المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث عشرفقه الطاعات والمعاصي

- ‌1 - مشاهد الخلق في الطاعات والمعاصي

- ‌2 - فقه الطاعات والمعاصي

- ‌3 - فقه آثار الطاعات والمعاصي

- ‌4 - فقه النعيم والعذاب

- ‌5 - فقه الصبر عن المعاصي

- ‌6 - فقه الثواب والعقاب

- ‌7 - فقه الجزاء من جنس العمل

- ‌8 - فقه التخلص من المعاصي

- ‌9 - فقه التوبة من المعاصي

- ‌الباب الرابع عشرفقه أعداء الإنسان

- ‌1 - العدو الأول: النفس

- ‌1 - فقه النفوس

- ‌2 - آفات النفوس

- ‌1 - آفة الغفلة

- ‌2 - آفة الهوى

- ‌3 - آفة الكبر

- ‌4 - آفة العُجْب

- ‌5 - آفة الغرور

- ‌6 - آفة الكذب

- ‌7 - آفة اللسان

- ‌8 - آفة الرياء

- ‌9 - آفة الحسد

- ‌10 - آفة الغضب

- ‌2 - العدو الثاني: الشيطان

- ‌1 - فقه عداوة الشيطان

- ‌2 - فقه تسليط الشيطان على الإنسان

- ‌3 - فقه خطوات الشيطان

- ‌4 - فقه كيد الشيطان للإنسان

- ‌5 - ما يعتصم به العبد من الشيطان

- ‌3 - العدو الثالث: الدنيا

- ‌1 - فقه حقيقة الدنيا

- ‌2 - فقه الفتن

- ‌3 - فتنة الأموال والشهوات

- ‌4 - فتنة الأهل والأولاد

- ‌4 - العدو الرابع: المنافقون

- ‌1 - علامات المنافقين

- ‌2 - فقه عداوة المنافقين

- ‌5 - العدو الخامس: الكفار والمشركون

- ‌فقه عداوة الكفار والمشركين

- ‌6 - العدو السادس: أهل الكتاب

- ‌فقه عداوة أهل الكتاب

- ‌ فقه جهاد الأعداء

- ‌الباب الخامس عشرفقه الدنيا والآخرة

- ‌1 - فقه الدنيا والآخرة

- ‌2 - قيمة الدنيا والآخرة

- ‌3 - فقه حب الدنيا

- ‌4 - فقه الحياة العالية

- ‌5 - أحوال الخلق في الدنيا

- ‌1 - حال الأشقياء

- ‌2 - حال الظالم لنفسه

- ‌3 - حال المقتصد

- ‌4 - حال السابق بالخيرات

- ‌6 - فقه الغربة

- ‌7 - فقه الموت

- ‌8 - فقه البعث والحشر

- ‌9 - فقه الحساب

- ‌10 - فقه درجات الآخرة

- ‌11 - طبقات الخلق في الآخرة

- ‌الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل

- ‌الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌الطبقة الرابعة: طبقة ورثة الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل الله

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة الثامنة: من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌الطبقة العاشرة: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب

- ‌الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً

- ‌الطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم

- ‌الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية

- ‌الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية

- ‌الطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق

- ‌الطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته

- ‌الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة

- ‌الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن

- ‌12 - دار القرار

- ‌1 - صفة الجنة

- ‌2 - صفة النار

- ‌13 - طريق الفوز والنجاة

الفصل: ‌4 - فقه الحياة العالية

‌4 - فقه الحياة العالية

قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}

[الأنعام: 122].

وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].

الوحي حياة الروح، كما أن الروح حياة البدن كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52].

وسمي الوحي روحاً: لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح بالإيمان والعلم والهدى، وهي روح معرفة الله سبحانه وتوحيده ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له،

ومن فقد هذه الروح فَقَدْ فَقَدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فحياته حياة البهائم، وله المعيشة الضنك، وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا.

ولكل عبد روحان:

روح يحيي بها الله قلب من شاء من عباده .. وروح يحيا بها البدن .. وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته.

قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}

[النحل: 97].

فالحياة الطيبة حياة القلب ونعيمه .. وبهجته وسروره بالإيمان بالله ومعرفته ومحبته .. والإنابة إليه .. والتوكل عليه.

فلا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة.

ص: 3405

وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فإنه ملكها، وهي منقادة له.

والحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث:

في دار الدنيا .. ودار البرزخ .. ودار القرار في الجنة.

والمعيشة الضنك تكون كذلك في الدور الثلاث:

في دار الدنيا .. ودار البرزخ .. ودار القرار في النار.

فكل من جمع بين الإيمان والعمل الصالح أحياه الله حياة طيبة في الدنيا بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، ورَزَقه رزقاً طيباً من حيث لا يحتسب، وجزاه في الآخرة بالجنة وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].

