المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}

[النساء: 76].

وقال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النحل: 63].

الشيطان عدو للإنسان، فأيما سبيل سلكه الإنسان يمين أو شمال، أمام أو خلف، إلا وجد الشيطان عليه رصداً له.

فإن سلكه في طاعة قطعه أو عاقه .. وإن سلكه في معصية حمله وزينها له: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)} [النساء: 120].

فالشيطان كما أخرج آدم وزوجه من الجنة، يريد أن يفتن ذريته كذلك، ويخرجهم من التوحيد إلى الشرك، ومن الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعات إلى المعاصي، ومن السنن إلى البدع، وبذلك ينقلهم من أعمال الجنة إلى أعمال النار، ويخرجهم من الجنة إلى النار كما أخرج أبويهم وأغراهم بمعصية الله، فليحذر الناس من فتنته كما أمرهم ربهم بقوله:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27].

فالشيطان للإنسان عدو مبين، وقد كشف الله لنا عن هذه العداوة، فهو يريد إضلال بني آدم وإهلاكهم، وقد غرَّ أكثرهم فزين لهم عبادة الأصنام والأوثان والكواكب والأحجار والأشجار وغيرها، وهم في الحقيقة إنما يعبدون الشيطان الذي زينها لهم، وأمرهم بعبادتها: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ

ص: 3206

وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)}

[النساء: 117 - 119].

وكما أن الشيطان عدو للإنسان، فيجب على الإنسان أن يتخذه عدواً، يجاهده ويخالفه، ولا يطيعه أو يغتر به كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 5، 6].

وقد وعد الله عباده المؤمنين على طاعته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، بالمغفرة والرضوان.

أما الشيطان فَوَعْده للناس أن يأمرهم بالشر، ويخوفهم من فعل الخير، وهذان الأمران جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان، فإنه إذا خوف الإنسان من فعل الخير تركه، وإذا أمره بالفحشاء وزينها له ارتكبها:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة: 268].

والشيطان بمكره وكيده وتلبيسه يتلطف في دعوة الناس إلى الباطل، ويأتيهم بصورة ناصح لهم، مشفق عليهم، فيشم قلب ابن آدم لينظر ماذا يحب؟ وماذا يكره؟ .. وماذا يريد؟ .. وماذا يشتهي؟.

فإن رأى في قلبه كسلاً سعى في رده عن الدين بالكلية.

وإن رأى فيه قوة سعى في حمله على مجاوزة الحق، والزيادة على ما شرعه الله ورسوله، ليقع في الظلم والعدوان.

وإن رأى فيه حب الشهوات شغله بالشهوات والزينات عن السنن والواجبات.

والشيطان في كل يوم، بل في كل لحظة، يستفز كثيراً من بني آدم، ويرغبهم ويوقعهم في ألوان الفساد واللهو .. والزنا والسرقة .. والسكر والفواحش .. والظلم وسفك الدماء .. وذلك بالوسوسة والتزيين، والغرور والإغواء .. ولا يزال حتى تم له ما أراد .. واتبعه أكثر الناس كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ

ص: 3207

عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].

ونية الشيطان في الفساد والإضلال عالمية لجميع الناس في كل زمان وفي كل مكان، فلا زال هو وذريته يعد الناس ويمنيهم، ويشاركهم في الأموال والأولاد، ويجتهد عليهم جميعاً ليفسدهم:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83].

ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم وفكره لجميع البشرية كيف يؤمنون بالله، ويعملون بالحق في الدنيا، ويدخلون الجنة في الآخرة.

وفكر الشيطان وجهده على جميع البشرية كيف يكفرون بالله، ويعملون بالباطل في الدنيا، ويدخلون النار في الآخرة:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6].

وقد كاد الشيطان نفسه قبل كيده للأبوين، وكاد ذرية نفسه، وذرية آدم، فكان مشئوماً على نفسه، وعلى ذريته، وعلى أوليائه من الجن والإنس.

أما كيده لنفسه: فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم، كان في امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه، وعزه ونجاته.

فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة أن في سجوده لآدم غضاضة عليه وهضماً لنفسه.

فلما قام بنفسه هذا الهوس، وقارنه الحسد لآدم، لما خصه الله به من أنواع الكرامة دونه، فإن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته.

فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ، ولما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم سجدوا كلهم إلا إبليس أبى وقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)}

[الأعراف: 12].

فعصى الشيطان الرب المعبود، وجمع بين الجهل والظلم، والكبر والحسد، والكفر والمعصية، فطرده الله ولعنه.

ص: 3208

فأهان نفسه من حيث أراد تعظيمها .. ووضعها من حيث أراد رفعتها .. وأذلها من حيث أراد عزها .. وآلمها من حيث أراد لذتها .. وفعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه في مضرته لم يبلغ ذلك منه.

ومن كان هذا غشه لنفسه، فكيف يسمع منه العاقل ويقبل منه ويواليه؟.

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50].

وأما كيده للأبوين (آدم وحواء) فلم يزل يخدعهما ويعدهما ويمنيهما الخلود في الجنة، حتى حلف لهما أنه ناصح لهما، فاطمأنا إلى قوله، وأجاباه إلى ما طلب منهما، فجرى عليهما من المحنة والخروج من الجنة ما جرى، وذلك بمكره وكيده الذي جرى به القلم، وسبق به القدر.

ورد الله سبحانه كيد الشيطان عليه، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها، وعاد عاقبة أمره عليه:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}

[البقرة: 37].

وأما كيد الشيطان لذرية آدم، فلا يزال الشيطان بمكره وكيده يسوق الناس إلى المعاصي والمنكرات والفواحش والآثام:{لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 118 - 119].

ومن كيد الشيطان للإنسان أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}

[آل عمران: 175].

ومن كيده أنه يورد الإنسان الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ومسرته، ثم

ص: 3209

يصدره المصادر التي فيها عطبه، ويتخلى عنه ويسلمه، ويقف يشمت به، ويضحك منه كما فعل بالمشركين يوم بدر كما قال سبحانه:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}

[الأنفال: 48].

