الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - العدو السادس: أهل الكتاب
فقه عداوة أهل الكتاب
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109].
وقال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} [المائدة: 82].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [المائدة: 51].
أهل الكتاب من اليهود والنصارى بلغ بهم الحسد أنهم ودوا لو يردون المؤمنين عن الإيمان، وقد سعوا في ذلك وأعملوا المكايد، فأمر الله المؤمنين بمقابلة من أساء إلينا منهم غاية الإساءة بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره، ثم بعد ذلك أتى الله بأمره المؤمنين بجهادهم، فشفى الله أنفس المؤمنين منهم فقتلوا من قتلوا، واسْتَرَقّوا من اسْتَرقّوا، وأَجْلَوا من أَجْلَوا، كما قال سبحانه:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29].
والمشركون واليهود والنصارى كلهم أعداء للإسلام والمسلمين، لكن المشركين واليهود أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعياً في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم بغياً وحسداً وعناداً وكفراً.
والنصارى أقرب الخلق إلى المسلمين وإلى ولايتهم ومحبتهم من اليهود
والمشركين، وذلك لأن فيهم علماء زاهدين، وعباداً في الصوامع، والعلم مع الزهد والعبادة يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة.
فلذلك لا توجد فيهم غلظة اليهود، ولا شدة المشركين.
وليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومحبتهم، والمتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر.
وهم إذا سمعوا ما أنزل الله إلى الرسول من القرآن أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له، بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه كما قال سبحانه:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)}
…
[المائدة: 83].
وقد نهى الله عباده المؤمنين عن تولي الكفار واليهود والنصارى؛ لأن هؤلاء أعداء المسلمين، يتناصرون فيما بينهم، ويتعاونون على ضرب الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان، فكيف يتولاهم المسلم؟.
وقد بين الله أحوال اليهود والنصارى، وأظهر صفاتهم، وكشف شرورهم ومكايدهم، ليحذرهم المسلم، ولا يركن إليهم، فهم أعداء الله حقاً.
وبين سبحانه بياناً شافياً ما عليه اليهود والنصارى من الكفر والظلم .. والكيد والمكر .. والغش واللبس .. والصد عن سبيل الله .. والإفساد في الأرض .. وغير ذلك من الصفات التي أوجبت لعنة الله لهم .. وغضبه عليهم .. وتمزيقهم كل ممزق .. وضرب الذلة والمسكنة عليهم .. وذلك بعد نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم .. واتباعهم أهواءهم .. وما تتلوه الشياطين عليهم .. ومن ذلك:
الكذب والافتراء كما قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
…
[البقرة: 79].
وقال سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)} [آل عمران: 78].
ومنها كتمان ما أنزل الله من الحق كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} [آل عمران: 187].
ومنها تحريف كتب الله كما قال سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46].
ومنها نقض العهد والميثاق كما قال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} [المائدة: 13].
وقال سبحانه: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14].
وقال سبحانه: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} [البقرة: 100].
ومنها الغرور والكذب كما قال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111].
وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} [البقرة: 80].
ومنها وصف الله بما لا يليق بجلاله كما قال سبحانه عن اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64].
وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة: 30].
وقال سبحانه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} [آل عمران: 181].
ومنها الكفر بالله عز وجل كما قال سبحانه: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} [البقرة: 88].
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)} [النساء: 150 - 151].
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 73 - 74].
ومنها الكفر بما أنزل الله من كتب .. كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89].
…
[البقرة: 90].
ومنها تكذيب الرسل وقتلهم كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}
…
[المائدة: 70].
وقال سبحانه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87].
وقال سبحانه: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61].
وقال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ [البقرة: 101 - 102].
والناس في سماع الحق أربعة أقسام:
الأول: وهو أعلاها من سمع الحق وقبله وانقاد له وهم المؤمنون كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} [المائدة: 83 - 84].
الثاني: من امتنع عن سماع الحق وأعرض عنه وهم الكفار كما قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26].
الثالث: من سمع الحق ولم يفقه المعنى كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
…
[الأنفال: 22 - 23].
فهؤلاء والقسم الثاني لم يعلم الله في قلوبهم خيراً فيسمعهم سماع فقه وقبول.
الرابع: من سمع الحق وفقه لكنه لم يقبله كاليهود الذين قال الله فيهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} [النساء: 46].
فهؤلاء كالقسم الثاني والقسم الثالث عرفوا الحق ولم يقبلوه فكانوا مغضوباً عليهم ملعونين وهذا جزاء من عرف الحق ولم يتبعه.