فيؤتيه الله بفضله ومنِّه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة.

والحياة ضد الموت، ومراتب الحياة عشر:

الأولى: حياة الأرض بالنبات كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)} [النحل: 65].

الثانية: حياة النمو والاغتذاء، وهذه الحياة مشتركة بين النبات والحيوان الذي يعيش بالغذاء كما قال سبحانه:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30].

الثالثة: حياة الحيوان المغتذي بقدر زائد على نموه واغتذائه، وهي إحساسه وحركته، وهذه الحياة فوق حياة النبات، وهي متفاوتة، وتقوى وتضعف في الحيوان الواحد بحسب أحواله.

الرابعة: حياة الحيوان الذي لا يغتذي بالطعام والشراب كحياة الملائكة، وحياة الأرواح بعد مفارقتها لأبدانها، فإن حياتها أكمل من حياة الحيوان المغتذي.

ولهذا لا يلحقها كلال، ولا فتور، ولا نوم، ولا إعياء كما قال سبحانه عن الملائكة:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} [الأنبياء: 20].

ص: 3406

الخامسة: حياة العلم من موت الجهل:

فالجهل موت لأصحابه، والجاهل ميت القلب والروح وإن كان حي البدن، فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض.

وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما، فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان ولم تتحرك له كانت ميتة حقيقة.

السادسة: حياة الإرادة والهمة:

فضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى.

وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلباً، وحياة البهائم خير من حياته.

وحياة القلب: بدوام الذكر لله، وترك الذنوب.

فكما جعل الله حياة البدن بالطعام الطيب، وتجنب الخبيث، جعل حياة القلب بدوام ذكر الله والإنابة إليه، وترك الذنوب والمعاصيِ.

والغفلة الجاثمة على القلب، والتعلق بالرذائل والشهوات، يضعف هذه الحياة، ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت.

وعلامة موت القلب: إذا كان لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، ولا يرغب في الطاعات، ولا يبالي بالمحرمات.

والمؤمن حقاً: هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، فأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية، وذلك من موت القلب والروح.

وإذا مات المؤمن موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والأحوال الفاضلة التي حصلت به بعد موته.

السابعة: حياة الأخلاق العالية، والصفات المحمودة، التي هي حياة راسخة للموصوف بها.

ص: 3407

فحياة مَنن قد طُبع على الحياء والعفة، والجود والسخاء، والمروءة والوفاء ونحوها، أتم من حياة من يقهر نفسه ويغالب طبعه حتى يكون كذلك.

وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم.

والحياء مشتق من الحياة، وأكمل الناس حياة أكملهم حياء، فإن الروح إذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح فلا تستحي منها.

وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة تابعة لقوة الحياة، وضدها من نقصان الحياة.

لذلك كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان، وحياة السخي أكمل من حياة البخيل، وحياة الذكي الفطن أكمل من حياة البليد.

ولهذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكمل الناس حياة، حتى إن قوة حياتهم تمنع الأرض أن تبلي أجسامهم؛ لكمال أخلاقهم وتقواهم.

الثامنة: حياة الفرح والسرور وقرة العين بالله:

وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم، وأكثرهم قد أخطأ طريقها، وسلك طرقاً لا تفضي إليها، بل تقطعه عنها إلا أقل القليل.

وحرمها أكثرهم، وسبب حرمانهم إياها ضعف العقل والبصيرة.

وهذه المرتبة أعلى مراتب الحياة، ولكن كيف يصل إليها من عقله سُببي في بلاد الشهوات، وأَمَله موقوف على اجتناء اللذات، وسيرته جارية على أسوإ العادات، ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات، وهمة المحب وطاعته تتكرر وتتزايد حتى تستقر، وينصبغ بها قلبه، وإذا تعلقت روحه بحبيبه عمل بما يحب، فهو يتقرب إلى ربه حفظاً لمحبته له، واستدعاء لمحبة ربه له.

فيتقرب إلى ربه بأنواع التقرب إليه:

فقلبه للمحبة، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والتعظيم.

ولسانه للذكر والحمد وتلاوة كلام حبيبه، وجوارحه للطاعات، فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه.

فَيَشرع المحب أولاً في التقرب بالأعمال الصالحة الظاهرة .. ثم يترقى من ذلك

ص: 3408

إلى حال التقرب، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وعقله وبدنه .. ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان .. فيعبد الله كأنه يراه .. فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب من المحبة والإنابة، والتعظيم والإجلال، والخوف والخشية، فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح، والجود في محبة حبيبه بلا تكلف، فإذا وجد المحب ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط.

ووراء هذا القُرْب قرب آخر، عبَّر عنه أقرب الخلق إلى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:«يَقُولُ اللهُ عز وجل: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» متفق عليه (1).