ومن كيده أنه يأمر الإنسان ويزين له السرقة والزنا، والقتل والكفر، ثم يتبرأ منه ويسلمه ويشمت به:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)} [الحشر: 16].

ثم يتبرأ الشيطان من جميع أوليائه في النار، ويقول لهم:{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)} [إبراهيم: 22].

فأوردهم كل الموارد، وتبرأ منهم كل البراءة، في وقت لا ينفع فيه الندم.

ومن مكايد الشيطان العظيمة أنه يسحر العقل حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله.

فيزين للعقل الفعل الذي يضره، حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء له، وينفر من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنه يضره.

فسبحان الله كم فتن الشيطان بهذا السحر من إنسان؟.

وكم حال به بين القلب والإسلام والإحسان؟.

وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة حسنة؟، وكم شنَّع على الحق وأخرجه في صورة مستهجنة؟.

فهو الذي سحر العقول وألقى أربابها في الأهواء والبدع، وسلك بهم سبل الضلال، وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ونكاح الأمهات، ووأد البنات، وهو الذي حسَّن الشرك والفسوق والعصيان لآدم وذريته.

فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة .. وصاحب قابيل حين قتل أخاه هابيل .. وصاحب قوم نوح حين أغرقوا .. وصاحب قوم عاد حين أهلكوا بالريح

ص: 3210

العقيم .. وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة .. وصاحب قوم لوط حين قلبت عليهم ديارهم ثم رجموا بالحجارة .. وصاحب فرعون وقومه حين أغرقوا .. وصاحب قريش حين هزموا وهلكوا يوم بدر.

وهو صاحب كل هالك ومفتون إلى يوم القيامة.

ومن كيد الشيطان العجيب أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها، قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الإحجام والمهانة.

فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في إضعاف همته وتثبيطه عن فعل المأمور به، وثقله عليه، ثم يهون عليه تركه حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به.

وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة:

فيقصر بالأول .. ويتجاوز بالثاني .. ليبعد العبد عن سلوك الصراط المستقيم، ويسلك به صراط الجحيم.

فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان:

إما إلى تفريط وتقصير .. وإما إلى مجاوزة وغلو.

ولا يبالي الشيطان بأيهما ظفر، وقد هلك أكثر الناس في هذين الواديين:

وادي التقصير .. ووادي المجاوزة.

وقليل منهم من يثبت على الصراط المستقيم الذي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه.

فقصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم .. وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.

وقصر بقوم حتى منعهم من طلب العلم الذي ينفعهم .. وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.

وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة

ص: 3211

والجماعات، والعلم والجهاد .. وتجاوز بآخرين حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.

وقصر بقوم عن الإتيان بواجبات الطهارة .. وتجاوز بآخرين إلى حد الوسواس، وقصر بقوم عن إخراج الزكاة .. وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا جميع ما يملكون، وصاروا كلاً على الناس.

وقصر بقوم عن تناول ما يحتاجون من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم .. وتجاوز بآخرين حتى أخذوا فوق حاجتهم فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.

وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح شاة ليأكلوها .. وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على سفك دماء الأنفس المعصومة.

وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم .. وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.

وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في النكاح فرغبوا عنه بالكلية .. وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا الزنا والفواحش وما قدروا عليه من الحرام.

وقصر بقوم حتى جفوا العلماء والشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم .. وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.

وقصر بقوم حتى منعهم من قبول أقوال أهل العلم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه، والحرام ما حرموه.

وقصر بقوم حتى قالوا إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل .. وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا الناس من الإسلام بالكبيرة الواحدة.

وقصر بقوم حتى عادَوْا أهل بيت رسول الله وقاتلوهم واستحلوا دماءهم .. وتجاوز بآخرين حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة، وربما ادعوا فيهم الإلهية.

وقصر باليهود حتى كذبوا المسيح، ورموه وأمه بما برأهما الله منه .. وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلهاً يعبد مع الله.

ص: 3212

وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب، ولم يلتفتوا إليها، وعدوها فضلاً .. وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعلمهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح.

فلا إله إلا الله كم فتن الشيطان بهذا الكيد والمكر من خلق الله؟.

ومن مكائد الشيطان أنه يأمر الغني وصاحب الجاه أن يلقوا المساكين والضعفاء وذوي الحاجات بوجه عبوس؛ لئلا يطمعوا فيهم، ويتجرؤوا عليهم، وتسقط هيبتهم من قلوبهم، فيحرمهم بذلك من محبتهم وصالح أدعيتهم.

ومن كيده أنه يغري الناس بتقبيل يد العالم أو الزاهد، والتمسح به، والثناء عليه، وسؤاله الدعاء، حتى يرى نفسه ويعجبه شأنها، فيفرح بذلك ويقع في قلبه حتى يظنه حقاً، وذلك الهلاك كله، وهو شر من أرباب الكبائر.

ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم من السنة إلى البدعة، وخيل لبعضهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره.

فجمع لهم بكيده العظيم ومكره الخبيث بين هذا الظن الفاسد .. والتعب الحاضر .. وبطلان الأجر أو نقصه.

ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس ما أوحاه إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثاناً، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت الصور أجساماً لها ظل، ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله تعالى.

يطاف عليها .. ويسجد لها .. ويصلى عندها .. وتسكب عندها العبرات .. وتشكى إليها الحاجات .. وتحلق عندها الرؤوس .. وتذبح القرابين .. ويسأل الميت فيها قضاء الحاجات .. وتفريج الكربات .. وإقالة العثرات .. وتشد إليها الرحال من جميع الجهات.

ص: 3213

فلله كم اغتال الشيطان من بني آدم، وزين لهم ما كانوا يعملون؟.

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76].

ومن أعظم مكايده ما نصبه للناس ليعبدوه من دون الله من شجر أو حجر أو عين أو قبر أو غير ذلك، والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله بعلمه، فالأزلام للعلم، والأنصاب للعمل.

فلا إله إلا الله كم خدع الشيطان بهذا العمل من البشر، وأنساهم العهد والميثاق؟.

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62].

