المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} [النساء: 13].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14].

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 32].

كل إنسان متحرك بطاعة أو معصية أو بهما معاً ولا بد.

والطاعات كلها محبوبة لله مرضية له، وإن لم يشأها ممن لم يعطه، ومن وجدت منه فقد تعلقت بها مشيئة الله ومحبته.

والمعاصي كلها مبغوضة لله مكروهة له وإن وقعت بمشيئة الله، فما لم يوجد من الطاعات المقدرة تعلقت بها محبة الله دون مشيئته، وما وجد منها تعلق بها محبته ومشيئته.

وما لم يوجد من أنواع المعاصي فلم تتعلق بها مشيئته ولا محبته، وما وجد منها تعلق به مشيئته دون محبته.

وطاعات العباد كلها لا تكون مقابلة لنعم الله عليهم، ولا مساوية لها، بل ولا لواحدة منها، فكيف يستحقون بها النجاة؟.

وطاعة المطيع لا نسبة لها إلى نعمة من نعم الله عليه، فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكراً، والعبد لا يقوم بمقدوره الذي يجب لله عليه، فجميع عباده تحت عفوه ورحمته، وفضله وإحسانه.

فما نجا منهم أحد إلا بعفوه ومغفرته، ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته.

وما أطاع الله من أطاعه إلا بإذنه وعونه وفضله، وما عصاه من عصاه إلا بعلمه:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

ص: 2905

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (1).

فأمور الخلائق كلها بيد الله وحده، والهداية بيد الله، ولكن الله جعل لها أسباباً، كما جعل للنور أسباباً، وللحياة أسباباً، وللكسب أسباباً.

وحتى تحصل الهداية لمن ندعوه لا بدَّ من العلم بأمور:

الأول: أن نتيقن أن القلوب بيد الله، فندعو الله له بالهداية.

الثاني: أن يكون في قلوبنا الحزن على العاصي، ورحمته، والسعي لإصلاحه.

الثالث: أن نؤلف قلبه، ونتقرب إليه بما يحب كالهدية.

الرابع: ثم نتفكر ما مرض هذا العاصي؟ .. وما دواء هذا المرض؟.

الخامس: ثم ننظر ماذا نعطيه منه؟ .. وما هو الوقت المناسب لذلك؟.

السادس: أن نعتقد ونجزم أن علاجه مسئوليتنا، فإن تركناه فأين يذهب.

وبذلك يتأثر الناس، وتنزل الهداية على من شاء الله هدايته، ويجعلنا الله سبباً لهداية العالم.

والمسلم إذا أطاع الله، وامتثل أوامره، جاءت عليه مشقة في البداية، ولكنها صغيرة، والسعادة التي تعقبها كالبحر بالنسبة إلى القطرة، والعاقل لا يترك البحر من أجل قطرة.

والنفس تجد اللذة في المعاصي، ولكن هذه اللذة كالقطرة بالنسبة لعذاب يوم القيامة، والعاقل لا يتلذذ بلذة صغيرة عاجلة، ويترك بحر السعادة في الآخرة.

وقد خلق الله الإنسان واستخلفه في هذه الحياة، وهو صائر إلى الله في نهاية المطاف.

وعقد الاستخلاف لهذا الإنسان في الأرض قائم على تلقي الهدى من الله، والتقيد بمنهج الله في الحياة، والإنسان سامع مطيع:

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673) ومسلم برقم (2816) واللفظ له.

ص: 2906

فإما أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله فيسعد في الدنيا والآخرة.

وإما أن يسمع ويطيع لما يمليه عليه الشيطان فيشقى في الدنيا والآخرة.

وليس هناك طريق ثالث.

إما أن يطيع الله

أو يطيع الشيطان .. إما أن يتبع الحق .. أو يتبع الباطل .. وإما أن يسير إلى الجنة .. وإما أن يسير إلى النار.

وبناء على ذلك إما أن يكون من المفلحين، وإما أن يكون من الخاسرين.

كما قال سبحانه: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38،39].