وكلما ذاق العبد حقيقة التقرب انتقل إلى ما هو أعلى منه.

وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه، والعبد في الأرض.

وملاك هذا الأمر: التقرب والانبعاث بالكلية إلى الحبيب وما يحب، ولا يزال العبد رابحاً على ربه أفضل مما قدم له.

وهذا التقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، ومن لم يظفر بهذه الحياة العالية فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات، فإن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فإن همته فيها لا ترضى بالدون، وإن كان مهيناً خسيساً فعيشه كعيش أخس الحيوانات.

التاسعة: حياة الأرواح بعد مفارقتها الأبدان:

وخلاصها من هذا السجن وضيقه، فإن من ورائه فضاءً وروحاً، وريحاناً

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7405)، ومسلم برقم (2675) واللفظ له.

ص: 3409

وراحة، نسبة هذه الدار إليه كنسبة بطن الأم إلى هذه الدار أو أدنى من ذلك.

ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ومفارقة الرفيق المؤذي النكد، الذي تنغص رؤيته ومشاهدته الحياة فضلاً عن مخالطته وعشرته.

والنفس لإلفها هذا السجن الضيق النكد زماناً طويلاً تكره الانتقال منه إلى ذلك البلد، وتستوحش إذا استشعرت مفارقته.

ولعمر الله إن من سافر إلى بلد العدل والأمن والخصب والسرور صبر في طريقه على كل مشقة، ومن قدم على الملك وجاءه بما يحبه أكرمه، ومن جاءه بما يسخطه عاقبه عليه.

العاشرة: الحياة الدائمة الباقية بعد طي هذا العالم وذهاب أهلها إلى دار الحيوان:

وهي الحياة التي شمر إليها المشمرون، وسابق إليها المتسابقون، والتي يقول من فاته الاستعداد لها:{يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر: 24 - 26].

والحياة السابقة كالنوم بالنسبة لهذه الحياة.

وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة .. فما الظن بحياتهم في البرزخ، وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها؟ .. فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول، وهم يرون وجه ربهم عز وجل َكرة وعشياً، ويسمعون كلامه كما قال سبحانه:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» متفق عليه (1).

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (554)، ومسلم برقم (633) واللفظ له.

ص: 3410

وسبب تخلف النفس عن طلب هذه الحياة الباقية، وتعلقها بالحياة الفانية أمور:

الأول: ضعف الإيمان بالله، وضعف اليقين على وعد الله ووعيده، فالإيمان هو روح الأعمال، وهو الباعث عليها، والآمر بأحسنها، والناهي عن أقبحها.

وعلى قدر قوة الإيمان يكون أمره ونهيه لصاحبه، وتكون طاعة صاحبه ومعصيته كما قال سبحانه:{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)} [البقرة: 93].

الثاني: جثوم الغفلة على القلب:

فإن الغفلة نوم القلب، ولهذا نجد بعض الناس أيقاظاً في الحس، نياماً في الواقع، فتحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ضد حال من يكون يقظان القلب وهو نائم.

فالقلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن.

وكمال هذه الحياة كان لنبينا صلى الله عليه وسلم، الذي تنام عيناه وقلبه يقظان، ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسالته.

فالغفلة واليقظة يكونان في الحس والعقل والقلب، فمستيقظ القلب وغافله كمستيقظ البدن ونائمه.

والمقصود أن الغفلة هي نوم القلب عن طلب هذه الحياة التي لا خطر لها، وهي حجاب عليه، فإن كشف هذا الحجاب بالذكر، والا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب صغار تبعده عن الله.

فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب كبائر توجب مقت الرب تعالى له وغضبه ولعنته.

فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب بدع عملية يعذب فيها نفسه، ثم بدع قولية اعتقادية تتضمن الكذب على الله ورسوله.

فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب شك وتكذيب يقدح في أصول الإيمان، ثم يتمكن منه الشيطان وبعده ويمنيه، وتستولي عليه النفس الأمارة بالسوء، ويظفر سلطان الطبع والشهوات بسلطان الإيمان والأعمال.

ص: 3411

فلما تم أسره وسجنه، وتولى الشيطان تدبير المملكة، استخدم جند الشهوات وارسلها فيها يسخط الله، واتخذ حجاباً من الهوى.

فحينئذ أغلق باب اليقظة، وفتح باب الغفلة.

فإذا اجتمعت هذه العساكر على القلب من ضعف الإيمان، وقلة الأعوان، والإعراض عن ذكر الرحمن، مع طول الأمل المفسد للإنسان كيف تكون حاله؟

فلا بدَّ للعبد من المجاهدة والتضحية بما يملك لتحصيل الإيمان وتقويته، وتحسين الأعمال وتنويعها، فإذا اجتمع للعبد قوة الإيمان، وحسن الأعمال، فتلك الحياة العالية التي دعا إليها الرسل، وهي الموصلة برحمة الله إلى الحياة العليا في الجنة.