ومن أعظم كيد الشيطان ومكره أنه ينصب لأهل الشرك قبراً معظماً يعظمه الناس، ثم يجعله وثناً يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيداً فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته وتكفيره.

فسبحان الله كم شيد الشيطان من القبور التي تعبد من دون الله في العالم؟.

وكم غرَّ الشيطان بها كثيراً من الناس حتى عبدوه من دون الله من خلالها؟.

فوا أسفاه على النفوس والعقول التي انقادت لعدوها، وعبدته من دون الله:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}

[الأنعام: 71].

ومن مكايد عدو الله ومصايده ما كاد به من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد به قلوب الجاهلين والمبطلين من سماع المكاء والتصدية، والغناء والعزف على الآلات المحرمة، الذي يصد به القلوب عن القرآن، ويجعلها

ص: 3214

عاكفة على الفسوق والعصيان.

وسماع الغناء والعزف من الرجال محرم، أما سماعه من المرأة الأجنبية فهو أشد حرمة، وأعظم فتنة:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}

[لقمان: 6، 7].

ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله.

الحيل .. والمكر .. والخداع .. الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، وإسقاط ما فرضه الله، ومضادته في أمره ونهيه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} [البقرة: 8 - 10].

ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور، تلك البلية العظمى التي استعبدت القلوب لغير خالقها، وملكت القلوب لمن يسومها سوء العذاب من عشاقها، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد.

فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها ومولاها، ومحبة الصور المحرمة من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص، كانت محبته بعشق الصور أشد.

فما أعظم تلاعب الشيطان بأكثر الخلق؟.

وما أشد فتنته حيث أخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب.

ومن أعظم مكايده ومصائده ما كاد به المشركين في عبادة الأصنام، وتلاعب بكل قوم على قدر عقولهم.

فطائفة دعاهم إلى عبادة الأصنام من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما فعل بقوم نوح، فأطاعوه وعبدوها إما جهلاً، وإما عناداً لأهل التوحيد.

ص: 3215

فمنهم عباد الشمس .. وعباد القمر .. وعباد البقر .. وعباد الحجر .. وعباد الماء .. وعباد النبات .. وعباد النار .. وعباد النور .. وعباد الظلام.

اتخذوا لها أصناماً يصلون عندها، ويطوفون بها، ويسألونها الحاجات .. ويقرِّبون لها القرابين، ويقضون عندها الأوقات، ويشدون إليها الرحال.

وزين لهم الشيطان وأوقع في نفوسهم أن هذه الأصنام تدبر أمر العالم العلوي والسفلي، تدخل فيها الشياطين وتكلمهم وتخبرهم ببعض المغيبات، وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يرون الشياطين، فيظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم.

فإذا سمع العابد الخطاب والكلام من الصنم اتخذه إلهاً من دون الله.

وأضل الشيطان بمكره وكيده وتلاعبه ببني آدم أكثر أهل الأرض، فهم مفتونون بعبادة الشيطان عن طريق الأصنام والأوثان، ولم يتخلص منهم إلا الحنفاء الموحدون، كما قال سبحانه:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42].

والأمم التي أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان.

وأصل عبادة الأوثان والأصنام تشبيه المخلوق بالخالق في الإلهية حتى عبدوه من دون الله، وجعلوه نداً وعدلاً لله، يعبدونه ويسألونه كما يسألون الله جل جلاله، وزين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم من دون الله، ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم، ولكن كانت للشياطين الذين أمروهم وزينوا لهم.

فعبدوا أقبح خلق الله، وأحقهم باللعنة والطرد والذم وهم الشياطين:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40، 41].

فسبحان الله ما أعظم غفلة العباد، وما أشد مكر الشيطان وكيده حتى جعل طوائف من بني آدم تعبد الأحياء والأموات .. والأنبياء والملائكة .. والإنس والجن .. والنبات والحيوان .. والنور والنار .. والجبال والتراب .. والكواكب

ص: 3216

والنجوم .. والمياه والفروج: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36، 37].

فما أخطر كيد الشيطان للإنسان .. فكم أضل من العباد؟

وكم أفسد من الأفراد والأمم والشعوب؟.

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النحل: 63].

واه لعبدة الأصنام والأوثان .. ماذا تعبدون من دون الله؟ .. وماذا تملك لكم هذه الأصنام والأوثان: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}

[العنكبوت: 17].

وعبّاد الأصنام والأوثان وإن تآلفوا وتحابوا عليها في الدنيا، فهم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ كل من العابد والمعبود من الآخر كما قال سبحانه:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)} [العنكبوت: 25].

ومن كيد الشيطان للإنسان دفعه إلى إظهار كماله، وعدم الاعتراف بتقصيره، كي يسد عليه طريق الاستغفار والاستعاذة، مثيراً فيه أنانية النفس لتدافع عن ذاتها، فلا تستغفر الله ولا تستعيذ به، فتكون أضحوكة للشيطان.

ومن اتهم نفسه رأى عيوبها وتقصيرها .. ومن اعترف بتقصير نفسه استغفر ربه: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}

[يوسف: 53].

ومن مكايده أنه يحجب بسيئة واحدة للمؤمن جميع حسناته، وبذلك تفسد الحياة، فإن الإنسان ينسى بتلقين الشيطان، وبما يكمن في جبلته من الظلم مئات من حسنات أخيه المؤمن؛ لأجل سيئة واحدة بدرت منه جهلاً أو نسياناً، فيبدأ

ص: 3217

بمعاداته، ويدخل في الآثام.

ومن مكايد الشيطان للناس أنه في أعمال الشر والفساد يزين للناس الصبر ويجعله حلواً، وفي أعمال الخير والإصلاح والدعوة والعبادة يجعل الصبر صعباً مراً.

ومن مكايده لابن آدم الحزن؛ لأن الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن كما قال سبحانه:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} [المجادلة: 10].

فالحزن مرض من أمراض القلب، يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، وثواب الصبر عليه كثواب المصائب التي يُبتلى بها العبد بغير اختياره كالمرض، والألم ونحوهما.

ومن مكايده أنه يريد من الإنسان الإسراف والتبذير في أموره كلها.