والله عز وجل له الخلق والأمر، يأمر الكائنات أن تطيع من أطاعه، وتهلك من عصاه، كما قال سبحانه:{قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} [هود: 48].

فلما جاء الامتثال والطاعة قال سبحانه للكائنات: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)} [هود: 44].

وقال سبحانه: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26].

فلما جاء الامتثال والطاعة قال سبحانه للكائنات: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)} [سبأ: 10].

وأما الهلاك فكما قال سبحانه عن قوم عاد: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)} [القمر: 18 - 20].

وكما قال عن قوم لوط: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ

ص: 2907

نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)} [القمر: 33،34].

وكما قال سبحانه عن فرعون وجنوده: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)} [الذاريات: 38 - 40].

فمن أطاع الله سخر له المخلوقات فتطيعه وتنفعه وتحفظه، وبحسب الطاعات تصلح وتحسن الأحوال، وتزيد الخيرات، وتكثر البركات.

فنزول الغيث، وصلاح الأولاد، والأرباح، والطمأنينة، كلها مربوطة بطاعة الله كما قال نوح لقومه:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12].

ومن يعص الله تكون المخلوقات ضده، فتسوء حاله، وتكثر مشاكله، ولو كان بين القناطير المقنطرة، والمساكن الواسعة، والمراكب الفاخرة والأولاد:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].

وبحسب كثرة المعاصي تكثر المصائب، فإذا أخذ الإنسان الشيء بالكذب أو السرقة، زادت المصائب عليه بشكل جديد، طلبات متكررة، وحاجات غير لازمة:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 124 - 126].

والطاعات شعبة من شعب الإيمان، والمعاصي شعبة من شعب الكفر، وبالدعوة يأتي الإيمان، وثمرة الإيمان عبادة الله وحده، وطاعة الله ورسوله، وثمرة العبادة والطاعة رضا الله عز وجل ودخول الجنة:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} [الفتح: 17].

ص: 2908

والطاعات نوعان:

طاعات تتعلق بالعبد نفسه، وتكون بالاستقامة على أوامر الله، بفعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات .. وكلاهما مطلوب من العبد.

وطاعات تتعلق بالغير، وتكون بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الناس، والجهاد في سبيل الله .. وكلاهما مطلوب من العبد.

وكل الطاعات مشروعة ومطلوبة، لكن الطاعة المتعلقة بالنفس بالنسبة للطاعة المتعلقة بالغير كالذرة بالنسبة للجبل في الأجر والثواب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئا» أخرجه مسلم (1).

والمسلم إذا وضع جهده وما له ووقته تحت شجرة الطاعة تكبر وتزيد، ويزيد الخير، وإذا وضعه تحت شجرة المعصية تكبر وتزيد، ويزيد الشر.

وقد جعل الله للحصول على الأرزاق طريقين:

طريق الأموال والأسباب .. وطريق الإيمان والأعمال.

فالأول عام، والثاني خاص.

والإنسان في هذه الحياة إما أن يمشي على طريق الشهوات، أو على طريق الأوامر الشرعية، فالأول خاسر، والثاني رابح.

والله عز وجل يؤيد من يمشي على طريق الأوامر الشرعية بالعطاء الغيبي كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

وبالمشي على طريق الشهوات البدن يقوى، وبالمشي على طريق الأحكام

(1) أخرجه مسلم برقم (2674).

ص: 2909

الروح تقوى.

ومن مشي على طريق الشهوات لا يزول قلقه ولا همه حتى يسير على أحكام الله، ولو كان عنده الملك والمال، وسائر الشهوات والملذات كما قال سبحانه:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 123 - 126].

والذي يمشي في طريق الطاعات تفتح له أبواب السعادة في الدنيا، ثم تزداد سعادته وسروره كلما أحدث طاعة .. ثم تزداد سعادته عند الموت حين تبشره الملائكة بالجنة .. ثم تزداد سعادته في القبر، فقبر المؤمن روضة من رياض الجنة .. ثم تزداد سعادته عند البعث والحشر، حيث يبعث آمناً من غضب الله وعقابه .. ثم تزداد سعادته وتبلغ كمالها إذا دخل الجنة، ورأى ربه، وفاز برضاه، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يكرم بذلك.