ومنها الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].
ومنها عدم الانقياد للهدى كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [البقرة: 145].
ومنها الصد عن سبيل الله كما قال سبحانه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} [آل عمران: 72].
وقال سبحانه: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} [النساء: 161].
وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34].
ومنها عبادة غير الله كما قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].
ومنها إيذاء المؤمنين كما قال سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186].
ومنها الإيمان بالباطل والدعوة إليه كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)} [النساء: 51].
وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)} [النساء: 44].
وقال سبحانه: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135].
ومنها التضليل والحسد كما قال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113].
…
[النساء: 54 - 55].
وقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109].
فهذه صفات أهل الكتاب، وهذه أخلاقهم، وإلى هذا الحد وصلت أحوالهم، وتردَّت أوضاعهم، فبين الله تبارك وتعالى أنهم بهذه الحال ليسوا على شيء حتى يعودوا إلى دينهم، ويؤمنوا بربهم، ويعملوا بأحكام دينهم، والدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
والله سبحانه رؤوف بالعباد، يذكر أهل الكتاب بأعمالهم السيئة، ويلوِّح لهم بالتوبة والاستغفار، ويستعطف قلوبهم للإيمان بالله وحده، والإيمان برسله، والإيمان بكتبه، ويناديهم باسم الكتاب الذي فيه الهدى والنور تارة .. ويناديهم باسم النبي الصالح الذي ينتسبون إليه تارة؛ لعل القلوب القاسية أن تلين، والأرض المقفرة أن تُنبت، والعداوة أن تزول كما قال سبحانه:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 40 - 42].
وقال سبحانه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)} [البقرة: 122 - 123].
…
[البقرة: 44].
وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا
اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} [آل عمران: 64].
وقال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)} [آل عمران: 65].
وقال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [آل عمران: 71].
وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)}
…
[آل عمران: 98].
وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)} [آل عمران: 99].
وقال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} [المائدة: 15].
وقال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)} [المائدة: 19].
وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)} [المائدة: 65].
وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74].
…
[المائدة: 76].
وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ
السَّبِيلِ (77)}
…
[المائدة: 77].
وأهل الكتاب قسمان:
مؤمنون .. وكفار.
فالمؤمنون كما قال الله عنهم: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} [آل عمران: 113 - 114].
والكفار كما قال الله عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78 - 79].
وأهل الكتاب كلهم إذا لم يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته ويعملوا بأحكام الإسلام فهم كفار مستحقون للعقوبة في الدنيا والآخرة، وأعمالهم غير مقبولة كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].
إن أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى يعلمون أن تجمع المسلمين على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين.
ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع، أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه، وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله، واستغلال ديارهم وأموالهم، لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها، وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد أصناماً تُعبد من دون الله:
تارة اسمها الوطن .. وتارة اسمها القوم .. وتارة اسمها الجنس .. وتارة اسمها
المال .. وغير ذلك من الأصنام التي تتصارع فيما بينها داخل المجتمع الإسلامي الواحد، القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشرعية، إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية.
وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القواعد الأساسية التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح القومية في تحطيم التجمع النصراني، وتحويله إلى قوميات سياسية، ذات كنائس قومية فارغة من العبودية.
وبذلك حطموا الحصار النصراني حول الجنس اليهودي .. ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول الجنس اليهودي: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}
…
[الصف: 8].
وكذلك فعل الصليبيون الوثنيون مع المجتمع الإسلامي، فقد أثاروا النعرات الجنسية، والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي، وأصبح العالم الإسلامي مسرحاً للقتل والتشريد، والفرقة والردة.
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية ثم يرضى لهم بعد ذلك بأصنام الجنسيات والقوميات والأوطان وأمثالها.
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين انحرفوا عن شريعة الله، يحاربون الإسلام، ويعادون المسلمين في كل زمان ومكان.
وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهوداً لا تكل .. وحملات لا تنقطع .. ويستخدمون في تحريفه عن وجهته كل الوسائل، وكل الأجهزة، وكل التجارب، وهم يسحقون سحقاً وحشياً كل من يدعو إليه ليكون منهج حياة كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في جميع بقاع الأرض.
وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه .. يحرفون الكلم عن مواضعه .. ويحلون ما حرم الله .. ويميعون ما شرعه .. ويخدعون كثيراً من أهل
العلم ليستنبطوا لهم الأدلة التي تبارك وتزكي ما هم عليه من انحراف وفساد .. ويشترون كثيراً من الأنفس الرخيصة التي احترفت العلم .. ويهيئون لها الفرصة .. ويخدعونها بالأموال والمناصب لتقول ما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتنفذ كل ما يريدون باسم سماحة الدين، ولو كان يغضب رب العالمين ويهدم الدين .. ويضطهد من أجله خيار المؤمنين:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
…
[البقرة: 79].
وهم كذلك يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة في عصر الجمل أنه قد مضى ولا تمكن إعادته ويشيدون بعظمة هذا الماضي ورجاله ليخدروا مشاعر المسلمين ثم يقولون لهم:
إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة .. وعبادة .. لا شريعة ونظاماً .. وحسبهم فقط أن يفخروا بمجدهم السابق، وقالوا: الدين لله .. والوطن للجميع .. فمكان الدين في المساجد .. ومسرح الحياة يموج بالحريات والفواحش والمنكرات: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
…
[البقرة: 85].
وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات، وتغيير طبيعة هذا الدين، حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به.
فحولوا كثيراً من المجتمعات البشرية إلى قطيع غارق في وحل الزنا والفاحشة والفجور .. يتقلب في الشهوات .. ويرتع في سوق الرذيلة .. مشغول بلقمة العيش .. حتى لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد .. كي لا يفيق بعد اللقمة والفاحشة ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين.
وتجند لها القوى لتحصد كل نبتة تقف في طريقها باسم حرية الإنسان وحقوق الإنسان.
فيا له من تخطيط ماكر خبيث .. وما أجدر أهله بلعنة الله وغضبه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}
…
[المائدة: 59].
وما يفعله أهل الكتاب بالمسلمين كله شر، فماذا ينتظرهم من الشر والعقوبة {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}
…
[المائدة: 60].
وماذا جنى اليهود والنصارى من نقضهم الميثاق، وتخليهم عن دينهم، وصدهم عن سبيل الله، وكفرهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64].
وقال سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)} [المائدة: 78].
هكذا تحولت حياة اليهود والنصارى بعد ما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كفر وظلم .. وعداوة وبغضاء .. وكذب وحسد .. وأكل لأموال الناس بالباطل .. وصد عن سبيل الله .. وقتل للأنبياء والأولياء .. وسفك للدماء .. وجمع للأموال بكل وسيلة محرمة .. وتمرغ في الشهوات .. وإفساد في الأرض .. وإشعال للحروب .. واستذلال للأمم: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].
ولكن طبيعة هذا الدين ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية والأمة المسلمة القائمة بهذا الحق على قلة العدد وضعف العدة، ما تزال بفضل الله صامدة لعمليات القمع والوحشية التي يصبها أعداء الإسلام في صحن الإسلام.
والله غالب على أمره، محيط بخلقه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ
حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} [الأعراف: 182].
فهؤلاء المكذبون الظالمون يستدرجهم الله من حيث لا يعلمون، وهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين، إنهم يتولى بعضهم بعضاً، ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض، وينسون قوة الله.
إنها سنة الله مع المكذبين .. ومع الظالمين .. ومع المجرمين .. ومع المفسدين.
يرخى لهم العنان، ويملي لهم في العصيان، ويذرهم في الطغيان، ويتركهم في الفساد، استدراجاً لهم في طريق الهلكة، وإمعاناً في الكيد لهم، ولكنهم غافلون، والعاقبة للمتقين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
والله تبارك وتعالى أنزل كتابه بالحق والهدى لتهدي به البشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}
…
[إبراهيم: 52].
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى إن لم يؤمنوا فعليهم أن يدفعوا الجزية ولا يكرهون على اعتناق الإسلام، فإن أبوا دفع الجزية وجب قتالهم كما قال سبحانه:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29].
فهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، واليهود منهم قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله كما اتخذ النصارى المسيح رباً من دون الله.
فكلهم كفار مشركون .. خالفوا ما أمروا به من التوحيد لله .. وهم محاربون لدين الله، ومفسدون في الأرض:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
…
[التوبة: 31].
وكثير من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، ولم يؤمن منهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا القليل خاصة النصارى كما قال سبحانه:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)}
…
[آل عمران: 199].
ولكن موقف هؤلاء الأفراد لا يمثل الغالبية من أهل الكتاب، خاصة اليهود الذين شنوا على الإسلام حرباً خبيثة، استخدموا فيها ألوان المكر والخديعة والوحشية، كما أنهم في الوقت ذاته أعرضوا عن الدخول في الإسلام، كما قال سبحانه:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
…
[البقرة: 91].
