الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - آفة الغرور
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8].
الغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان.
فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور.
وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون، وإن اختلفت أصناف غرورهم، واختلفت درجات غرورهم، وأظهرها وأشدها غرور الكفار والعصاة والفساق:
فالكفار: منهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غره بالله الغرور.
فالذين غرتهم الحياة الدنيا قالوا: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، فهي إذن خير فلا بدَّ من إيثارها:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} [البقرة: 86].
وعلاج هذا الغرور بأمرين:
أحدهما: الإيمان بالله وتصديقه فيما قال عن الدنيا والآخرة: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36].
وقوله سبحانه: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)}
…
[الضحى: 4].
الثاني: البرهان، فالدنيا نقد، والآخرة نسيئة، هذا صحيح، واللبس جاء من كون النقد خير من النسيئة، فليس الأمر كذلك، بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير، وإن كان أقل منها فالنسيئة خير، والكافر المغرور
لا يعلم أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم.
لذا يركن إلى شهوات الدنيا ولذاتها مع أنها مشوبة بالأمراض والآفات والأكدار.
والمسلمون إذا ضيعوا أوامر الله تعالى، وهجروا الأعمال الصالحة، ولابسوا الشهوات والمعاصي، فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، لكن أمرهم أخف؛ لأن أصل الإيمان يعصمهم من عقاب الأبد، فيخرجون من النار بعد تطهيرهم من المعاصي.
ولكنهم من المغرورين، فإنهم اعترفوا أن الآخرة خير من الدنيا، ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها، ومجرد الإيمان بلا عمل لا يكفي للفوز بالجنة، فوعد الله للمؤمنين بالمغفرة ودخول الجنة كله منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعاً، فهو مركب منهما لا بالإيمان وحده كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107].
وغرور الكفار والعصاة بالله ألوان وأشكال.
ومنه قول بعضهم في أنفسهم وألسنتهم إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا، ونحن أوفر حظاً فيه، وأسعد حالاً كما قال سبحانه عن الكافر الذي يحاور صاحبه المؤمن قائلاً:{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)} [الكهف: 34 - 36].
وسبب هذا الغرور، أن الكفار والعصاة ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعيم الآخرة، وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم في الدنيا فيقيسون عليه عذاب الآخرة، وأنه لا يصيبهم كما قال سبحانه:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35].
وقال عنهم: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (8)} [المجادلة: 8].
ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم شعث فقراء فيزدرونهم ويحتقرونهم فيقولون: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
ويقولون: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)} [الأحقاف: 11].
وقد نشأ هذا الغرور من ظن الإنسان أنه كريم عند الله ومحبوب له، وإلا لما أحسن إليه، فيقول قد أحسن الله إلينا في الدنيا، وكل محسن فهو محب، وكل محب فإنه يحسن في الحاضر والمستقبل.
واللبس حصل تحت ظنه أن كل محسن محب، بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان، فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل ما أعطاه من الأموال والشهوات، وما علم أن الذي يبغضه الله يهمله ليعيش كيفما يريد، والذي يحبه يشغله بطاعته وعبادته.
فيظن هذا العبد المهمل حين يتركه ربه يتمتع بشهواته ولذاته أنه عند سيده محبوب كريم، وذلك محض الغرور، وهكذا نعيم الدنيا ولذاتها مهلكات ومبعدات عن الله، ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم، والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله، وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان كما قال سبحانه:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)} [الفجر: 15، 16].
فأجاب الله عن ذلك بقوله: {كَلَّا} [الفجر: 17].
أي ليس كما قال، إنما هو ابتلاء من الله، فليس الإعطاء دليل كرامة من الله، ولا المنع دليل إهانة، ولكن الكريم من أكرمه الله بطاعته غنياً كان أو فقيراً، والمهان من أهانه الله بمعصيته غنياً كان أو فقيراً.
ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وعلاجه بمعرفة دلائل الكرامة والإهانة في كتاب الله كما قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}
…
[المؤمنون: 55، 56].
وقوله سبحانه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].
فمن آمن بالله تخلص من هذا الغرور.
ومن غرور العصاة من المؤمنين قولهم: إن الله كريم، وإنا لنرجو عفوه، واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال والتوبة، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين فلا يعملون، وأن نعمة الله واسعة، ورحمته شاملة، وكرمه عميم، وأين معاصي العباد في بحار رحمته، وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الآباء وعلو مرتبتهم.
فيتركون الطاعات ويخوضون في الفسق والفجور اعتماداً على ذلك، وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى، فإن الإسلام إيمان وأعمال، ولا تزر وازرة وزر أخرى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)}
…
[النجم: 39 - 41].
فمن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه، ويصير عالماً بتعلم أبيه، وهذا يجمع مع الغرور الجهل والسفه، فالتقوى فرض عين على كل مسلم، فلا يجزى فيه والد عن ولده شيئاً.
والله كريم، وإنا لنرجو مغفرته ورحمته، هذا كله كلام صحيح مقبول، ولكن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر، مردود الباطن، ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب، واغترت به النفوس.
