا يقف في سبيل العمل للدنيا، بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه، ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره، ولا تنقص من آثاره، بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيباً، والمتاع به طيباً، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة.
إن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها، فإن الله يعجل له خطة من الدنيا حين يشاء، ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق، مذموماً بما ارتكب، مدحوراً بما انتهى إليه من عذاب:
فأهل الدنيا لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض، يتلطخون بوحلها ورجسها ودنسها، ويستمتعون فيها كالأنعام، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات، ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم.
أما الذي يريد الآخرة فلا بدّ أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، ويقيم سعيه لها على الإيمان، ثم يلقى التكريم في الآخرة، جزاء السعي الكريم في الدنيا: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 19].
إن الحياة للأرض، الحياة للدنيا، حياة تليق بالديدان والحشرات، والزواحف والهوام، والوحوش والأنعام، فأما الحياة الآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله.
على أن هؤلاء وهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله، وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 20].
والتفاوت بين الناس في الدنيا ملحوظ بحسب أسبابهم وأعمالهم واتجاهاتهم، فكيف يكون التفاوت بين الناس في الآخرة التي الدنيا بالنسبة لها كقطرة من بحر:{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}
…
[الإسراء: 21].
فمن شاء التفاوت الحق، ومن شاء التفاضل الضخم، ومن شاء الدرجات العالية، فهو هناك في الآخرة، حيث الرقعة الفسيحة، والآماد الأبدية، والنعيم الفائق، والقصور الفاخرة:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26].
والدنيا لها وظيفة .. والآخرة لها وظيفة.
فالدنيا دار الإيمان والعمل .. والآخرة دار الثواب والعقاب.
والدنيا صغيرة ناقصة .. والآخرة كبيرة كاملة .. فيها كمال النعيم وكمال العذاب، والدنيا فانية زائلة .. والآخرة دائمة باقية، والدنيا مكان اجتماع الخلق كلهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، أما في الآخرة فيتفرقون، المؤمنون في الجنة، والكفار والعصاة في النار:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].
ولهؤلاء نعيم وخلود بلا موت .. ولهؤلاء عذاب وخلود بلا موت.
والدنيا مكان الطاعات، ومهبط الرسالات، وزمان الأعمال الصالحة، وفيها
بيوت الله، ومواطن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها ساحات الجهاد في سبيل الله .. وفيها الآيات الدالة على عظمة الله وقدرته من سماء وأرض، وجبال وبحار، ونبات وحيوان، وإنس وجان، وليل ونهار، وحياة وموت:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39].
…
[الروم: 22].
والمذموم من الدنيا كل حركة مخالفة لمنهج الله كالمعاصي والسيئات، وكفران النعم، وما أشغل الإنسان عن طاعة الله ورسوله من الأموال والأشياء، والأشخاص والأعمال كما قال سبحانه:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14].
وجميع ما على وجه الأرض جعله الله زينة لهذه الدار فتنة للناس واختباراً من مآكل لذيذة، ومشارب مختلفة، وملابس طيبة، ومياه وبحار، وزروع وأشجار وثمار، ورياض وأزهار، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحو ذلك كما قال سبحانه:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}
…
[الكهف: 7].
خلق الله كل ذلك ليبلوا خلقه أيهم أحسن عملاً.
فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها من نظر إلى ظاهر الدنيا دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، وغفلوا عن ربهم، ومعرفة شرعه والعمل به، فهؤلاء يتمتعون في الدنيا قليلاً، فإذا ماتوا عاقبهم الله بالنار:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران: 196 - 198].
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها ما يستعين به على ما خلق له، ويجعل الدنيا منزل عبور لا محل حبور، فيبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل الموصل للجنة.
فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم وسرور، إذ نظر إلى باطن الدنيا حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته حين عمل البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين والمنزلين كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12].