وقد بين الله في القرآن حقيقة ما عليه أهل الكتاب، كما حكى عنهم أشنع الوسائل، وأبشع الطرق في حرب هذا الدين وأهله، وكشف للمسلمين أحوالهم ليحذروهم ويتقوهم فقال سبحانه:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} [البقرة: 75].
وقال سبحانه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)} [البقرة: 76].
وقال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89].
فهذه أحوال اليهود والنصارى كشفها الله للمسلمين من أول يوم، وبيَّن ما هم عليه من فساد العقيدة، ومن الشرك بالله، ومن الكفر بآيات الله ورسله، وهذا لم
يتغير، وهم باقون عليه إلى الآن.
أما الذي وقع فيه التعديل فهو أحكام التعامل مع أهل الكتاب، مرحلة بعد مرحلة حسب المصلحة.
فقد جاء زمان يقال فيه للمسلمين:
…
[البقرة: 109].
…
[آل عمران: 64].
…
[العنكبوت: 46].
ثم أتى الله بأمره الذي وَكَلَ المؤمنين إليه، فوقعت أحداث عظام، وتعدلت أحكام، وجاءت مرحلة نزول الأحكام النهائية الأخيرة فيهم كما قال سبحانه:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
…
[التوبة: 29].
وموقف أهل الكتاب من المسلمين موقف العداوة والبغضاء، فأهل الكتاب والمشركون كلهم اجتمعوا على حرب الإسلام والمسلمين من أول يوم.
وقد ذكر الله سبحانه مواقف أهل الكتاب العدائية صريحة؛ لئلا يغتر بهم المسلمون، أو يطمئنوا إليهم.
فقال سبحانه: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
…
[البقرة: 105].
…
[البقرة: 109].
…
[البقرة: 120].
…
[آل عمران: 69].
وقال سبحانه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)} [آل عمران: 72].
…
[آل عمران: 100].
وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)} [النساء: 44].
هذه هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين في كل مكان وزمان، فهل يحذر المسلمون من بطشهم وكيدهم وتضليلهم؟
…
[المائدة: 57].
وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [المائدة: 51].
وقد حارب اليهود الإسلام من أول يوم بالكيد والمكر والأذى، وما زالت تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله قائمة ومشتعلة حتى الآن.
لقد استقبل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه، وديناً يعرفون أنه الحق.
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب، والشبهات والفتن، يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود.
وشككوا في الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}
…
[البقرة: 146].
واحتضنوا المنافقين، وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في جو المسلمين، وزودوهم بالتهم الباطلة، والأكاذيب المفتراة.
وما فعلوه في حادث تحويل القبلة .. وما فعلوه في حادث الإفك .. وما فعلوه من الغدر برسول الله .. وما فعلوه من الغدر في كل مناسبة، ليس إلا صورة من هذا الكيد اللئيم.
فماذا قالوا في تحويل القبلة؟: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142].
وماذا قالوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} [البقرة: 101].
وما موقفهم من كتاب الله؟.
وماذا فعلوا في صفوف المسلمين لتشكيكهم في دينهم؟.
وماذا فعلوا من الكذب لتحريف كتاب الله، وصد المسلمين عنه؟.
وقد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما قال سبحانه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)}
…
[النساء: 153].
وقد تحرشوا بالمسلمين في المدينة، ونقضوا عهودهم مرة بعد مرة، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وخيبر، وأَلَّبوا المشركين على المسلمين في الأحزاب، وكانوا أساس الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، وتفرق بعدها شمل المسلمين إلى حد كبير، وكانوا أساس الفتنة فيما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
وقادوا حملة الوضع والدس في كتب التفسير والحديث والسيرة.
وكانوا من الممهدين لحملة الطغاة التتار على بغداد، وتقويض الخلافة الإسلامية.
وقادوا حملة القضاء على الخلافة الإسلامية في تركيا بتدبير ماكر خبيث.
وهم وراء كل كارثة تحل بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض.
وهم وراء كل حملة لسحق قادة الفكر الإسلامي، وطلائع البعث والنمو الإسلامي.
وهم حماة الأوضاع والأوطان التي تتولى إبادة المسلمين في كل مكان.
…
[المائدة: 41].