وقد حول الشيطان الأماني وسماها رجاءً بلا عمل حتى خدع بها كثيراً من الجهال، وقد شرح الله الرجاء فقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218].
فلا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح، فسنة الله في عباده كل نفس بما كسبت رهينة، فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم؟ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}
…
[الملك: 10، 11].
وموضع الرجاء المحمود في أمرين:
أحدهما: في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة، فقنطه الشيطان من رحمة الله، فيجب هنا أن يقمع القنوط بالرجاء بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، وأنه كريم يقبل التوبة من كل مذنب.
فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج، وإن توقع المغفرة مع الإصرار على المعصية فهو مغرور.
الثاني: أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال، ويقتصر على الفرائض، فيرجِّي نفسه نعيم الله تعالى، وما وعد به الصالحين، حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل.
فالرجاء الأول يقمع القنوط المانع من التوبة، والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر.
فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء، وكل رجاء أوجب فتوراً في العبادة وركوناً إلى البطالة فهو غرور.
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل .. فما لا يبعث على العمل فهو تمنٍّ وغرور .. ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم .. وسبب إقبالهم على الدنيا .. وسبب إعراضهم عن الله تعالى .. وإهمالهم السعي للآخرة.
وقد كان المسلمون في القرن الأول يواظبون على العبادات، ويبالغون في التقوى والحذر من الشبهات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 60، 61].
وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي، وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله وعفوه.
فهؤلاء يضعون الطمع موضع الخوف، إن أحسن أحدهم قال: يتقبل مني، وإن أساء قال: يغفر الله لي فهو الكريم المنَّان، فما أجهل هؤلاء بتخويفات القرآن.
وأهل الغرور أربعة أصناف:
الأول: أهل العلم.
ومن هؤلاء من أحكم العلوم الشرعية وتعمق فيها، وأهمل تفقد الجوارح، وحفظها من المعاصي، وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان، وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثلهم.
ومنهم من أحكم العلم والعمل فواظبوا على الطاعات، وتركوا المعاصي، لكنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا عنها الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد، والرياء، وطلب الرياسة، والعلو، وطلب الشهرة في البلاد والعباد.
فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم، ونسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُم» أخرجه مسلم (1).
ومنهم من علم أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع إلا أنهم لعُجْبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بها، وإنما يبتلى بها العوام دون من بلغ مبلغهم من العلم والعمل.
ومنهم من أحكم العلم والعمل، وطهر النفس من الأخلاق الذميمة، ولكنهم بعد مغرورون، إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان ما بقي مما لم يفطن له.
فترى العالم يسهر ليله ونهاره في جمع العلوم وترتيبها، وتحسين ألفاظها، وهو
(1) أخرجه مسلم برقم (2564).
يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته، ولعل باعثه الخفي هو طلب الذكر وانتشار الصيت في الأطراف، وانطلاق الألسنة عليه بالثناء والمدح بالزهد والورع والعلم، والرحلة إليه من الأطراف، والاجتماع حوله للاستفادة ونحو ذلك، ومنهم من اشتغل بالكلام ومجادلة أهل الأهواء وهم فرقتان: ضالة، ومحقة، فالضالة تدعو إلى غير السنة .. والمحقة هي التي تدعو إلى السنة.
والغرور شامل لجميعهم.
أما الضالة: فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة.
وأما المحقة: فاغترارها من حيث أنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور، وأفضل القربات في دين الله، وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث ويجادل.
فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة، وقلدهم غيرهم ممن تعلم على أيديهم.
ومنهم من اشتغل بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس، وصفات القلب من الخوف والرجاء، والمحبة واليقين والإخلاص، والصبر والشكر ونحوها، وأكثرهم مغرور؛ لأنهم يظنون أنهم إذا تكلموا بها فقد صاروا موصوفين بها، وهم عند الله منفكون عنها.
وغرور هؤلاء أشد الغرور؛ لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب.
ومنهم من عدل عن المنهاج الواجب في الوعظ، فاشتغلوا بالطامات والشطح، وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلباً للإغراب.
ومنهم من اشتغل بطيارات النكت والمضحكات، وسجع الألفاظ وتلفيقها وغرضهم أن تكثر في مجالسهم الزعقات والضحكات.
فهؤلاء شياطين الإنس قد ضلوا وأضلوا.
ومنهم من حفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا، فيؤدونها للناس من غير إحاطة بمعانيها، ومن غير أن يحفظ الواحد منهم ظاهره وباطنه عن الآثام ظناً منه أن كلام أهل الدين يكفيه، فما أشد غرور هؤلاء؟.
ومنهم من استغرق أوقاته في سماع الحديث، وجمع الروايات الكثيرة منه، وطلب الأسانيد الغريبة العالية، فهمة أحدهم أن يدور في البلاد، ويرى الشيوخ ليقول أنا أروي عن فلان، وما أكثر ما يحمل من الأحاديث ولا يعمل به، وينشغل بجمع الروايات ويغفل عن معرفة علاج القلب والعمل بما جمع.