والحياة العالية لها علامات .. والحياة السافلة لها علامات.

والحياة العالية ثلاثة أنواع:

الحياة الأولى: حياة العلم من موت الجهل:

ولهذه الحياة ثلاثة أنفاس:

نَفَس الخوف .. ونَفَس الرجاء .. ونَفَس المحبة.

فنفس الخوف مصدره مطالعة الوعيد، ومطالعة ما أعد الله لمن آثر الدنيا على الآخرة، وآثر المخلوق على الخالق، وآثر الهوى على الهدى، وآثر الغي على الرشاد.

ونَفَس الرجاء مصدره مطالعة وعد الله، وحسن الظن بالرب تعالى، ومطالعة ما أعد الله لمن آثر الله ورسوله والدار الآخرة، وحكَّم الهدى على الهوى، والوحي على الآراء، والسنة على البدعة والعادة.

ونَفَس المحبة مصدره مطالعة الأسماء والصفات، ومشاهدة نعم الله وآلائه، وفضله وإحسانه.

فإذا ذكر العبد ذنوبه تنفس بالخوف .. وإذا ذكر رحمة ربه وسعة مغفرته وعفوه

ص: 3412

تنفس بالرجاء .. وإذا ذكر جماله وجلاله وكماله وإحسانه وإنعامه تنفس بالحب.

والإنسان بسبب الجهل يظن أن سعادته وقيمته بما في يده من الأموال والأشياء، والله عز وجل َبعث الأنبياء ليبينوا للناس أن السعادة بالإيمان والأعمال الصالحة.

فأسباب السعادة في الداخل .. وكذلك أسباب الخسران في الداخل.

وبصلاح القلوب تصلح الدنيا والآخرة، وبفساد القلوب تفسد الدنيا والآخرة، وإذا فسدت القلوب فسدت الأعمال، ثم كان الخسران.

وإذا صلحت القلوب صلحت الأعمال، ثم كان الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

وجميع الأنبياء بعثهم الله بالإيمان والأعمال الصالحة التي تحقق السعادة في الدنيا والآخرة لكل إنسان، ولكل مجتمع، ولكل أمة كما قال سبحانه:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].

وعلاقة القلوب بالله نور وهداية وسعادة، وعلاقة القلوب بغير الله ظلمة وضلال وفساد.

وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة باستعمال القلب والبدن، وكل عضو من أعضاء الإنسان للدين، ويتعلم طريقة استعمالها من النبي صلى الله عليه وسلم الفكر واللسان، والسمع والبصر، واليد والرجل .. وهكذا.

الحياة الثانية: حياة جمع القلب على الله، والتوجه إليه سبحانه:

فالقلب لا سعادة له، ولا فلاح ولا نعيم، ولا فوز ولا لذة، ولا قرة عين إلا أن يكون الله وحده هو غاية طلبه، ونهاية قصده، ووجهه الأعلى هو كل بغيته.

ولهذه الحياة القلبية ثلاثة أنفاس:

فَس الاضطرار .. وَفَس الافتقار .. ونَفَس الافتخار.

ص: 3413

فنفس الاضطرار يكون بانقطاع أمله مما سوى الله، فيضطر حينئذ بقلبه وروحه، ونفسه وبدنه إلى ربه ضرورة تامة.

فهذا النفَس نَفَس مضطر إلى ما لا غنى عنه طرفة عين.

وضرورته إليه من جهة كونه ربه وخالقه، وفاطره وهاديه، وناصره وحافظه، ورازقه ومعينه ومعافيه، والقائم بجميع مصالحه.

ومن جهة كونه معبوده وإلهه وحبيبه الذي لا تكمل حياته ولا تنفع إلا بأن يكون هو وحده أحب شيء إليه.

وأما نَفَس الافتقار: فهو من نوع َفَس الاضطرار، وكأن نَفَس الاضطرار يقطع الخلق من قلبه، ونَفَس الافتقار يعلق القلب بربه.

وأما نَفَس الافتخار: فهو نتيجة هذين النَّفَسَين؛ لأنهما إذا صحا للعبد حصل له القرب من ربه والأنس به، والفرح به، وبالخِلَع التي خلعها ربه على قلبه وروحه، مما لا يقوم لبعضه ممالك الدنيا بحذافيرها.

فحينئذ يتنفس نفساً آخر يجد به من اللذة والراحة والانشراح ما يشبه نَفَسَ من جُعل في عنقه حبل ليُخنق به حتى يموت، ثم كُشف عنه، فتنفسَ نَفَسَ من أُعيدت عليه حياته، وتخلص من أسباب الموت.