فهل يستحقون بعد هذا الظلم والطغيان أن يكونوا قدوة للبشرية؟
وأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب وهم النصارى فلا يقل إصراراً على العداوة والحرب عن شأن اليهود، فحين أحست الكنيسة بخطورة الإسلام على ما صنعت هي بأيديها وسَمَّته المسيحية، وهو مُركّب من الوثنيات والأضاليل الممزوجة ببقايا مخرفة من كلمات المسيح، إلا وقامت في مواجهة هذا الدين الجديد.
فتجمعوا لحرب الإسلام في مؤتة .. ثم تجمعوا لضرب الإسلام مرة أخرى .. فكانت من أجل ذلك غزوة تبوك .. ثم كان جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى أطراف الشام لمواجهة تجمعاتهم التي تستهدف القضاء على الإسلام.
ثم اشتعل مِرْجل الحقد الصليبي منذ انتصار المسلمين في موقعة اليرموك الظافرة .. والتي أعقبها انتشار الإسلام في الشام والعراق، ومصر وأفريقيا .. ثم دخول الإسلام في الأندلس .. ثم تجلت عداوتهم ووحشيتهم في الأندلس عندما زحفت الصليبية الحاقدة على المسلمين في أسبانيا، وارتكبت من الوحشية في تعذيب المسلمين بما لم يعرف من قبل ولا يتصوره ذو عقل .. ثم كشرت عن أنيابها وبلغت ضراوتها ووحشيتها حينما هجم الصليبيون على الشرق الإسلامي، وأبادوا المسلمين في بيت المقدس في وحشية لا تعرف الرحمة، ولا تزال هذه الحرب الصليبية المسعورة تستخدم كافة الأسلحة، وكافة الطاقات لضرب الإسلام والمسلمين في كل مكان، تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتطارد الأتقياء:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].
فالكفار والمشركون .. واليهود والنصارى. كل هؤلاء مجمعون على حرب الإسلام والمسلمين: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}
…
[البروج: 8 - 9].
وما يشعل هؤلاء حرباً على الإسلام والمسلمين إلا ويعقبها حرب أخرى من أولئك، وما وقعت معركة مع المشركين إلا وأعقبها معركة مع اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فغزوة بدر كانت في السنة الثانية مع المشركين .. ثم أعقبها مباشرة غزوة بني قينقاع من اليهود .. ثم كانت غزوة أحد مع المشركين في السنة الثالثة من الهجرة .. ثم أعقبها غزوة بني النضير من اليهود .. ثم كانت غزوة الأحزاب في السنة الخامسة .. ثم أعقبها مباشرة غزوة بني قريظة من اليهود وهكذا ..
فأهل الكتاب لم يعودوا على دين الله بشهادة واقعهم، وشهادة اعتقادهم، فقد أمروا أن يعبدوا إلهاً واحداً فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، كما اتخذ النصارى المسيح ابن مريم رباً وإلهاً، وعبدوا الصليب.
وهذا منهم شرك، فهم إذن ليسوا مؤمنين بالله اعتقاداً، كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعاً وعملاً:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].
وكثير من المسلمين اليوم انتهوا إلى ما انتهى إليه كفار وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولم يبق معهم من الدين إلا اسمه، وهذا ما يريده أعداؤهم، فقد هانوا على الله، وهانوا على أعدائهم، ونزلت بهم النكبات والكوارث، والمصائب والفتن، وصاروا محط الشفقة، ومهبط الإغاثة، وذلك كله بسبب إعراضهم عن موائد القرآن، وقعودهم على موائد الشيطان:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 66 - 70].
إن أهل الكتاب لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق، وعبادة أرباب من
دون الله، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر.
إنما هم كذلك يعلنون الحرب على الدين الحق، ويسعون لإطفاء نور الله في الأرض، المتمثل في هذا الدين عقيدة وعبادة وشريعة، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض.
فهم محاربون لنور الله، سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن، أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله، والوقوف سداً في وجهه:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}
…
[الصف: 8].
ولكن وعد الله حق في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون، وهو وعد تطمئن به قلوب الذين آمنوا، فيدفعهم إلى العمل والمضي في الطريق، والصبر على الكيد والحرب من الأعداء، كما يتضمن الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان.
فليطمئن المؤمنون لوعد الله بإظهار دينه، وليعلم الكفار أن الله حافظ لدينه:
فقاعدة دين الله كله .. ودين الحق الذي أرسل الله به رسله .. هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع. فأيما شخص، أو قوم لم يدينوا لله وحده في الاعتقاد، والشعائر، والشرائع، انطبق عليهم أنهم لا يدينون دين الحق.