فإن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر، واللين والرحمة، ما يأمره به الله ورسوله.

ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله.

وبالإسراف والتبذير تحصل للعبد عقوبتان:

الأولى: أن الله لا يحبه؛ لأنه مسرف كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31].

الثانية: أنه يصير أخاً للشيطان كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء: 27].

هذه أعظم مكايد الشيطان وشروره في الدنيا، وفساده الذي أوقعه وما يزال يوقعه ببني آدم في الدنيا.

أما في الآخرة فالأمر أعظم وأشد، فإن الشيطان إذا قضي الأمر، ودخل أهل

ص: 3218

الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، وقف خطيباً في أهل النار، متبرئاً منهم، قائلاً لهم: إن الله وعدكم وعد الحق على ألسنة رسله فلم تطيعوه، فلو أطعتموه لأدركتم الفوز العظيم، ووعدتكم الخير كذباً، فلن يحصل لكم ما مَنَّيتكم به من الأماني الباطلة.

وما كان لي عليكم من سلطان وحجة حين دعوتكم إلى مرادي، وزينته لكم فاستجبتم لي اتباعاً لأهوائكم وشهواتكم.

فإذا كان الأمر بهذه الصورة فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب الذي وصلتم إليه.

وما أنا بمصرخكم ومغيثكم من العذاب والشدة التي أنتم فيها، وما أنتم بمصرخيّ ولا نافعيّ، فكل له قسط من العذاب.

وأنا الآن كفرت بما أشركتموني من قبل، وتبرأت من جعلكم لي شريكاً مع الله، فلست شريكاً لله، ولا تجب طاعتي.

وقد وصلت وإياكم إلى ما يعاقب به كل ظالم في نار الجحيم، والظالمون لأنفسهم بطاعة الشيطان لهم عذاب أليم، وهم فيه خالدون أبداً .. فيا لها من عقوبة .. وما أشدها من حسرة .. إذا سمعها أولياء الشيطان منه في سواء الجحيم كما قال سبحانه:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)} [إبراهيم: 22].

والمؤمن الذي نوَّر الله بصيرته بنور الإيمان والتوحيد لا يسلَّط عليه الشيطان، وكلما قرب منه أحرقه نور الإيمان والتوحيد.

أما أصحاب الأحوال الشيطانية فيحسبهم الجاهل أولياء الرحمن، وإنما هم من أولياء الشيطان الذين أطاعوه في الشرك، ومعصية الله، والخروج عما بعث به

ص: 3219

رسله، وأنزل به كتبه، فأطاعهم في أن خدمهم بإخبارهم ببعض المغيبات، واغتر بهم مَنْ قَلَّ حظه من العلم والإيمان فوالى أعداء الله، وعادى أولياءه، وحَسَّن الظن بمن خرج عن سبيل الله وسنته، وأساء الظن بمن اتبع سنة الرسول وما جاء به.

فما أعظم تلاعب الشيطان بالمشركين حتى عبدوه وأطاعوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله، وسيجزي الله الشيطان وأتباعه بنار جهنم كما قال سبحانه:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} [الأنعام: 128].

فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته له على أسباب فسوقه من الشهوات المحرمة، والشيطان يستمتع به في قبوله منه وطاعته له، فيسره ذلك، ويفرح به منه.

والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به، وعبادته له، ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه وإعانته له.

وجزاء هذا الاستمتاع المحرم الخلود في نار جهنم، فإنه وإن انقضى زمن التمتع، فقد بقي زمن العقوبة على ذلك.

ص: 3220

5 -

إفساد الشيطان لأهل الأديان

قال الله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83].

وقال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} [النحل: 63، 64].

الشيطان عدو مبين لجميع بني آدم، فهو يغريهم ويزين لهم كل ما يضرهم ويشقيهم في دنياهم وأخراهم، ولحسده وبغضه لهم فهو يريد أن يجرهم جميعاً معه إلى النار على مستوى:

الأفراد .. والأسر .. والمجتمعات .. والشعوب .. والأمم .. والقرون.

وقد حذر الله بني آدم من اتباعه وطاعته، ولكن أكثرهم اتبعوه وأطاعوه بما زين لهم من سبل الباطل، ومراكب الشهوات والشبهات، وأضل منهم جِبلاً كثيراً، وأرداهم إلى النار كفاراً فجاراً.

فما أعظم خسارة البشرية بمعصية الرحمن، وطاعة الشيطان؟

وما أعظم غفلتهم حيث لا يتعظ اللاحق بالسابق، ولا الحاضر بالماضي؟.

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62].

فلا بدَّ للإنسان من معرفة كيد الشيطان ومكره ليتقي شره، ويسلم من مكره وكيده، ويحذر من طاعته وتزيينه.

فمن مكر الشيطان وكيده ما زينه للمشركين من عبادة الأنوار والنيران التي يوقدونها ويعبدونها من دون الله وهم المجوس.

ومن مكره وكيده تلاعبه بالصابئة، وهم أمة كبيرة من الأمم الكبار، وهؤلاء كانوا

ص: 3221

قوم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم وأهل دعوته، وهم بِحَرَّان، وهم قسمان:

صابئة حنفاء .. وصابئة مشركون.

والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة، زين لهم الشيطان فبنوا لها هياكل مخصوصة، وهي المتعبدات الكبار كالكنائس للنصارى، والبيع لليهود.

فلهم هيكل للشمس .. وهيكل للقمر .. وهيكل للزهرة .. إلخ.

صوروها واتخذوا لها أصناماً تخصها يعبدونها، ويقرِّبون لها القرابين.

وأصل مذهب الصابئة: أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم، فالحنفاء منهم شاركوا أهل الإسلام في الحنيفية، والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام،

وسوف يجزي الله الجميع ويسألهم عما عملوا كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)} [الحج: 17].

والصابئة مُقِرُّون بأن للعالم خالقاً حكيماً مقدساً عن العيوب والنقائص، فالموحدون منهم عبدوه، والمشركون قالوا لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط، وهي الكواكب التي جعلوا لها هياكل في الأرض.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [البقرة: 62].