والعبودية تنافي الافتخار، لكن العبد هنا لا يفتخر بذلك، ويختال على بني جنسه، بل هو فرح وسرور لا يمكن دفعه عن نَفْسه بما فتح عليه ربه ومنحه إياه، وخصه به، وأولى ما فرح العبد به فضل ربه عليه، فإنه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويحب الفرح بذلك؛ لأنه من الشكر:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].

ومن لا يفرح بنعمة المنعم لا يعد شكوراً، فهو افتخار بما هو محض منَّة الله ونعمته على عبده، لا افتخار بما من العبد، فهذا هو الذي ينافي العبودية لا ذاك.

الحياة الثالثة: حياة الوجود:

وهي حياة بالحق، وهي حياة الواجد.

ص: 3414

وحياة الواجد أكمل مما قبلها لشرفها وكمالها بموجدها وهو الحق سبحانه، فمن حبي بوجوده فقد فاز بأعلى أنواع الحياة.

وحقيقة الحياة: الحياة بالرب تعالى لا الحياة بالنفس وأسباب العيش كما قال سبحانه في الحديث الإلهي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أخرجه البخاري (1).

وبهذا يشهد العبد تفرد الرب تعالى بالربوبية والإلهية، والتدبير والقيومية، فلا يثبت لسواه قسطاً في الربوبية، ولا يجعل لسواه حظاً في الإلهية ولا في القيومية.

بل يفرده سبحانه بكل ذلك، وهذا النَّفَس يورثه الاتصال بربه في كل وقت، بحيث لا يبقى له مراد غيره، ولا إرادة غير مراده الديني الذي يحبه ويرضاه.

والمال والبنون حرث الدنيا، والإيمان والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يعطى الإنسان أحدهما، وقد يُّحرم منهما، وقد يجمعهما الله لأقوام.

وأَشْكر العباد أحبهم إلى الله، وأقربهم إليه.

فأقرب العباد إلى الله الملائكة، وهم درجات، وما منهم أحد إلا له مقام معلوم، وعمل مرسوم، وأعظمهم وأشرفهم إسرافيل وجبريل وميكائيل.

وإنما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم كرام بررة: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6].

وقد أصلح الله بهم الأنبياء والرسل والبلاد والعباد، وهم أشرف المخلوقات.

(1) أخرجه البخاري برقم (6502).

ص: 3415

ويلي درجتهم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فهم أخيار، وقد هدى الله بهم سائر الخلق، وأعلاهم رتبة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أكمل الله به الدين، وختم به النبيين.

ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فهم صالحون في أنفسهم، وقد أصلح الله بهم سائر الخلق، ودرجة كل واحد منهم بقدر ما أصلح من نفسه وأصلح من غيره.

ثم يليهم الحكام الذين يحكمون بالعدل؛ لأنهم أصلحوا دنيا الخلق، كما أصلح العلماء دينهم.

ثم يلي العلماء والحكام، المؤمنون الصالحون الذين أصلحوا دينهم وأنفسهم فقط، فلم تتم حكمة الله بهم بل فيهم.

ومن عدا هؤلاء همج رعاع.

إن ثمرة جهد الإنسان على الأشياء يجعل لها قيمة، فالطائرة والسيارة وما فيهما من المنافع نتيجة جهد الإنسان على الحديد، وكل سلعة تزداد قيمتها بقدر ما فيها من الصفات.

وكذلك الإنسان كلما اجتهد على أوامر الله، وجاءت فيه الصفات، صارت له قيمة عند الله، وتعلو درجته عند الله بقدر ما يحمل من الإيمان والأعمال والصفات كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}

[طه: 75 - 76].

وإذا أراد الإنسان أن يعرف قيمته عند الله فلينظر بماذا أقامه؟.

هل هو ممن يجمع الحسنات، وينوع الطاعات، ويحفظ الأوقات بذكر الله وعبادته؟ .. أم هو مشغول عن ذكر الله وعبادته بجمع الأموال والحطام، والتمرغ في الشهوات، وإضاعة الأوقات فيما يغضب الله، فاللهم:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

[الفاتحة: 6 - 7].

ص: 3416

وبمقدار الإيمان والتقوى .. وبمقدار البذل والتضحية .. وبمقدار الأخلاق العالية .. تعلو قيمة الإنسان عند الله في الدنيا والآخرة ..

والكافر لا قيمة له عند الله؛ لخلو قلبه من الإيمان، وقعوده عن العمل الصالح، وخلوه من الصفات الطيبة، فلا قيمة له في الآخرة، لكن في الدنيا يأخذ قيمة مزيفة مؤقتة بحسب ما عنده، والله عز وجل جعل الفوز والفلاح والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة بامتثال أوامر الله سبحانه على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم:

في العبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق ..

