المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

‌3 - العدو الثالث: الدنيا

‌1 - فقه حقيقة الدنيا

قال الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64].

وقال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20].

الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الدنيا والآخرة، وجعل الأولى دار الإيمان والعمل، وجعل الآخرة دار الثواب والعقاب.

والدنيا المذمومة: هي كل ما أشغل عن طاعة الله ورسوله (.

وقد عرّف الله عز وجل أولياءه بغوائل الدنيا وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها ليحذروها، ولا يركنوا إليها، ولا يغتروا بزينتها.

وقد خلقها الله في صورة جميلة مليحة، تستميل الناس بجمالها، وتغرهم بزينتها، وتخدعهم بشهواتها، امتحاناً وابتلاء، ليعلم الله من يقدم أوامر الله على شهوات نفسه كما قال سبحانه:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7].

والدنيا شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها، وآفاتها على التوالي راشقة، وكل مغرور بها إلى الذل مصيره، لا يخلو صفوها عن شوائب الكدر، ولا ينفك سرورها عن المنغصات.

سلامتها تُعقب السقم، ونعيمها لا يثمر غالباً إلا الحسرة والندم، فهي خداعة

ص: 3246

مكَّارة، بينما أصحابها منها في نعيم وسرور، إذ ولت عنهم صاروا كأنهم أضغاث أحلام:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24].

فالدنيا عدوة لله .. وعدوة لأولياء الله .. وعدوة لأعداء الله.

أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله، ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء.

وأما عداوتها لأولياء الله سبحانه فإنها تزينت لهم بزينتها، وغرتهم بزهرتها ونضارتها، وملكت قلوبهم بجمالها وشهواتها، حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها.

وأما عداوتها لأعداء الله فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها، وصادتهم بشبكتها حتى وثقوا بها، فاجتنوا منها حسرة تقطع الأكباد، ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد، فهم على فراقها يتحسرون، ومن مكايدها يستغيثون:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} [البقرة: 86].

ومن هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا يُنال ما عنده إلا بتركها.

وكما يأكل المريض الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع، كذلك صاحب الدنيا لا يتلذذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها ما دام حب الدنيا في قلبه.

والدنيا المذمومة المأمور باجتنابها هي القاطعة للعبد عن سلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وإلى رضاه، وإلى الجنة.

وما في هذه الحياة الدنيا ثلاثة أقسام:

الأول: ما يصحب العبد في الآخرة، وتبقى معه ثمرته بعد الموت، وهو شيئان: العلم .. والعمل.

فالعلم: هو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والعلم بشريعته.

ص: 3247

والعمل: هو امتثال أوامر الله في جميع الأحوال، وعبادة الله وحده لا شريك له.

الثاني: كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً، كالتلذذ بالمعاصي كلها، والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الحاجة.

والتنعم والترفه بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، والغلمان والجواري، والقصور والدور، ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة ونحوها من ألوان المتاع الذي تحبه النفوس كما قال سبحانه:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14].

فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة، باستثناء ما يحتاجه من المباح.

الثالث: كل حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام، والحاجة من اللباس والسكن، وكل ما لا بدَّ منه؛ ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي يتوصل بها إلى العلم والعمل الصالح.

فهذا ليس من الدنيا، فهو كالقسم الأول؛ لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه، فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل، لم يكن به متناولاً للدنيا، ولم يصر به من أبناء الدنيا.

وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة به على العلم والعمل التحق بالقسم الثاني، وصار من جملة الدنيا.

فالأول محمود .. والثاني مذموم .. والثالث حسب نية صاحبه.

وكل شيء في الدنيا يزول، ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا أربع صفات: إيمان القلب .. وأنسه بذكر الله .. وحبه لربه .. وعمله الصالح.

وهذه الصفات هي المنجيات المسعدات بعد الموت.

فقوة الإيمان تفطم العبد عن شهوات الدنيا، وتنشطه للعمل الصالح الذي ينال به شهوات الآخرة، وتملأ قلبه بالأنس بالله، ولذة مناجاته ومحبته ونسيان ما سواه.

ص: 3248

وليس الموت عدماً، إنما هو فراق لمحاب الدنيا، وقدوم على الله تعالى.

فالقدر الذي لا بدَّ منه للحياة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا، وكانت الدنيا في حقه مزرعة للآخرة، وإن أخذه لحظ النفس، وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا، والراغبين في حظوظها.

والرغبة في حظوظ الدنيا قسمان:

الأول: ما يُعرِّض صاحبه لعذاب الآخرة، ويسمى ذلك حراماً.

الثاني: ما يحول بين العبد وبين الدرجات العلا، ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً، فالدنيا حلالها حساب، وحرامها عذاب، ومن نوقش الحساب هلك.

عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (قَالَ:«مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» . قالتْ: قُلْتُ: ألَيْسَ يَقُولُ الله تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق:8]. قَالَ: «ذَلِكِ الْعَرْضُ» متفق عليه (1).

والدنيا قليلها وكثيرها .. وحلالها وحرامها .. كل ذلك مذموم إلا ما أعان على تقوى الله وطاعته مما أمر الله ورسوله به.

وكل من كانت معرفته أقوى كان حذره من نعيم الدنيا أشد، ولهذا زوى الله كل ما يشغل عن الآخرة من اللذات والشهوات عن الأنبياء والمرسلين والأولياء والمتقين؛ ليتفرغوا للأعمال الصالحة.