ومن مكر الشيطان وكيده تلاعبه بالدهرية الذين زين لهم الشيطان فقالوا إن العالم دائم لم يزل ولا يزال لا يتغير: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].

وقالوا هذا العالم هو الممسك للأجزاء التي فيه، وجحدوا النبوات.

فداء التعطيل .. وداء الشرك .. وداء جحد النبوات .. وداء مخالفة الرسل .. أصل كل بلاء في العالم .. ومنبع كل شر .. وأساس كل باطل .. وقد سَرَت هذه الأدواء

ص: 3222

في قرون البشرية إلا من رحم الله.

ومن مكر الشيطان وكيده: تلاعبه باليهود حيث دعاهم إلى الشرك في حياة نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: {يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} [الأعراف: 138].

فأي جهل فوق هذا؟ لذا قال لهم: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)}

[الأعراف: 139 - 140].

لقد طلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلهاً مخلوقاً فما أسفه عقولهم؟ وكيف يكون الإله مجعولاً؟.

فإن الإله الحق هو الجاعل والخالق لكل ما سواه، والمجعول مربوب مخلوق فيستحيل أن يكون إلهاً.

ومن تلاعبه بهم أن زين لهم عبادة العجل من دون الله تعالى، وقد شاهدوا ما حل بالمشركين والكفار من العقوبة، وشاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه، ويصليه بالنار، ويدقه بالمطرقة، فأي سفه للعقول فوق هذا؟.

ومن عجيب أمرهم أنهم لم يكتفوا بجعله إلههم، حتى جعلوه إله موسى، فنسبوا موسى رسول الله إلى الشرك وعبادة غير الله، بل عبادة أبلد الحيوانات وهو العجل، وجعلوه إله كليم الرحمن.

بل حتى جعلوا موسى صلى الله عليه وسلم ضالاً مخطئاً إلهه، ذهب يطلبه وإلهه هاهنا، وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم كما قالوا لموسى:{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)} [طه: 87 - 89].

فتعلقوا به، وأحبوه أشد الحب، وأشربوا في قلوبهم العجل: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا

ص: 3223

لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)} [طه: 90، 91].

ومن تلاعب الشيطان باليهود أن زين لهم حتى قالوا لنبيهم موسى (: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} [البقرة: 55].

وزين لهم أن واجهوا نبيهم لما دعاهم إلى القتال بأشنع الكلام حيث: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: 24].

ومرة يعرض عليهم العمل بالتوراة فيمتنعون من ذلك حتى نتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}

[البقرة: 63، 64].

ومرة يقال لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)}

[الأعراف: 161].

فأزلهم الشيطان لأشنع القول والعمل فقالوا مستهزئين بأمر الله: حنطة في شعيرة، ودخلوا من قِبَل أستاهم، فبدلوا القول والفعل، فماذا فعل الله بهم:

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}

[الأعراف: 162].

ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم كانوا في البرية قد ظلَّل الله عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وزهدوا في أحسن الأطعمة وأشرفها، واستهانوا بأوامر الله ونعمه، فجازاهم الله من جنس عملهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة كما قال سبحانه:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61].

ص: 3224

ومن تلاعبه بهم أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفَرَقَ بهم البحر، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم وآواهم، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، ثم أمرهم بدخول القرية التي كتب الله لهم، وبشرهم بها، فأبوا طاعته، وامتثال أمره.

وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: 24].

فسبحان من عَظُم حلمه .. حيث يُقابل أمره بمثل هذه المقابلة .. ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب .. وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة .. بل وَسِعهم حلمه وكرمه فظللهم بالغمام .. وأنزل عليهم المن والسلوى من السماء.

ومن تلاعب الشيطان بهم أن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها، فتعنتوا وأكثروا الأسئلة عن البقرة، فشددوا فشدد الله عليهم، وقالوا لموسى:{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)} [البقرة: 67].

وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله، فإنها لما تعينت لهم توقفوا في الامتثال وما كادوا يفعلون.

ومن أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71].

ومن تلاعب الشيطان بهم أن زين لهم استحلال محارم الله بأدنى الحيل، وتلاعبوا بدينه، وخادعوه، ومسخوا دينه بالاحتيال، فمسخهم الله قردة وخنازير على استحلالهم محارم الله كما قال سبحانه:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}

[الأعراف: 166].

ومن تلاعب الشيطان بهم، أنهم لما حُرمت عليهم الشحوم بسبب عدوانهم ومعاصيهم جَمَلُوها وأذابوها، ثم باعوها وأكلوا ثمنها.

ومن تلاعبه بهم أن أمرهم وزين لهم اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.

ومن أعظم مكر الشيطان بهم وكيده لهم أن زين لهم قتل الأنبياء الذين لا تنال

ص: 3225

الهداية إلا على أيديهم، وزين لهم المعاصي التي توجب غضب الله ولعنته:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61].

ومن تلاعبه بهم أن زين لهم قتل الأنبياء والاستهزاء بهم، ورد ما جاءوا به، وأمرهم باتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله كما قال سبحانه:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].

فحرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فأطاعوهم وتلك عبادتهم إياهم.

وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان أن يقتل أو يقاتل من هداه الله على يديه، ويتخذ من لم تُضمن له عصمته نداً لله، يُّحرم عليه ويحلل له حسب هواه، كما قال سبحانه:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)} [آل عمران: 112].

ومن تلاعب الشيطان باليهود ما كان منهم في شأن زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام حتى قتلوهما، ثم سلط الله عليهم من يعاقبهم.

ومن مكر الشيطان وكيده وتلاعبه باليهود ما كان منهم في شأن المسيح (، ورميه وأمه بالعظائم، وهم يعلمون أنه رسول الله، فكفروا به بغياً وعناداً، وراموا قتله وصلبه، فصانه الله تعالى من ذلك، ورفعه إليه، وطهره منهم، فأوقعوا القتل والصلب على شبهه، وهم يظنون أنه هو.

فبئس القوم الذين يقتلون أنبياء الله، ويفتخرون بقتل رسله:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} [النساء: 157، 158].