أما الأموال والأسباب فالله عز وجل يعطيها من يحب ومن لا يحب، ولكن لا يعطي الله الدين إلا من يحب.

والأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أفلحوا في الدنيا والآخرة مع قلة الأسباب أو عدمها.

ونمرود وفرعون وقارون وأمثالهم خسروا في الدنيا والآخرة مع وجود الأسباب من الملك والمال وغيرها.

{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الإسراء: 20 - 21].

وقد خلق الله الإنسان للأبد، فهو إذاً خلق ليبقى أبد الآباد، ولكنه يمر بمراحل وأمكنة وأزمنة، ثم ينتهي بالخلود في الجنة أو النار، وهو في كل ذلك يستفيد من خزائن الله في الدنيا والآخرة.

أما بقية المخلوقات فيأتي عليها يوم يُقضى عليها فيه، ثم تنتهي إلا ما شاء الله بقاءه كالعرش والكرسي والجنة والنار ونحوها.

وكما خلق الله في الأرض الاستعداد لإنبات الزروع والأشجار، فكذلك خلق الله في الإنسان الاستعداد للعمل وإيصال المنافع إلى غيره.

وقد خلق الله الإنسان ليقوم ويتزين بالإيمان والأعمال الصالحة، ولم يخلقه ليستكثر من الأموال والأشياء، والشهوات.

ص: 3417

فإنْ شَغَلَ الإنسان نفسه بهذه الأشياء عن المنعم الذي وهبه إياها فالله يسلطها عليه، ويجعلها سبباً في شقائه وهلاكه وخسارته في الدنيا والآخرة.

فالله عز وجل خلق الإنسان لمقصد عظيم وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وجعل ما في السموات وما في الأرض في خدمته؛ ليتمكن من أداء وظيفته، وجعل الدنيا له كالدابة؛ إن ركبها حملته إلى الآخرة، وإن حملها قتلته وعذبته.

وقد خلق الله كل شيء لحكمة ومقصد، فالطعام للأكل، والماء للشرب والهواء للتنفس، والحديد لمنافع الإنسان، وكذلك خلق الله الإنسان لحكمة ومقصد وهو عبادة الله وحده لا شريك له.

ومن اجتهد على شيء ظهرت نتيجته، فمن اجتهد على الحديد أخرج منه السيارات وسائر الأواني والمنافع.

وكذلك الإنسان إذا اجتهدنا عليه بالدعوة ظهر فيه بإذن الله الإيمان والأعمال الصالحة، والصفات العالية، وظهر فيه من المنافع له ولغيره ما لا يحصيه إلا الله في العبادة والدعوة والتعليم، وحسن المعاملات والأخلاق {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138].

والحياة النافعة إنما تحصل للعبد بالاستجابة لله وللرسول كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24].

فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات.

وأكمل الناس حياة أكملهم استجابة لله ورسوله، فكل ما جاء عن الله ورسوله هو الحياة، ومن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب استجابته، والحياة الطيبة في الجنة مبنية على كمال الحياة الطيبة في الدنيا.

والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة:

الأولى: حياة بدنه التي يدرك بها النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره،

ص: 3418

ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك.

الثانية: حياة روحه وقلبه التي يميز بها بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهدى والضلال.

فيختار الحق على ضده، والهدى على الضلال.

وتفيد هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار، وقوة الإيمان، وقوة الحب للحق، وقوة الكراهة للباطل.

وكما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك من روحه، فيصير حياً بذلك النفخ، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقي إليه وهو الوحي كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)}

[الشورى: 52].

فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي، والرسول البشري، فمن أصابه نفخ الرسول الملكي، ونفخ الرسول البشري، حصلت له الحياتان، وجمع الله له بين الحياة والنور.

ومن حصل له نفخ المَلَك دون نفخ الرسول، حصلت له إحدى الحياتين وفاتته الأخرى كما قال سبحانه:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}

[الأنعام: 122].

وقد جعل الله عز وجل لكل إنسان حياتين:

حياة تبدأ من بطن أمه وتنتهي بالموت .. وحياة تبدأ بعد الموت عند البعث إلى حياة لا نهاية لها، المؤمن في الجنة، والكافر في النار.

وأعلى أنواع الحياة حياة الأنبياء والمرسلين، والتي هي خالصة لامتثال أوامر الله وطاعته وعبادته، والدعوة إليه، وكمال التوكل عليه، ثم يليهم أتباعهم وورثتهم ممن سار على هديهم واقتفى أثرهم.

ص: 3419

فالقلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة، وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العدة، والتأهب للقدوم على الله عز وجل، فذلك أول فتوحه وتباشير أنواره.

فعند هذا يتحرك قلب المؤمن لمعرفة ما يحبه الله ويرضاه فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه، وهذا عنوان صدق إرادته، فكل من أيقن بلقاء الله وأنه سائله لا بدَّ أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصل إليه.