وسلط عليهم البلاء والمحن، كل ذلك امتناناً عليهم؛ ليتوفر من الآخرة حظهم، ويعظم أجرهم، كما يمنع الوالد ولده من لذة الفواكه، ويلزمه الدواء الكريه المذاق شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه.

سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً، فقَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6536) واللفظ له، ومسلم برقم (2876).

ص: 3249

ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).

فالدنيا مركب الآخرة، وبها تقطع المسافة إلى الآخرة، والبدن مركب النفس، وبه تقطع مسافة العمر، فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا، فهذه حقيقة الدنيا في حق الإنسان.

وأما حقيقة الدنيا في نفسها، فالدنيا عبارة عن أعيان موجودة، وللإنسان فيها حظ، وله في إصلاحها شغل، وقد جمع الله الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا في قوله سبحانه:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14].

فهذه هي أعيان الدنيا السبعة، ولها مع العبد علاقتان:

الأولى: علاقة الأعيان مع القلب، وهو حبه لها، وحظه منها، وانصراف همه إليها، حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا، ويدخل في هذا جميع صفات القلب الباطنة كالكبر والرياء والعجب، وحب الثناء، وحب التكاثر، وحب التفاخر، وهذه هي الدنيا الباطنة، وأما الدنيا الظاهرة فهي الأعيان المذكورة.

الثانية: علاقة الأعيان مع البدن، وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان، لتصلح حظوظه، وحظوظ غيره، وهي جملة الصناعات والحرف التي يشتغل بها الخلق.

والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين: علاقة القلب بحب الدنيا .. وعلاقة البدن بالشغل فيها.

ولو عرف العبد نفسه وعرف ربه، وعرف حكمة الدنيا وسرها، علم أن هذه الأعيان التي تسمى دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى،

(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).

وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).

انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).

ص: 3250

والدابة البدن، فإنه لا يبقى ليعمل إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن، كما لا يبقى ولا يسير الجمل إلا بعلف وماء، والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده، وقلبه معلق بالكعبة والحج، فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشتغل بتعهد البدن، بل يشتغل بالعمل الموصل إلى الله مع العناية بالبدن الذي لا يتم العمل إلا بسلامته.

وقد اختلف الناس اختلافاً كبيراً في الإقبال على الدنيا والتجافي عنها، وأوسط الأمور، وأحبها إلى الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية .. ولا يقمع الشهوات بالكلية .. فيأخذ من الدنيا قدر الزاد .. ويقمع من الشهوات ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل .. ولا يتبع كل شهوة .. ولا يترك كل شهوة .. بل يتبع العدل.

ولا يترك كل شيء من الدنيا .. ولا يطلب كل شيء من الدنيا.

بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا، ويحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة .. ومن السكن ما يحفظ من اللصوص، ويُكِنُّ من الحر والبرد .. ومن الكسوة ما يستر العورة، ويحفظ الإنسان من الحر والبرد، حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن وحاجاته أقبل على طاعة مولاه بكل همته، واشتغل بالذكر والفكر والعمل الصالح طول العمر، وتلك سيرة أهل القرن الأول، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا، بل للدين، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواماً، وذلك هو العدل الوسط بين الطرفين، وأحب الأمور إلى الله:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67].

وطلب الدنيا كظل الإنسان لا يمكن أن يدركه ولو مشى الدهر كله.

فالعاقل إنما يأخذ منها بقدر الحاجة، فإن ابتلي بسعة المال أنفقه فيما يرضي الله، وأخذ منه بقدر حاجته، واستعان به على طاعة ربه.

ص: 3251

والدنيا وما فيها ليست داراً للعباد، وإنما أسكنهم الله فيها واستخلفهم فيها إلى أجل مسمى لينظر كيف يعملون، وابتلاهم بما فيها من الشهوات ليعلم من يقدم أوامر ربه على شهوات نفسه .. ومن يطيع الرحمن ممن يطيع الشيطان .. ومن يشتغل بجمع الحسنات ممن يشتغل بالاستكثار من الأموال .. ومن يعمر أخراه ممن يعمر دنياه .. ومن يتبع الهدى ممن يتبع الهوى كما قال سبحانه:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7].

وقال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50].

والجمع بين تحصيل الأسباب التي تحصل بها لذات الدنيا، والأسباب التي تحصل بها لذات الآخرة ممتنع غير ممكن.

والله عز وجل مكّن الإنسان من تحصيل أيهما شاء أو أراد، فمن اشتغل بتحصيل أحدهما فلا بد أن يفوت الآخر، والعاقل يقدم العمل للآخرة على العمل للدنيا، ويؤثر الباقية على الفانية.

والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة، والفانية على الباقية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويعلم من يستحق الكرامة ممن يستحق الإهانة:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 18 - 20].

فالحياة الدنيا جبلت على الكد والنكد، والبلاء والكبد، وقد أقسم الله عز وجل الذي خلق كل شيء، وعلم كل شيء، بالبلد الأمين، ورسوله الذي حل فيه، وبكل ما خلق، أن هذه الحياة الدنيا لا تصفو لأحد، وأنها في الغالب شقاء وتعب ومجاهدة، كما قال سبحانه:{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد: 1 - 4].

ص: 3252