فدين الله الذي قرر سبحانه أن يتمه هو دين الحق الذي أرسل به رسوله ليظهره على الدين كله، وهو متمثل في كل دين سماوي، جاء به رسول الله من عند الله من قبل.
ولقد تحقق الدين الحق على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فترة طويلة من الزمان، وكان دين الحق أظهر وأغلب، وأظهره الله على الدين كله.
وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة لله تخاف منه وترجف.
ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه خطوة خطوة، بما أهملوه من أوامره، وبفعل
الحرب الطويلة المدى، المنوعة الأساليب التي يشنها عليه أعداؤه من الكفار وأهل الكتاب سواء، ولكن هذه ليست نهاية المطاف، ووعد الله قائم ينتظر العصبة المسلمة التي تحمل راية الإسلام، وتمضي مبتدئة مما بدأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم:«بَدَأ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» أخرجه مسلم (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمَّتِي قَائِمَةً بِأمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهمْ أمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذلِك» متفق عليه (2).
والقرآن في جداله مع أهل الكتاب يبين أن ما بأيديهم من الكتب لم يكن هو الكتاب الذي أنزله الله على أنبيائهم.
فمرة قال: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14].
والذين لم ينسوه كتموه كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146].
والذي لم يكتموه حرفوه كما قال سبحانه: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13].
ثم جاءوا بأشياء من عندهم افتراءً وكذباً كما قال الله عنهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
…
[البقرة: 79].
وقد حذرنا الله ورسوله من طاعة أهل الكتاب، وبين أنهم يريدون رد المؤمنين إلى الكفر، وأن من تولاهم فهو منهم كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 100 - 101].
(1) أخرجه مسلم برقم (145).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3641)، واللفظ له، ومسلم برقم (1037).
ومن عصى الله وأطاع أهل الكتاب أضلوه، فخسر الدنيا والآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً شِبْراً، وَذِرَاعاً ذِرَاعاً، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «مَنْ؟» متفق عليه (1).
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى بعدما كفروا بربهم وكذبوا رسله .. وقتلوا أنبياء الله .. وصدوا عن سبيل الله .. وحرفوا كتاب الله .. ونبذوه وراء ظهورهم .. وكتموا الحق .. ونقضوا العهد .. وأكلوا أموال الناس بالباطل .. ووصفوا الله بما لا يليق به، هل يصلحون بعد هذا لقيادة البشرية ودعوتها إلى ربها؟.
وما بقي عندهم من الدين الحق الذي يدعون الناس إليه؟.
وهل يستحقون بعد هذا كله إلا اللعنة والعذاب الموجع؟
وهذا ما فعل الله بهم جزاء كفرهم وبغيهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 78 - 80].
وليس من حكمة الله أن يستعمل من كفر به وعصاه في حمل أمانة الدعوة إلى الله، وأن يحملها لعباده أمة ظالمة ملعونة، أو أمة تائهة ضالة.
فكانت رحمة الله لليشرية أن بعث إليها محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحق إلى يوم القيامة: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158].
وكل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه لا يصلح للقيادة كما قال سبحانه:
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7320)، واللفظ له، ومسلم برقم (2669).
وقد رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم (وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وتركوا دين إبراهيم، وبدلوا دين الأنبياء، كما قال الله عنهم: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135].
واليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم التي هي عبادة الله وحده، فهم إنما يعبدون الشيطان ويزعمون أنهم على ملة إبراهيم، فكذبهم الله بقوله سبحانه:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران: 67].
فاليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، بل عملوا بضده.
والنصارى ضالون عن الحق، مشركون يعبدون الله ويشركون به غيره.
وأما اليهود فلا يعبدون الله، بل هم معطلون لعبادة الله، مستكبرون عنها، كما قال الله عنهم:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87].
والنصارى مع شركهم بالله لهم عبادات كثيرة مبتدعة.
واليهود من أقل الأمم عبادة، وأبعدهم عن عبادة الله وحده؛ لأنهم متبعون أهواءهم عابدون للشيطان.
وجميع أعمال اليهود والنصارى بعد بعثة النبي (حابطة باطلة، ولو عبدوا الله وحده لم تحبط أعمالهم.
وقبل بعثة النبي (إنما كان يعبد الله من عبده بما أمره الله به فله أجره عند ربه، وأما من ترك عبادة الله واتبع هواه من أهل الكتاب فهو كافر.
وأما موسى وعيسى وأتباعهما على الحق فهم على ملة إبراهيم وهو إمامهم كما قال سبحانه: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [آل عمران: 68].