فإذا تمكن العبد في ذلك فتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة، فذلك يجمع عليه قوى قلبه وإرادته، وتُسد عليه الأبواب التي تفرق همه، فيأنس بها ويستوحش من الخلق.

ثم يفتح له باب حلاوة العبادة، فلا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات، فإذا أدخل في الصلاة ودَّ أن لا يخرج منها.

ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي إذا أعطي الحلوى.

ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به، وعظمة جلاله وكماله وصفاته بحيث ينسيه ذلك كل ما سواه.

ثم يفتح له باب الحياء من الله، وهو أول مشاهد المعرفة، وهو نور يقذفه الله في القلب يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي الله عز وجل، فيستحي منه في جميع أحواله، ويُرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى الملك العلي الأعلى كأنه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستوياً على عرشه، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، فعند ذلك تزول عنه هموم الدنيا وما فيها، فهو في وجود والناس في وجود آخر، هو في وجود بين يدي ربه ووليه، ناظر إليه بقلبه، والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا.

ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية، فيرى تصريف وتدبير جميع الكائنات

ص: 3420

والمخلوقات بيده سبحانه، فإن استمر على حاله واقفاً بباب مولاه، لا يلتفت عنه إلى غيره، وأنه لم يصل بعد، رُجي أن يفتح له فتح آخر هو فوق ما كان فيه.

ثم يبقى له وجود قلبي روحاني ملكي، فيبقى قلبه سابحاً في بحر من أنوار آثار الجلال، فتنبع الأنوار من باطنه كما ينبع الماء من العين، ويجد قلبه عالياً صاعداً إلى من ليس فوقه شيء، الذي هو مراد المؤمن وغاية مطلبه كما قال سبحانه:{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)}

[النجم: 42].

فهذا لُباب التعبد، وهو سفر الآخرة الذي يقطع بالقلوب كما أن سفر الدنيا يُقطع بالأقدام.

ثم يرقيه الله سبحانه فيشهده أنوار الإكرام بعد ما شهد أنوار الجلال، فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال، وفي هذا المشهد يذوق المحبة الخاصة الملهبة للقلوب والأرواح، فيبقى القلب مأسوراً في يد حبيبه ووليه المحسن إليه.

فهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على أهل المقامات، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق، لعلو درجته، وقرب منزلته من ربه، فالمرء مع من أحب، ولكل عمل جزاء، وجزاء المحبة المحبة والقرب، فيا سعادة صاحب هذا القلب، ويا له من قلب مستغرق بما ظهر له من أشعة أنوار الجمال، وعظمة الجلال والكبرياء للواحد الأحد، والناس مفتونون ممتحنون بما يزول ويفني من الأموال والصور والرياسة، معذبون بذلك قبل حصوله، وحال حصوله، وبعد حصوله.

وأعلاهم مرتبة من يكون مفتوناً بالحور العين، أو عاملاً على تمتعه في الجنة بالأكل والشرب، والنكاح واللباس.

ومتى نصل نحن إلى هذه المرتبة العالية؟

إن التعلق بالحور العين وما في الجنة من نعيم بالنسبة للموثق بالسفليات درجة رفيعة، وإذا كانت الفتنة بالحور العين قاطعة عن المراد المحبوب لذاته وهو الله، فكيف تكون حالنا وقد قَدَّمنا محبوبات الدنيا على أوامر الله عز وجل؟.

ص: 3421

وقد سأل موسى صلى الله عليه وسلم ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة فقال: «أولَئِكَ الَّذِينَ أرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قال: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة:17]» أخرجه مسلم (1).

وهل تليق هذه المنزلة العظيمة إلا بمن قَدَّم حب الله تعالى والشوق إليه على حب ما سواه، علماً بأن مَنْ نال مِنَ الله تعالى هذه المنزلة نال لا شك أعلى النعيم المخلوق من الحور والقصور وغيرها مما في الجنة.

فهذا العبد قد جرَّد المحبة لله وإن كان يريد من ربه خير الدنيا والآخرة، فهذه إرادة خالصة جذبت قلبه إلى ربه جملة كما قال سبحانه:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28].

فهذه حقيقة التوحيد والإخلاص: انجذاب القلب إلى الله تعالى بالكلية.

وهذا العبد لا يزال ربه يرقيه طبقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل إلى أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، أو يموت في الطريق فيقع أجره على الله.

فالسعيد كل السعادة من أقبل على ربه، ولم يلتفت إلى ما سواه، فالأنس به سبحانه أعلى من كل ما يرجوه العابد من نعيم الجنة، والعبد يُّحجب عن الله بقدر إرادته لغيره، وليس معنى هذا أن الإنسان لا يريد من الله، أو يحتقر ما عظمه الله من نعيم الجنة كالحور، والمآكل والمساكن وغيرها، وإنما المقصود أن لا يحتجب العبد عن إرادة ربه لذاته، ولو لم يكن هناك جنة ولا نار.