ومنهم من اشتغل بعلم اللغة والنحو واغتروا به، وزعموا أنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين بالكتاب والسنة، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو، فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو واللغة، وكان يكفيهم أن يتعلموا أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ والباقي زيادة.
الصنف الثاني: أرباب العبادة والعمل، والمغرورون منهم أصناف:
فمنهم من غروره في الصلاة .. ومنهم من غروره في تلاوة القرآن .. ومنهم في الحج .. ومنهم في الغزو .. ومنهم في الزهد، وكل مشغول بمنهج من مناهج العمل، وليس خالياً من الغرور إلا الأكياس، وقليل ما هم.
فمنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل.
ومنهم من غلبت عليه الوسوسة في نية الصلاة، فلا يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة، بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة، ويخرج الصلاة عن وقتها.
ومنهم من يصوم ولا يحفظ لسانه عن الغيبة، وخاطره عن الرياء، وبطنه عن الحرام عند الفطر والسحور.
ومنهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينسى نفسه.
ومنهم من زهد في المال، وقنع من اللباس بالدون، ومن المسكن بالمسجد، وظن أنه أدرك رتبة الزهاد وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ ونحوهما.
ومنهم من حرص على النوافل وأهمل الفرائض، فترى أحدهم يحرص على صلاة الليل، ويفرح بصلاة الضحى ونحوهما، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت.
الصنف الثالث: من وقع في الإباحة وطووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام، فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عمله فَلِمَ يُتعب نفسه؟، وبعضهم يقول قد كُلِّف الناس تطهير القلوب عن الشهوات وحب الدنيا وذلك محال، فقد كلفوا ما لا يمكن فقعد عن العمل.
ومنهم من ضيق على نفسه في طلب الحلال الخالص من القوت، وأهمل تفقد القلب والجوارح في غير هذه الخصلة.
الصنف الرابع: أرباب الأموال، والمغترون منهم فرق:
فمنهم من يحرص على بناء المساجد والمدارس، ويكتبون أسماءهم عليها ليخلد ذكرهم بعد موتهم، وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك، فهؤلاء إن بنوها من أموال كسبوها من ظلم ونهب ورشوة ونحوها فقد تعرضوا لسخط الله في كسبها، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها.
ومنهم من كسب المال من الحلال وأنفقه على بناء المساجد، ولكنه يريد الرياء وطلب الثناء، ويصرف في زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش ما يشغل المصلين، ويخطف أبصارهم، ويحسب أن ذلك من الخيرات، وهو من الإسراف الذي لا يحب الله صاحبه.
ومنهم من ينفقون الأموال على الفقراء والمساكين في المحافل الجامعة، ويكرهون الصدقة في السر، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذه منهم جناية عليهم وكفراناً لإحسانهم.
ومنهم من يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل، ويشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار، وقيام الليل، وختم القرآن، وهم مغرورون؛ لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم.
ومنهم من غلبه البخل، فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه، ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ليعطوه إياه، والله يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}
…
[البقرة: 267].
وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس الذكر، واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم، واتخذوا ذلك عادة، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون الاتعاظ أجراً، وهم مغرورون؛ لأن فضل مجالس الذكر لكونها مرغبة في الخير، فإن لم يهيج الرغبة فلا خير فيه.
فليحذر الأمراء والعلماء، والدعاة والفقهاء، والأغنياء والوجهاء، من خداع الشياطين، والغرور بالدنيا وشهواتها، وتمتع الكفار بنعيمها، فمتاع الدنيا قليل، يتمتع به المرء قليلاً، ويعذب عليه طويلاً كما قال سبحانه:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} [آل عمران: 196 - 198].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 5، 6].
ومن أعظم الغرور أن ترى الله عز وجل يتابع عليك نعمه، وأنت مقيم على معصيته، فاحذر ذلك فإنما هو استدراج يستدرجك به كما قال سبحانه:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].
والشياطين غروا كثيراً من الخلق، وأطمعوهم مع إقامتهم على ما يسخط الله ويغضبه في عفوه وتجاوزه، وحدثوهم بالتوبة لتسكن قلوبهم، ثم دافعوهم
بالتسويف حتى هجم الأجل، فأخذوا على أسوأ أحوالهم، والشيطان موكل بالغرور، وقد حذرنا الله منه بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5].
وأعظم الناس غروراً من إذا مسه الله برحمة ونعمة وفضل قال أنا جدير به ومستحق له، وظن أنه أهل لتلك النعم مع كفره بالله، فاستكبر بها، وصد بها عن سبيل الله، ويزعم أنه لو رجع إلى ربه بعد الموت سينال من الكرامة مثل ما نال في الدنيا مع كفره.
وهذا من أعظم الجرأة والقول على الله بلا علم، فلكفره وكذبه هذا توعده الله بالعذاب الشديد يوم القيامة كما قال سبحانه:{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)} [فصلت: 50].