ص: 3226

ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سفال ونقص وذلة، إلى أن قطعهم الله في الأرض أمماً، ومزقهم كل ممزق، وسلبهم عزهم وملكهم، فلم يقم لهم مُلك بعد ذلك، إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا به وكذبوه وحاربوه وقاتلوه.

فأتم الله عليهم غضبه، ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذلاً وصغاراً لا يُرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح بن مريم من السماء فيستأصل شأفتهم، ويطهر الأرض منهم، ومن عباد الصليب:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}

[البقرة: 90].

فالغضب الأول من الله بسبب كفرهم بالمسيح (، والغضب الثاني بسبب كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يزعمون أن الأحبار والرهبان إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالاً، وإذا حرموه صار حراماً، وإن كان نص التوراة بخلافه.

وحجروا على الرب سبحانه أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم، كما تكبر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغض منه، ثم رضي أن يكون قواداً لكل عاص وفاسق.

وكما أبى عباد الأصنام أن يكون المرسل إليهم بشراً، ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجراً.

وكما نزهت النصارى بطارقتهم وأساقفتهم عن الصاحبة والولد، ولم يتحاشوا أن ينسبوا إلى الله الصاحبة والولد، وهو سبحانه الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)}

[الجن: 3].

ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم إذا رأوا الأمر أو النهي شاقاً عليهم طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل.

فإن أعيتهم الحيل قالوا: هذا كان علينا لمَّا كان الملك والرياسة.

ص: 3227

ولما سلب الله اليهود ملكهم وعزهم، وأذلهم بسبب كفرهم ومعاصيهم، وقطعهم في الأرض أمماً، انتقلوا من التدبير والإفساد بالقدرة والسلطان، إلى التدبير والإفساد بالمكر والدهاء، والخيانة والخداع.

ومن تلاعب الشيطان بهم أن جعلهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي يزعمون أنه إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به.

وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال، فهم أكثر أتباعه، وإلا فمسيح الهدى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم يقتلهم ولا يبقي منهم أحداً.

والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى بن مريم من السماء، الذي يكسر الصليب .. ويقتل الخنزير .. ويقتل أعداءه من اليهود .. وعُبّاده من النصارى .. ويضع الجزية .. ويدعو إلى الإسلام.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» متفق عليه (1).

ومن تلاعب الشيطان بهم أن نسبوا إلى الله ما لا يليق به فقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181].

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64].

وقالوا إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم تعب فاستراح في اليوم السابع فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3448)، واللفظ له، ومسلم برقم (155).

ص: 3228

أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 38].

سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.

ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يرمون أنبياء الله ورسله بالقبائح، ويقدحون في نبوتهم، ويؤذونهم ويقتلونهم، وقد آذوا نبيهم موسى إلى ما برأه الله منه كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب: 69].

ومن قدحهم في الأنبياء، وكذبهم على الله، ما تقشعر له الأبدان، فقد اتهموا عيسى بن مريم بأنه ساحر .. وأنه ولد بغية .. ونسبوا أمه إلى الفجور .. ونسبوا لوطاً إلى أنه وطئ ابنتيه وأولادهما وهو سكران من الخمر .. ونسبوا يوسف صلى الله عليه وسلم إلى أنه حل تكة سراويله .. وتكة سراويل سيدته .. وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته.

ومنهم من يزعم أن عيسى كان من العلماء يداوي المرضى بالأدوية.

ويزعمون أن المسلمين أولاد زنا .. وأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم متلقاة من أحبار اليهود.

وهذا وأمثاله ليس بمستنكر من أمة قدحت في معبودها وإلهها، ونسبته إلى ما لا يليق بعظمته وجلاله، ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم، ورمتهم بالعظائم والسوءات، أن ينسبوا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.

وعدواتهم له، ومحاربتهم إياه، وتكذيبهم له، وكيدهم له، كل ذلك أشهر من أن يذكر، وذلك لما تحمله قلوبهم من الكفر والحسد.

وقد خلق الله لكل باطل وبُهت حملة .. كما خلق للحق حملة .. وليس وراء بُهت اليهود بُهت: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}

[المائدة: 13].

ص: 3229

ثم استمر الأمر على عهد موسى كليم الرحمن على التوحيد، إلى أن توفي موسى صلى الله عليه وسلم، ودخل الداخل على بني إسرائيل، وأقبلوا على علوم الكفار، وقدموها على نصوص التوراة.

فسلط الله عليهم من أزال ملكهم، وشردهم من أوطانهم، ومزقهم كل ممزق، وتلك سنة الله في عباده إذا أعرضوا عن الوحي، وتعوضوا عنه بكلام الكفار والملاحدة:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44].

وكذلك النصارى لما أعرضوا عن دين الله سلط الله بعضهم على بعض، كما قال سبحانه:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14].

وكما سلط الله النصارى على بلاد العرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغل المسلمون بذلك، وهجروا كتاب ربهم، فاستولت النصارى على بلادهم، وأصاروهم رعية لهم.

وكذلك لما ظهر هذا الأمر ببلاد المشرق سلط الله عليهم عساكر التتار فأبادوا أكثر أهلها، واستولوا عليها، وأهانوا أهلها.

وكذلك في المائة الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الباطل والإلحاد سلط الله عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على حجاج بيت الله، واستعرضوهم قتلاً وأسراً، واشتدت شوكتهم، واستقر ملكهم في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها.

فهذا الداء لما دخل في بني إسرائيل كان سبباً في دمارهم، وزوال ملكهم.

فلنحذر من هذا الشر لئلا يصيبنا ما أصابهم، ويحل بنا ما حل بهم.

ثم بعث الله سبحانه بعد موسى (عبده ورسوله وكلمته المسيح عيسى بن مريم (فجدد لهم الدين، وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده لا

ص: 3230

شريك له، والبراءة من تلك الأحداث والآراء الباطلة.

فعادوه .. وكذبوه .. ورموه وأمه بالعظائم .. وراموا قتله .. فطهره الله منهم .. ورفعه إليه.

وأقام الله للمسيح أنصاراً دعوا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته، واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة.

ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير حتى تناسخ واضمحل، ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء، بل ركّبوا ديناً بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام.