ولو لم يوجب محبة الله عز وجل إلا أنه خالق العبد ومالكه وسيده، فضلاً عن عظمة أسمائه وصفاته وجماله وجلاله.

(1) أخرجه مسلم برقم (189).

ص: 3422

والقلوب مفطورة على حب الصور الجميلة، لكن المسلم مأمور ومتعبد بغض بصره؛ لئلا تنتقش الصور في قلبه فيعكف عليها محبة تصرف قلبه عما خُلق له من النظر في الآخرة إلى خالق الجمال سبحانه.

فكل محبة لما سوى الله صرف لما هو حقه لغيره، وهي ألم في القلب يُعذَّب به؛ لانصرافه عن فطرته التي فُطر عليها من محبة إلهه الحق.

فأعلى نعيم الجنة رؤية الرب عز وجل ومحبته وحلول رضوانه، ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما قال صلى الله عليه وسلم:«يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» أخرجه مسلم (1).

فهذا نعيم لا يشغل أهل الجنة عنه ولا يلهيهم ما بين أيديهم من النعيم المخلوق؛ لأن لذته أعظم مما هم فيه من النعيم.

وربهم من فوقهم يسلم عليهم، فينظر إليهم وينظرون إليه، وهو مستوٍ على عرشه الذي هو سقف الفردوس، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم.

فالنفوس الزكية العلية تعبد الله لأنه أهل أن يُعبد ويُجل، ويُّحَب ويُعظَّم، ويُّحمد ويوقر، فهو لذاته مستحق للعبادة.

ولا ينبغي للعبد أن يكون كأجير السوء إن أعطي أجرةً عَمِل، وإن لم يعط لم يعمل، فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة.

فالعارفون عملهم على المنزلة والدرجة، والعمال عملهم على الثواب والأجرة، وشتان ما بينهما.

وليس المراد عيب سؤال الله الجنة، فالعبد محتاج لذلك، وإنما العيب أن يكون مبلغ العلم ومنتهي الإرادة والطلب هو الجنة المخلوقة، والغفلة والغَيْبَة عن حقيقة التعبد والتأله للملك الحق.

(1) أخرجه مسلم برقم (2835).

ص: 3423

وحتى لا يكون التعبد فقط لإحسان الله إلى عبده سواء في الدنيا أو الآخرة، بل يكون لذات المعبود سبحانه.

والله سبحانه يطلع على قلوب العباد، فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83].

وكل من عرف الله تعالى طابت له الحياة، وصفا له العيش، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق، وأنس بالله، وقرَّت عينه بالله، وقرَّت به كل عين، وقرت عينه بالموت.

ومن عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه، وأحبه على قدر معرفته به وخافه ورجاه ولهج بذكره، واشتاق إليه، واستحيا منه، وأجلَّه وعظمه على قدر معرفته به.

ومن أحب الدنيا حتى صارت أكبر همه فليوطن نفسه على تحمل المصائب.

ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث:

هم لازم .. وتعب دائم .. وحسرة لا تنقطع ..

ذلك أن محب الدنيا لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، فلو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثاً.

ومحب الدنيا كشارب الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد سكراً.

وأسعد الناس في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمان والتقوى، والإحسان والإخلاص، الذين لا يفعلون شيئاً إلا ابتغاء وجه ربهم الأعلى، لا يريدون سواه كما قال سبحانه:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 17 - 21].

وهؤلاء هم الأنبياء ومن سار على هديهم.

وصاحب التقوى لا ينبغي له أن يتحمل من الخلق ونعمهم ومننهم، وإن حمل منهم شيئاً بادر إلى جزائهم عليه؛ لئلا يبقى لأحد من الخلق عليه نعمة تُجزى، ليكون عمله كله لله وحده، لا يفعل ما يفعله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وحده لا

ص: 3424

شريك له.

أما من تطوِّقه نِعَم المخلوقين ومننهم، فإنه مضطر إلى أن يفعل لأجلهم، ويترك لأجلهم.

وكل ذي نعمة يمكن جزاء نعمته إلا نعمة الإسلام، فإنها لا يمكن المنعم بها عليه أن يجزي بها من دعاه إليها.

فلهذا من كمال الإخلاص أن لا يجعل العبد عليه مِنَّة لأحد من الناس، لتكون معاملته كلها لله ابتغاءه وجهه، وطلب مرضاته وحده.

وهذا الذي وعده الله برضاه بقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 21].

وإنما يتم ذلك بطاعة الله ورسوله كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70].

ص: 3425