والذي يمشي في طريق المعاصي تفتح له أبواب الشقاء في الدنيا .. ثم يزداد شقاؤه وألمه كلما أحدث معصية .. ثم يزداد شقاؤه وعذابه عند الموت حين تبشره الملائكة بالنار .. ثم يزداد عذابه وشقاؤه في القبر، فقبر الكافر حفرة من حفر النار .. ثم يزداد شقاؤه عند البعث والحشر، حيث يبعث خائفاً من غضب الله وعقابه .. ثم يزداد شقاؤه وعذابه ويبلغ كماله إذا دخل النار وأعرض عنه ربه، وباء بسخطه وغضبه، نسأل الله السلامة والعافية.

وخاصية النفس تريد المعاصي والشهوات، فهي أمارة بالسوء، وخاصية الروح تريد طاعة الله، فالنفس تحب الشهوات، والروح تحب طاعة الله.

وإذا قويت النفس انقاد الإنسان لها فأوقعته في الشهوات والمحرمات، وإذا قويت الروح انقاد الإنسان لها فحركت جوارحه لطاعة الله ورسوله.

وكل من مشى مستقيماً على طاعة الله فتحت له أبواب الرحمة والبركة، ووجد اللذة والراحة في كل شيء أمر الله به، حتى يجد الراحة الكاملة في الجنة.

ص: 2910

وكل من مشى على طريق الشهوات فهذا في الظاهر كالحلوى، وفي الحقيقة هو عين السم، فتفتح له أبواب الشقاء والمصائب، ولا يزال في البلاء والشدة حتى ينال كمال العذاب في جهنم.

والذي يستعمل جوارحه وأمواله وأوقاته حسب أمر الله، فلا يأكل إلا ما أمر الله بأكله، ولا يلبس إلا ما أمر الله بلبسه، ولا يعبد الله إلا بما شرع، يؤدي الواجبات، ويجتنب المحرمات، ويقيد نفسه بأوامر الله، فهذا إذا جاء يوم القيامة أطلق الله جوارحه في الشهوات والملذات الدائمة، ومَلَّكَه جوارحه، وخَلَّده في النعيم المقيم في الجنة.

ومن استعمل جوارحه وأمواله وأوقاته كيف شاء، فالله يمهله ويتركه يتمتع ويأكل ويلعب، فإذا جاء يوم القيامة قيده الله وأذله وأهانه وخلده في النار:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [محمد: 12].

والله سبحانه إنما يخلي بين العبد والذنب لأجل معنيين:

أحدهما: أن يعرف العبد عزة ربه في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول العذر منه، وفضله في مغفرته.

فهو سبحانه العزيز الذي يقضي بما يشاء، وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه بما شاء، وقلب قلبه، وصرف إرادته على ما يشاء.

وبذلك يعرف العبد أنه مدبر مقهور، ناصيته بيد غيره، لا عصمة له إلا بعصمته، ولا توفيق له إلا بمعونته.

ويشهد أن الكمال والحمد، والغنى والعزة، والقوة والقدرة، كلها لله وحده، ويعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له وقدرته عليه، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه ومقتوه.

وهذا من كمال بره بعبده مع كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه.

فإذا اشتغل العبد بمطالعة هذه المنَّة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم من ربه، أقبل على طاعته، وأقلع عن معصيته.

ص: 2911

البذرة، والبذرة لا بدَّ لها من بيئة حتى تزكو وتثمر، والبيئة هي الأرض والماء والضوء والهواء.

فكذلك رضا الله عز وجل هو الغاية والمقصد من الدين، وذلك لا يكون إلا بطاعة الله ورسوله، وذلك لا يتم إلا بالإيمان بالله، والإيمان لا بدَّ له من بيئة صالحة حتى يثبت ويزكو وينمو ويثمر.