هذا ومعهم بقايا من دين المسيح كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم بنصها.

ولما أخذ دين المسيح في التغيير والتحريف والتبديل، وظهر الفساد، وعم البلاء، اجتمعت النصارى عدة اجتماعات في أزمنة مختلفة، ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعن، وقول الزور والباطل.

فمرة قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم .. ومرة قالوا: إن الله ثالث ثلاثة .. ومرة قالوا المسيح ابن الله، إله حق من إله حق .. ومرة قالوا: الإله واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد.

وهم في ذلك حيارى، تائهون، ضالون، مضلون.

لا يثبت لهم قدم .. ولا يستقر لهم قول في إلههم .. بل كل منهم قد اتخذ ألهه هواه، وصرح بالكفر والتبري ممن اتبع سواه.

قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].

وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ

ص: 3231

أَلِيمٌ (73)}

[المائدة: 73].

وقال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}

[المائدة: 77].

فانظر كيف أوصل الشيطان هذه الأمة الضالة إلى الكفر والشرك والضلال والكذب: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)} [المائدة: 74، 75].

ولقد ارتكبت النصارى محذورين عظيمين:

أحدهما: الغلو في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق، وجزءاً منه، وإلهاً آخر معه، وأنفوا أن يكون عبداً له.

الثاني: تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم، وأنه نزل من كرسيه ودخل في فرج امرأة، ثم خرج من حيث دخل، رضيعاً يمص الثدي، ويبكي ويجوع، ويأكل ويشرب، ويبول ويتغوط.

ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصلبوه جهراً، وسمَّروا يديه ورجليه، وجرَّعوه أعظم الآلام، وهو الإله الحق المعبود المسجود له.

فسبحان الله .. ما أعظم هذا البهتان والكذب والافتراء على الله ورسله؟.

ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، وبهتان عظيم:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 90 - 95].

ص: 3232

فما أشنع هذا الكلام الذي نسبوا فيه الإله الحق إلى ما يأنف أسقط الناس أن يفعله بعبده؟.

وكذبوا على الله عز وجل في كونه تاب على آدم وغفر له خطيئته، ونسبوه إلى أقبح الظلم، حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه في نار الجحيم بسبب خطيئة أبيهم آدم.

ونسبوه إلى غاية السفه حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه، حتى قتلوه وصلبوه وأراقوا دمه، ونسبوه إلى غاية العجز، حيث عجز أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحيلة.

ونسبوه إلى غاية النقص، حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا.

فسبحان الله كم أضل الشيطان من الأمم عن دينها بمثل هذا؟.

وهل يقول بهذا عاقل سوي؟.

إنه لا يُعلم أمة من الأمم سَبَّت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة، فهم عار على بني آدم، مفسدون للعقول والشرائع:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].

وأما شريعة النصارى ودينهم فقد تلاعب بهم الشيطان، فليسوا متمسكين بشيء من شريعة المسيح صلى الله عليه وسلم ولا دينه البتة:

فابتدعوا .. وحرفوا .. وبدلوا .. وكتموا .. وضلوا .. وأضلوا .. وضلوا عن سواء السبيل: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}

[النحل: 63].

فابتدعوا الصلاة إلى المشرق مطلع الشمس مع علمهم أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلاً، بل كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس وهي قبلة الأنبياء قبله.

ومن كيد الشيطان ومكره بهم أن طوائف منهم وهم الروم وغيرهم لا يرون الاستنجاء بالماء، فيبول أحدهم ويتغوط، ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة الكريهة.

ص: 3233

فيستقبل المشرق، ويصلب على وجهه، ويحدث من يليه بأنواع الحديث كذباً كان أو فجوراً، ويخبره بسعر الخمر والخنزير ونحو ذلك، ولا يضر ذلك صلاته ولا يبطلها.

ومواجهة رب العالمين بهذه العبادة قبيح جداً، وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقرب منه إلى رضاه وثوابه.

ومن تلاعب الشيطان بهم ما ابتدعوه من تعظيم الصليب بعد المسيح بزمان، ولا ذِكْر له في الإنجيل، وإنما ذُكِر في التوراة باللعن لمن تعلق به.

فزين الشيطان لهذه الأمة الضالة، فاتخذته معبوداً يسجدون له، ويحلفون به.

ولو كان لهم أدنى مسكة من عقل، لكان ينبغي لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم وإلههم حين صلب عليه، وأن يحرقوه حيث وجدوه، ويكسروه ويضمخوه بالنجاسة، فإنه صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه وفضح، هذا لو صح زعمهم أن المسيح صلب وأنى يصح وقد أعلن الله نجاته وسلامته ورفعه إليه:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} [النساء: 157، 158].

فبأي وجه يستحق الصليب هذا التعظيم منهم، لولا أن القوم أضل من الأنعام؟.

وإن كانوا يقصدون بتعظيمه التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم، وإغراءهم بهم فقد حصل لهم ما هو أعظم من ذلك، فقد نفروا به الأمم عن النصرانية، وعن المسيح ودينه أعظم تنفير.

وكأنهم إنما عظموه لأنه ثبت لصلب إلههم، ولم ينشق ولم ينكسر من هيبته لما حمل عليه.

ألا ما أقبح الجهل والسفه، وما أشد ضلال وجرم أولئك؟.

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا

ص: 3234

كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14].

فأي إله هذا الذي يصلب ويبصق في وجهه؟.

وأي صليب يُعظَّم ويُذْكَر، وهو مكان الخزي والعار الذي صلب عليه الإله؟.

{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46].

ومن مكر الشيطان وتلاعبه بهم أن زين لهم صياماً لم يأت به المسيح كالصوم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم، فلهم صيام الحواريين، وصيام لمريم، وصيام للميلاد، وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح، وإلا فالمسيح يعلمون أنه كان يأكل اللحم، ولم يمنعهم منه في صوم ولا فطر.

وأكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع.

فسبحان الله .. كم تلاعب الشيطان بهذه الأمة الضالة كل التلاعب؟.

وكم دعاهم فأجابوه؟ .. وكم استخفهم فأطاعوه؟.