والبيئة هي التي تتمثل فيها الأعمال الصالحة كالعبادة والدعوة، والتعليم والذكر، واتباع السنن النبوية، والأخلاق والآداب الشرعية، وكل ما يرضي الله ورسوله.

فالدرجة الأولى الدعوة .. وبالدعوة يأتي الإيمان .. وبالإيمان تأتي طاعة الله ورسوله .. ثم يأتي رضا الله ورسوله .. ثم يأتي دخول الجنة.

وإذا ترك المسلم الدعوة إلى الله .. ضعف الإيمان .. وإذا ضعف الإيمان قلَّت الطاعات، وكثرت المعاصي .. وإذا جاء الكفر والمعاصي جاء غضب الله .. ثم نزلت عقوبة الله بمن عصاه في الدنيا، وبالنار في الآخرة.

كما قال سبحانه: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34]

والطاعات والمعاصي وكل ما يجري في هذا الكون كله واقع بمشيئة الله وقدره، لكن الطاعات مأمور بها، والمعاصي مكروهة للرب، لكنه لم يأمر بها، لكنه شاء وقوعها، ولو لم يشأ لم تقع.

وقد أخبر الله عز وجل عن قدرته على تبديل من عصاه:

إما بخير منهم كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38].

وأما بأمثالهم كما قال سبحانه: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)} [الواقعة: 60،61].

وإما بغيرهم كما قال سبحانه: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ

ص: 2914

وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: 133].

وكل من انصرف من الناس عن الإيمان والأعمال الصالحة صرف الله قلبه عن القرآن وتدبره والانتفاع به كما قال سبحانه عن المنافقين: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)} [التوبة: 127].

فصرف الله قلوبهم عن القرآن وعن الحق؛ لأنهم ليسوا أهلاً له، والمحل غير صالح ولا قابل.

وإبليس لما عصى ربه، ولم يستجب لأمره، وأبى واستكبر، وأصر على ذلك، عاقبه الله بأن جعله داعياً إلى كل معصية، وهكذا العبد إذا أعرض عن ربه سبحانه، وأصر ولم يتب، جازاه الله بأن يعرض عنه، فلا يمكنه من الإقبال عليه؛ لأنه استمر في طغيانه، وازداد في كفره، فطبع على قلبه، وسد عليه طرق الهداية كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168 - 169].

وأسباب وقوع الإنسان في المعاصي والذنوب:

إما بالغفلة عن الله .. أو بالغفلة عن أوامر الله .. أو بالغفلة عن اليوم الآخر .. أو يعتقد أن الوعيد ليس على ظاهره .. أو يذهل عن التحريم .. أو لا يستحضر عظمة الرب وشدة بأسه .. أو لفرط الشهوة .. بحيث تقهر مقتضى الإيمان وتغمره .. أو يزين له الشيطان المعصية ويغويه .. أو يغلب عليه جانب الرجاء، ونحو ذلك.

والطاعات والمعاصي متفاوتة في درجاتها، ومنافعها ومفاسدها، وثوابها وعقابها.

وأصل المعاصي نوعان:

ترك مأمور .. وفعل محظور.

ص: 2915

وهما الذنبان اللذان ابتلى الله بهما أبوي الجن والإنس، فإبليس ترك المأمور، وآدم فعل المحظور.

وكلاهما ينقسم باعتبار محله إلى ظاهر على الجوارح، وباطن في القلوب.

وينقسم كل منهما باعتبار متعلقه إلى حق الله، وحق لخلقه، وإن كان كل حق لخلقه فهو متضمن لحقه، لكن سمي حقاً للخلق؛ لأنه يجب بمطالبتهم به، ويسقط بإسقاطهم.

والذنوب والمعاصي تنقسم إلى أربعة أقسام:

ملكية .. وشيطانية .. وسبعية .. وبهيمية.

فالذنوب الملكية: أن يتعاطى الإنسان ما لا يصلح له من صفات الربوبية كالعظمة والكبرياء، والقهر والعلو، والجبروت واستعباد الخلق ونحو ذلك، ويدخل في هذا الشرك بالله.

وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب، ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره، وصاحبه قد نازع الله في ربوبيته وملكه، وجعل له نداً.

وهذا أعظم الذنوب عند الله، ولا ينفع معه عمل.

وأما الذنوب الشيطانية: فبالتشبه بالشيطان في الحسد والبغي، والغش والغل، والخداع والمكر، والأمر بمعاصي الله وتحسينها، والنهي عن طاعة الله وتهجينها، والابتداع في الدين ونحو ذلك.

وهذا القسم يلي النوع الأول في المفسدة لكنه دونه.

وأما الذنوب السبعية: فذنوب العدوان والغصب، وسفك الدماء، والتوثب على الضعفاء والعاجزين، وأذى النوع الإنساني، والجرأة على الظلم والعدوان.

وأما الذنوب البهيمية: فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولد الزنا والسرقة، وأكل أموال اليتامى، والبخل والشح، والجبن والهلع والجزع ونحو ذلك.

وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق؛ لعجزهم عن الذنوب السبعية والشيطانية

ص: 2916

والملكية، ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى الملكية بمنازعة الرب، والشرك به في وحدانيته.

وبهذا التفصيل يتبين أن الذنوب دهليز الشرك والكفر.

وفعل المعصية ذنب .. والإصرار عليها ذنب آخر .. والعزم على المعاودة لفعل المعصية ذنب آخر، ولعله أعظم من الذنب الأول بكثير.

وهذا من عقوبة الذنب، فإن الذنب يوجب ذنباً آخر أكبر منه، ويجر إليه، ثم الثاني كذلك، وهكذا حتى يستحكم الهلاك للمذنب.

فالإصرار على المعصية معصية أخرى، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب، مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه إليه.

فإن آمن بنظره إليه، وأقدم على المجاهرة، فذنب عظيم، وإن لم يؤمن بنظره إليه، واطلاعه عليه فكفر، فهو دائر بين الأمرين:

بين قلة الحياء، ومجاهرة نظر الله إليه .. وبين الكفر والانسلاخ من الدين.

أما الفرح بالمعصية فهو دليل على شدة الرغبة فيها، والجهل بقدر من عصاه، والجهل بسوء عاقبتها وعظيم خطرها، ففرحه بها غطى عليه ذلك كله، وفرحه بها أشد ضرراً عليه من مواقعتها.

والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبداً، ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به، ومتى خلى قلبه من هذا الحزن، واشتدت غبطته به، فليتهم إيمانه، وليبك على موت قلبه، فإنه لو كان حياً لأحزنه ارتكاب الذنب، وهذا عين الهلاك والخسران إن لم يتدارك نفسه بالتوبة النصوح.

وقلب الإنسان إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وإذا صلح القلب بالإيمان جاءت التقوى والأعمال الصالحة، وإذا فسد القلب، جاءت المعاصي والسيئات.

ص: 2917

فالقلب إذا فسد فسد السمع والبصر، وإذا فسد السمع والبصر فسد القلب فهما متلازمان.

فإذا أعرض القلب عن سماع الحق وأبغض قائله بحيث لا يحب رؤيته، امتنع وصول الهدى إلى القلب ففسد، وإذا فسد السمع والعقل تبعهما فساد البصر.

والإنسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده كان الحيوان البهيم خيراً منه، لسلامته في المعاد مما يهلكه دون الإنسان الجاهل.

فإذا أتاح الله للعبد فرصة القربة والطاعة فعليه بانتهازها والمبادرة إليها، فالعزائم والهمم سريعة الانتقاض.

والله سبحانه يعاقب من فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكِّنه بعد من إرادته؛ عقوبة له كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24].

وعشق الصور، وحب الفواحش، إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى، المعرضة عنه، المتعلقة بغيره.

فإذا امتلأ قلب العبد من محبة الله تعالى، والشوق إلى لقائه، دفع ذلك عنه حب تلك الصور والفواحش كما قال سبحانه في حق يوسف صلى الله عليه وسلم:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24].

فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، فسلم من السوء والفحشاء.

فالإخلاص هو سبيل الخلاص .. والإسلام مركب السلامة.

والإيمان خاتم الأمان .. والطاعات مركب النجاة .. والمعاصي طرق الهلاك.

والله سبحانه خالق الخير والشر، والشر ليس إليه، وإنما الشر في بعض مخلوقاته، لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه خير كله، ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه.

ص: 2918

فالإنسان إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشر والسوء، والله عز وجل هو الذي جعله فاعلاً، فجعله فاعل خير، والمفعول شر قبيح، فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء في موضعه؛ لما له من الحكمة التي يحمد عليها، فالشر ليس إليه سبحانه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك.

فهو سبحانه القدوس المنزه عن كل شر ونقص وعيب، وهو السلام الذي سلم من العيوب والنقائص، فهو السلام من صفات النقص وأفعال النقص، وأسماء النقص.

وهو الكبير الذي تكبر عن السوء، العزيز الذي برئ من كل سوء وشر وعيب، الحميد الذي له الحمد كله.

والله عز وجل كما جعل الحبوب والثمار تخرج من الزروع والأشجار، كذلك جعل الأعمال تخرج من الزروع والأشجار، كذلك جعل الأعمال تخرج من الإنسان، وهي إما أعمال صالحة أو أعمال سيئة، ولكل عمل ثواب أو عقاب.

والخلق في ذلك أربعة أقسام:

الأول: من خلقه الله لطاعته وجنته، وهم المرسلون وأتباعهم.

الثاني: من خلقه الله لطاعته وناره، وهم المراءون والمنافقون.

الثالث: من خلقه الله لجنته لا لعبادته، وهم من أسلم ثم مات فوراً.

الرابع: من خلقه الله لناره لا لعبادته، وهؤلاء هم المستكبرون عن عبادة الله كإبليس وفرعون وأتباعهما من الكفار والمشركين.

والناس بالنسبة للثواب والعقاب ثلاثة أقسام:

فأهل الإيمان والطاعات في الجنة .. وأهل الكفر والمعاصي في النار .. ومن لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، فهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة .. ومنهم المجنون الذي لا يعقل .. ومنهم الأصم الذي لا يسمع .. ومنهم الخرف الذي لا يعقل .. ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئاً.

فهؤلاء وأمثالهم يكلفون يوم القيامة ويمتحنون، فمن أطاع دخل الجنة،

ص: 2919

وانكشف علم الله فيه، ومن عصى دخل النار، وانكشف علم الله فيه.

والخلق بالنسبة للطاعات والمعاصي أربعة أقسام:

الأول: من لهم طاعات ومعاصٍ، وهم الثقلان: الجن والإنس.

الثاني: من ليس لهم طاعات ولا معاصٍ، وهم غير العاقل من جماد ونبات وحيوان.

الثالث: من لهم طاعات ولا معاصي لهم، وهم الملائكة.

الرابع: من لهم معاصي ولا طاعات لهم، وهم إبليس وذريته.

والله تبارك وتعالى هو العلي العظيم، وهو الغفور الرحيم، وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، وله خزائن السموات والأرض، وهو خالق كل شيء، وهو رب العالمين:{سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} [يونس: 68].

وإن من اتصف بهذه الصفات لحقيق بأن يكون الحب كله له، والتعظيم كله له، والإجلال كله له، والطاعات كلها له.

وأن يذكر فلا ينسى .. ويطاع فلا يعصى .. ويشكر فلا يكفر.

وأهل الطاعة هم المنعم عليهم في الحقيقة، ويجب عليهم من الشكر أضعاف ما على غيرهم، وإن توسدوا التراب، ومضغوا الحصى، فهم أهل النعمة المطلقة.

ومن خلى الله بينه وبين معاصيه .. فقط سقط من عينه، وهان عليه وإن وسع الله عليه في الدنيا، ومد له من أسبابها، فإنهم أهل الابتلاء في الحقيقة:{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 54 - 56].