فتلاعب بهم في شأن المعبود جل جلاله حتى قالوا فيه ما لم يقله أحد من العالمين.

وتلاعب بهم الشيطان في أمر المسيح .. وتلاعب بهم في أمه مريم .. وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته .. وتلاعب بهم في تصوير الصور في الكنائس وعبادتها .. فلا تكاد تجد كنيسة من كنائس النصارى إلا وفيها صورة مريم، وصورة المسيح مصلوباً، وصورة جرجس وبطرس وغيرهم .. وأكثرهم يسجدون للصور، ويدعونها من دون الله تعالى.

ومن تلاعب الشيطان بهم في أعيادهم أنهم ابتدعوا أعياداً موضوعة مختلقة كعيد ميكائيل، وعيد الصليب، وعيد الفصح، وعيد الميلاد وغيرها.

وأما تلاعب الشيطان بهم في صلاتهم:

فصلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة، والمسيح بريء من هذه الصلاة، والله سبحانه أجل وأعلى من أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة.

ومنها صلاتهم إلى المشرق، وتصليبهم على وجوههم في الصلاة، والمسيح

ص: 3235

بريء من كل ذلك، فصلاة مفتاحها النجاسة .. وتحريمها التصليب على الوجه .. وقبلتها المشرق .. وشعارها الشرك .. كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع البتة؟.

ولما علمت الرهبان والأساقفة أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة، شيدوه بالحيل والصور في الحيطان، وطلاء جدران الكنائس بالذهب وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر.

وساعدهم على ذلك ما عليه اليهود من القسوة والغلظة، والكيد والمكر، والكذب والبهتان، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم والفواحش، والفجور والبدع، والغلو في المخلوق، واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء خواص المسلمين وصالحيهم.

فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم عليه، ورؤيتهم له أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والشرك، والفجور والفواحش.

فانظر كيف تلاعب الشيطان بهذه الأمة في أصول الدين وفروعه؟.

فجمعت بين الشرك، وعيب الإله وتنقصه، وتنقص نبيهم وعيبه، ومفارقة دينه بالكلية، فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح لا في صلاتهم، ولا في صيامهم، ولا في أعيادهم، ولا في سائر عباداتهم.

بل هم في ذلك أتباع كل ناعق ومبطل، أدخلوا في الشريعة ما ليس منها، وتركوا ما جاءت به.

وقالوا أساس الدين: واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد، أو الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد.

فواعجباً لأمة تضيع أوقاتها في مثل هذا الهراء والضلال والمحال؟.

وكيف يرضى عاقل أن يكون هذا مبلغ عقله، ومنتهى علمه، وأساس دينه؟.

وكيف ضحك الشيطان والقساوسة والرهبان على أشباه الأنعام فقرروا لهم ما هو محال، وإن ضربوا له الأمثال فقالوا: الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة؟.

ص: 3236

ولم يقنعهم هذا القول في رب السموات والأرض حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلاً مقهوراً، ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات، ثم دفنوه، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام من قبره إلى السماء.

فأين عقول هؤلاء؟.

كيف كان حال هذا العالم العلوي والسفلي في هذه الأيام الثلاثة؟.

ومن كان يدبر أمر السموات والأرض وما فيهما في تلك الأيام؟.

ومن الذي خلف الرب سبحانه في تلك المدة؟.

ومن الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض والإله مدفون في قبره؟.

وكيف تمكن المخلوق من قتل الإله وصلبه ودفنه؟.

ثم أي قبر يسع إله السموات والأرض، وهو الملك القدوس الكبير المتعال؟.

وكيف تحمَّل هذا الإله الذنوب والخطايا عن البشر فليفعلوا ما شاءوا؟.

وكيف تستقر حياة الناس بلا أمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب؟.

سبحانك هذا بهتان عظيم: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 89 - 93].

فهل يليق بعاقل أن يسمع لهؤلاء؟.

وهل يليق بأمة حرفت دينها، وافترت على الله الكذب أن يقتدي العاقل بها، أو يدخل في دينها؟.

وكيف يقتدي الإنسان ويهتدي بأمة حرفت وبدلت كتاب الله وشرعه، ولعنها الله وغضب عليها؟.

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ

ص: 3237

فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 78 - 80].

فلما حصل من أهل الكتاب: اليهود والنصارى ما حصل من التحريف .. والتبديل .. والنسيان .. والكذب .. والابتداع .. والظلم .. والكتمان .. والحكم بغير ما أنزل الله .. والبهتان .. والكبر .. والإضلال .. والغلو .. والكفر .. والاستهزاء .. وقتل الأنبياء .. وسفك الدماء بغير حق .. وأكل أموال الناس بالباطل .. وتنقص الرب .. وتعطيل شرعه .. وقول الزور والبهتان في الأنبياء .. والصد عن سبيل الله.

لما حصل ذلك وغيره من أهل الكتاب ضل الناس عن طريق الهدى، وعاشوا في شقاء وعناء، فبعث الله العزيز الرحيم محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً للعالمين، ورحمة للبشرية أجمعين:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}

[الأعراف: 157].

وأكمل الله به للبشرية دينها، وأتم نعمته عليها كما قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

فدينه أفضل الأديان .. وكتابه أعظم الكتب .. وشريعته أيسر الشرائع .. وأمته أفضل الأمم .. وهو أفضل الأنبياء وسيد المرسلين.

والذين كملت نعم الله عليهم هم المؤمنون به، الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به وهم المرادون بقوله سبحانه:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7].

فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة والمغضوب عليهم، ممن أخطأ في الأعمال

ص: 3238

الظاهرة كاليهود والفساق.

وإن اختل قيد العلم فهم الضالون، ممن أخطأ في الاعتقاد من النصارى وأهل البدع.

ومن أنعم الله عليه امتنع أن يكون من المغضوب عليهم والضالين كما قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

[الفاتحة: 6، 7].

وأهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية، ثم بمعرفة العبودية؛ لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد، وهو عبادة الله عز وجل، ولا يتم ذلك إلا بالعلم والعمل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].

ص: 3239