والطاعة بذاتها فوز عظيم، فهي استقامة على منهج الله، والاستقامة على منهج الله فيه الراحة والطمأنينة.

والاهتداء إلى الصراط المستقيم الواضح سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء

ص: 2920

سواه، فليس الذي يسير في الطريق الممهد المنير، وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون، كالذي يسير في الطريق المظلم ذي الحفر والتعرجات، وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه.

إن طاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها، وهي الفوز العظيم قبل يوم الحساب، وقبل الفوز بالنعيم:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71].

أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة، فضل من الكريم المنان، فضل من كرم الله وفضله بلا مقابل، والله يرزق من يشاء بغير حساب.

ولعله فضلٌ نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه، والتي تعهد بحملها وحده، وهو على ما هو عليه من الضعف، وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان دون المعرفة الكاملة كما قال سبحانه:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].

والله جل جلاله واجب الطاعة، ومن خصائص ألوهيته سبحانه أن يسن الشريعة، وشريعته واجبة التنفيذ؛ لأنها في خلقه وملكه، فعلى الناس كافة أن يطيعوا الله كافة كما أطاعته المخلوقات كافة.

وعلى المؤمنين أن يطيعوا الله ابتداء، وأن يطيعوا الرسول بما له من صفة الرسالة من الله، فطاعته من طاعة الله الذي أرسله بهذه الشريعة كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].

فأما أولو الأمر فهم من المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله.

والله عز وجل يجعل طاعته أصلاً، وطاعة رسوله أصلاً كذلك؛ لأنه مرسل منه، ويجعل طاعة أولي الأمر من المؤمنين تبعاً لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فطاعتهم

ص: 2921

مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع الإيمان.

وهي طاعة في حدود المعروف والمشروع من الله، والذي لم يرد نص بتحريمه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ» متفق عليه (1).

والشريعة التي تطاع، والسنة التي تتبع، واحدة لا تتعدد، ولا يتوه فيها الفرد، وذلك فيما ورد فيه نص صريح.

فأما الذي لم يرد فيه نص .. وأما الذي يعرض من المشكلات والأحوال على مدى الزمان ولا يكون فيه نص قاطع .. أو لا يكون فيه نص على الإطلاق .. مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام .. فإن الله لم يتركه بلا حل، بل جعل له ميزاناً يوزن به .. وهو يرده إلى الله والرسول.

فيرد الأمر والحال إلى النصوص الشرعية، فإن لم توجد النصوص التي تنطبق عليه، فيرده أولو الأمر إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشرعه.

وطاعة الله وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر من المؤمنين القائمين على شريعة الله، ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول، هذه وتلك شرط ومقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.

والمؤمنون حقاً لهم أدب مع الله ورسوله، ولهم قول حسن إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور كما قال سبحانه:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51].

فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال، السمع والطاعة المبنيان على الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم، وما عداه الظلم والهوى النابعان من التسليم المطلق لله العليم بمصالح خلقه، الرحيم بهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7144) واللفظ له، ومسلم برقم (1839).

ص: 2922

وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52].

إن المؤمنين عندهم الطاعة لله ورسوله:

في كل أمر .. وفي كل نهي .. وفي كل حكم .. وفي كل شأن.

وهي طاعة مصحوبة بخشية الله وتقواه، والتقوى أعم من الخشية، فهي مراقبة الله، والشعور به عند الصغيرة والكبيرة، والتحرج من إتيان ما يكره، توقيراً لذاته سبحانه، وإجلالاً له، وحياءً منه، إلى جانب الخوف والخشية.

وذلك أدب رفيع ينبئ عن مدى إشراق قلب المؤمن بنور الله، واتصاله به، وشعوره بهيبته، مما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعلائه، فكل طاعة لا ترتكز على طاعة الله ورسوله ذلة يأباها الكريم، وينفر منها طبع المؤمن:

فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} [البروج: 9].

ص: 2923